حسين سمّور
قبل أيّام احتفل العالم بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى. الإحتفالات استضافتها العاصمة الفرنسية باريس، مدينة الأنوار التي تريد استعادة دورها على المستوى العالمي. ودعوة عدد كبير من رؤساء العالم للوقوف على مقربة من قوس النصر والإستماع لكلمة الرئيس يحمل في طياته بعض الرسائل، للشرق والغرب.
منذ وصوله إلى قصر الإيليزيه، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى استعادة دور فرنسا على مستوى الإتحاد الأوروبي، وحتى العالمي. شكّل الرئيس الفرنسي حلفاً مع المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل بوجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وطموحاته في القارة العجوز، التي أرادها منصة لمواجهة روسيا. نجح ماكرون في بعض النقاط وخسر بعضها، ولكن الخسارات بالتأكيد أكثر من النجاحات، أقلّه حتى الساعة.
ما لم يتنبه له كثيرون، أن وصول ماكرون لمنصب الرئيس في فرنسا، حصل بسبب ضيق الخيارات، أو بالأحرى كان خيار الضرورة. على الرغم من موجات الهجرة المتنامية إلى أوروبا، وارتفاع نسب الخوف من المهاجرين نتيجة الحروب المتنقلة والهجمات الارهابية، بقي المجتمع الفرنسي متنبهاً لخطورة وصول اليمين المتطرف المتمثل بالجبهة الوطنية وزعيمتها مارين لوبن إلى الحكم.
وفي الوقت ذاته عَجْز اليسار الراديكالي، الذي مثّله جان لوك ميلانشون عن تقديم رؤية متكاملة للحكم، فيما كان الإحباط ظاهراً من فرانسوا أولاند ويسار الوسط، وبالتالي وقع الإختيار على ماكرون.
ولكن وبعد مرور حوالي سنة ونصف على وصول ماكرون إلى الإيليزيه بدأت تتكشف الكثير من الأمور. يوصف الرئيس الفرنسي اليوم بـ”الأوليغارشي” أو الرئيس الذي يحمي مصالح الأغنياء وأصحاب النفوذ في فرنسا، وهي الطبقة التي دعمته وأتت به إلى رئاسة الجمهورية.
فرض ماكرون وحكومته رسوما إضافية على المحروقات، تحت عناوين بيئية، فكانت هذه الخطوة التي اشعلت فتيل الإحتجاجات في فرنسا، والتي لا تزال مستمرة منذ أكثر من أسبوع. رفع اسعار المحروقات خلق موجة غضب واسعة، فتأسست حركة ما بات يعرف بـ”السترات الصفراء” وهي السترات التي يرتديها العمال في مختلف دول العالم، وفي ذلك إشارة إلى أن الحركة هي محض عمّالية وشعبيّة، وليس هناك علاقة لأي جهة بها. خرجت النقابات والعمال واصحاب الدخل المحدود إلى الشوارع اعتراضاً على سياسة ماكرون الإقتصاديّة، وهو ما خلق حالاً من الفوضى في مختلف المدن والمحافظات الفرنسيّة.
بالعودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى ستينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة، تعود الفرنسيّون على ما يعرف بـ”دولة الرعاية”. ففرنسا معروفة في الإتحاد الأوروبيّ، بأنّها من أكثر الدول التي تؤمن مساعدات إجتماعيّة لشعبها، خاصة العاطلين عن العمل وأصحاب الدخل المحