عادل الجبوري
انطلقت خلال الايام القلائل الماضية من العاصمة العراقية بغداد ومدن اخرى، رسائل سياسية واضحة وقوية، برفض التدخل الاميركي في الشأن العراقي، او بتعبير اخر، رفض تحركات المبعوث الاميركي بريت ماكورك، الهادفة الى فرض الرؤية الاميركية على القوى السياسية العراقية المختلفة في تشكيل الحكومة الجديدة، ابتداء من اختيار رئيس الوزراء، مرورا بأختيار رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، وصولا الى اختيار اعضاء الكابينة الوزارية، وخصوصا ما يتعلق منها بالوزارات السيادية الخمس(الدفاع والداخلية والخارجية والنفط والمالية).
وجاءت رسائل الرفض العراقية، بصيغة تظاهرات جماهيرية في اكثر من مكان، وبمشاركة مئات المواطنين من اتجاهات ومشارب سياسية وثقافية واجتماعية متعددة، وبصيغة تصريحات وبيانات لشخصيات وقوى سياسية من شتى عناوين الطيف السياسي العراقي، والاف المقالات والاخبار والتقارير والتعليقات في وكالات الانباء ومواقع التواصل الاجتماعي، وبصيغة تسريبات عن جوانب من بعض مجريات لقاءات ماكورك مع عدد من الساسة العراقيين، وكذلك لقاءات السفير دوغلاس سيليمان، والقنصل في اربيل جيمس ستيفن.
وطبيعي ان تكون مساحات الرفض العراقية للتدخل الاميركي كبيرة وواسعة، ارتباطا بتجربة مريرة ومؤلمة مّر بها العراق بسبب الولايات المتحدة الاميركية، امتدت جذورها الى عدة عقود من الزمن، سبقت فصل الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، لتبدأ مرحلة جديدة من التدمير والتخريب المعنوي والمادي للعراق على ايدي الاميركان، خلّفت الاف الضحايا من القتلى والجرحى والمشردين والمهجرين والنازحين، والحقت اضرارا هائلة بالبنى التحتية والمنشات الحيوية، جعلت العراق يبدو وكأنه يعيش في العصور المظلمة، وبدا كل ذلك التدمير والتخريب بعد التاسع من نيسان-ابريل 2003، استكمالا لفصول التدمير والتخريب على يد نظام صدام قبل ذلك التأريخ.
ولم تكن العملية السياسية بمختلف مراحل ومحطاتها ومنعطفاتها بمنأى عن التأثير الاميركي السلبي، حتى بات معظم العراقيين يشعرون بالاشمئزاز حينما يسمعون اسماء من قبيل، زلماي خليل زاد، وجاي غارنر، وبول بريمر، ورايان كروكر، ودوغلاس سيليمان، وبريت ماكورك، واخرين غيرهم ممن كانوا رسل البيت الابيض الى العراق.
ومن المستبعد جدا ان يتوقع او ينتظر أي عراقي خيرا وهو يسمع عن تحركات ماكورك، لانه –أي العراقي-يدرك ان الادارة الاميركية الحالية والادارات السابقة واللاحقة، لا-ولن-تفكر بمساعدة العراق على حل مشاكله السياسية والامنية والاقتصادية، بقدر ما تسعى جاهدة الى تأمين مصالحها ومصالح حلفائها واتباعها، ومحاصرة خصومها واعدائها، وهي تتوسل بكل الادوات، وتلجأ الى كل الاساليب، وتستغل مختلف الظروف، للوصول الى مبتغاها، ولعل اهم واخطر ما تحاول فعله، هو احداث الفرقة والاختلاف بين القوى والشخصيات العراقية المختلفة، ومنعها من التوافق والتفاهم على اطار وطني موحد وجامع.
ولايعتقد احدا ان ماكورك، الذي جال على اغلب الزعماء السياسيين العراقيين خلال الاسبوع الماضي في بغداد واربيل والسليمانية، يريد تقريب وجهات النظر وتذويب الخلافات بينهم، بقدر ما يسعى الى استقطاب البعض وابعاد البعض الاخر، يعني بعبارة اخرى، العمل وفق المبدأ الاستعماري البريطاني المعروف (فرّق تسد divide and rule).
والى الان تقول الوقائع والمعطيات انه فشل فشلا ذريعا، رغم انه استخدم لغة التهديد مع البعض من الزعماء والساسة لثنيهم عن الذهاب بعيدا عن الرؤية الاميركية.
ولانه سمع ردود حادة وصريحة وقاسية من البعض، فأنه راح في تغريدات له على مواقع التواصل الاجتماعي، يقلب الحقائق ويكذّب الوقائع، للتخفيف من وقع التسريبات التي تداولتها وسائل الاعلام عن جانب من مجرات لقاءاته في بغداد واربيل، التي شهد بعضها مشادات كلامية حادة، بسبب تهديدات ماكورك!، التي بدت وكأنها عملية لي اذرع وفرض ارادات، وهو الاسلوب الذي درجت عليه واشنطن في التعاطي مع الاخرين، اصدقائها وخصومها على حد سواء، وهذا الاسلوب وان بدا ناجعا وفاعلا في لحظته الانية، الا انه بعد برهة من الزمن يتبين عقمه وفشله.
فواشنطن التي كانت تقول ان القضاء على تنظيم داعش في العراق سوف يستغرق ثلاثين عاما، وقفت مذهولة وعاجزة عن فعل شيء، حينما حقق العراقيون الانتصار الكبير على ذلك التنظيم الارهابي في غضون ثلاثة اعوام وثلاثة شهور (10 حزيران/يونيو 2014-9 تشرين الاول/اكتوبر 2017).
وواشنطن التي فعلت كل ما بوسعها لاقصاء وتهميش وابعاد قوى وشخصيات سياسية معينة عن المسرح السياسي خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة، اكتشفت انها عاجزة عن تحقيق النجاح في هذا الامر، لذلك راحت تفكر بطرق ووسائل اخرى علّها تنجح وتكسب.
واغلب الظن، ان بريت ماكورك لايمتلك قدرات وادوات واوراق ضغط ومساومة، لم يكن يمتلكها زملائه السابقون الذين خاضوا نفس الادوار وتصدوا لذات المهام.
ولاشك ان الايام القلائل المقبلة ستكشف وتثبت ان بريت ماكورك ومن معه كانوا كمن يحرث في البحر، او يجمع المياه في قربة مثقوبة!.
https://telegram.me/buratha