عادل الجبوري
ينطوي الحديث عن الظروف التي احاطت بتأسيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي قبل سبعة وثلاثين عاما على صعوبات جمة ، ترتبط بطبيعة تلك الظروف والتحديات الكبرى التي كانت تواجه مختلف مكونات المعارضة العراقية، والاسلامية منها على وجه الخصوص والتحديد.
ولايمكن اليوم ونحن نعيش اجواء الذكرى السنوية السابعة والثلاثين لتأسيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي، ان نخوض بمرحلة التأسيس وكأنها مرحلة زمنية منفصلة عن المراحل اللاحقة لها، اذ ان تأسيس وايجاد المجلس الاعلى ككيان سياسي وعقائدي املته استحقاقات وضرورات ملحة يمكن ان نشير الى بعض منها على سبيل الايجاز:
اولا: طبيعة النظام السياسي الذي كان حاكما في العراق ونزعته العدوانية ضد مختلف ابناء الشعب العراقي، التي برزت بدرجة اكبر بعد تنحية احمد حسن البكر واستيلاء صدام حسين على السلطة صيف عام 1979، حيث اظهر ذلك الاخير عداء لاحدود له للتوجهات الاسلامية بأطارها السياسي والثقافي والفكري والعقائدي، وكان على استعداد للقيام بأي عمل من اجل تذويب وتغييب الحالة الاسلامية في العراق، وحملات الاعتقال والتصفيات الجسدية للكوادر الرسالية والحركية الفاعلة والمتحركة في الحوزات العلمية والمؤسسات الاكاديمية وفي مجمل مفاصل الحراك الاجتماعي العام، كان ابلغ دليل على طبيعة توجه ذلك النظام، مضافا الى ذلك الحرب التي شنها على الجمهورية الاسلامية الايرانية بعد عام من استحواذه على السلطة، وبعد عام ونصف من انتصار الثورة الاسلامية بزعامة الامام الخميني والاطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي.
ثانيا:الفراغ الذي احدثته السياسات القمعية الدموية للنظام الحاكم خلال النصف الثاني من عقد السبعينات، ارتباطا بأحداث ووقائع كبرى من قبيل انتفاضة صفر في عام 1977 ، وانتفاضة رجب في عام 1979، ومن ثم استشهاد اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر واخته العلوية الفاضلة بنت الهدى، وبالتالي اضطرار الكثير من الكوادر الحركية ومن مختلف المستويات الى مغادرة البلاد الى بلدان عديدة من بينها الجمهورية الاسلامية الايرانية والجمهورية العربية السورية، فضلا عن دول اوربية.
وفي ذلك السياق تشير بعض ادبيات المجلس الاعلى الى "ان استشهاد المرجع الديني ومفجر الوعي الاسلامي في العراق, وقائد التحرك الميداني ضد دكتاتورية السلطة والحزب العفلقي الفاشي, الامام السيد محمد باقر الصدر "قدس سره" في نيسان عام 1980م، قد ترك فراغا كبيرا في قيادة الحركة الميدانية والسياسية للساحة الاسلامية العراقية, من هنا كان ينبغي التحرك بسرعة لملء الفراغ الذي ازداد الاحساس به بسبب تطورات الاحداث, وتصاعد وتيرة التصفيات لرموز التحرك الاسلامي من علماء دين ومثقفين رساليين ومجاهدين مخلصين, واشتداد هجمة النظام لتصفية بؤر المعارضة, وتوالي التداعيات الاخرى التي ادت الى توتر الاوضاع السياسية الداخلية والاقليمية, حيث كان ذلك احد اسباب نشوب الحرب التي فرضها صدام على الجمهورية الاسلامية الايرانية بأمر من اسياده، وانطلاقا من نزعته العدوانية ومن منهجه في نقل مشكلاته الداخلية الى الخارج".
ثالثا:الحاجة الى تنظيم وتعبئة واستثمار الوجود العراقي في المهجر الذي اخذ يتسع ويتنامي يوما بعد اخر في عقد الثمانينات، من اجل ان يكون ذلك الوجود فاعلا ومؤثرا ومساهما حقيقيا في مواجهة الظلم والاستبداد الصدامي، وفي المحافظة على الكيان الاسلامي من الضياع والتذويب، وكذلك المحافظة على الهوية الوطنية بأطارها العام الجامع والشامل.
ولاشك ان المجلس الاعلى نجح الى حد كبير في تحقيق جملة من الاهداف المرحلية والاستراتيجية التي وضعها نصب عينيه، ومنها بناء القاعدة الجماهيرية الواعية والمؤمنة والمستعدة لتقديم التضحيات، وتقوية الاندكاك بالمرجعية الدينية، وتكريس الهوية الاسلامية والوطنية للشعب العراقي، وتعزيز اللحمة الوطنية بين مختلف المكونات السياسية والاجتماعية العراقية، ونقل وابراز صورة الواقع العراقي في ظل نظام القمع والاستبداد الى شتى المحافل العربية والاسلامية والدولية.
وكان لشهيد المحراب اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره الشريف) دور ومحوري ومؤثر في عملية التأسيس، وفي رسم السياسات، وتحديد الاولويات، وصياغة الرؤى والمنهجيات السياسية والفكرية والثقافية المطلوبة.
ولان المنطلقات كانت صحيحة، والنوايا صادقة، والرؤى والاهداف واضحة، فأنه كان من الطبيعي جدا ان يصبح المجلس الاعلى بعد سنين قلائل رقما صعبا ومؤثرا وفاعلا، ليس على الصعيد الوطني فحسب، وانما في ساحات وميادين خارجية عديدة.
وبالرغم من الدعم والاسناد الدولي والاقليمي الواسع الذي كان يحظى به نظام صدام في عقد الثمانينات، الا ان قيادة المجلس الاعلى نجحت ايما نجاح في نقل القضية العراقية الى كل المحافل والميادين، وكسرت بذلك طوق العزلة والتعتيم الاعلامي والسياسي عن كثير من جرائم نظام صدام ضد الشعب العراقي.
ولعل ما ميز المجلس الاعلى عن سواه من القوى والتيارات السياسية العراقية، هو انه مثل مظلة لشتى العناوين والاتجاهات السياسية والقومية والمذهبية والمناطقية، وانه اتخذ طابعا شموليا متعدد الجوانب والابعاد ولم يركز ويهتم بجانب واحد فقط ويهمل الجوانب والابعاد الاخرى، فالى جانب العمل والتحرك السياسي المتواصل، كان الجانب العسكري-الجهادي عنصرا حاضرا وفاعلا بقوة، وكان له اثرا كبيرا وحاسما في كثير من المنعطفات والمحطات في تغيير موازين القوى. وكذلك فأن الجانب الثقافي-الفكري هو الاخر كان حاضرا عبر مؤسسات مختلفة اضطلعت بأدوار مهمة في نشر الوعي العام، وتكريس البعد العقائدي، الذي كان ومايزال يمثل ركيزة اساسية في ادبيات المجلس الاعلى-وتيار شهيد المحراب على وجه العموم-وفي منهجياته ومواقفه وتوجهاته، ولم يكن الجانب الاجتماعي-الانساني ليحظى بأهتمام اقل من الجوانب الاخرى، بل ربما كان الاهتمام به يفوق ما سواه في بعض –او كثير من-الاحيان، لاعتبارات عديدة ترتبط اساسا بشمولية وسعة الاهداف والمتبنيات وعمق الثوابت ورصانتها، والمستمدة من المنهج الاسلامي الذي ارسى اسسه وثبته ركائزه اهل البيت عليهم السلام، ومن بعدهم المرجعيات الدينية والحوزات العلمية.
وهناك عناوين واسماء اصبح لها صدى وحضورا واثرا كبيرا ومهما، مثل منظمة بدر والمركز الوثائقي لحقوق الانسان، ومؤسسة الشهيد الصدر للاغاثة الانسانية، ومؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الاسلامي، ومركز ال الحكيم للابحاث والدراسات السياسية، ومجمع الكوادر الاسلامية، ومركز دراسات تأريخ العراق الحديث، وغيرها، وذلك يعني فيما يعنيه صحة المنهج، ورصانة الاسس، ووضوح الاهداف.
وانطلاقا من ذلك ايضا فأنه رغم الكثير من الاحداث والتحولات والمنعطفات الخطيرة، تمكن المجلس الاعلى من المحافظة على خط سيره في اطار جملة من الثوابت والمباديء الوطنية والاسلامية والاجتماعية والثقافية، تجلت في عقد التسعينات بدرجة اكبر، لتترجم بعد الاطاحة بنظام صدام قبل خمسة عشر عاما الى مصاديق عملية على ارض الواقع، اذ ان مرحلة السلطة –او المشاركة في السلطة وادارة شؤون الدولة والمجتمع-اختلفت اختلافا ربما كان جذريا عن مرحلة المعارضة، وهذا امر طبيعي، ولعل الاولى مثلت ميدانا ومحكا للتطبيق العملي لكثير من الشعارات والافكار والرؤى والتصورات المطروحة في مرحلة المعارضة.
والمراقب الموضوعي والمنصف لكلا المرحلتين يجد ان المجلس الاعلى الاسلامي العراقي حافظ على نهجه وثوابته ومتبنياته، ومنها الموقع القيادي للمرجعية الدينية، والوحدة الوطنية، واهمية التعايش السلمي بين كافة مكونات الشعب العراقي، وضرورة ان يكون العراقيون هم من يديرون شؤون بلدهم، وضمان حقوق الاقليات، واقامة نظام سياسي يستند على دستور دائم يحظى بموافقة كافة العراقيين.
هذه الامور وغيرها نجدها في كل ادبيات المجلس الاعلى في مرحلة المعارضة، ونجد مصاديقها العملية بعد التاسع من نيسان 2003، ولاشك ان الارث والتراث الفكري والسياسي القيم لشهيد المحراب (قدس سره) يزخر ببحث ومناقشة مجمل القضايا بعمق وتفصيل واسهاب.
هذه الاطلالة السريعة والاجمالية على مسيرة مايقارب اربعة عقود من الزمن لمسيرة المجلس الاعلى الاسلامي العراقي، يمكن ان تبلور فهما وتصورا مفاده ان حلقة الوصل بين نقطة الانطلاق الاولى والنقطة التي يقف عندها اليوم المجلس الاعلى لم تنقطع، وان اسس ومرتكزات التأسيس السليمة ادت الى تشييد بناء مؤسساتي متكامل في اطاره العام من مختلف الجوانب والابعاد، وقادر على المحافظة على الثوابت وفي ذات الوقت قادر على التكيف والتأقلم مع مختلف الظروف والاوضاع، بما يعزز المهام والادوار والمواقف والتوجهات، وان هناك قدرة ومرونة على تصحيح الاخطاء، ومعالجة السلبيات، وتقويم المسارات.
https://telegram.me/buratha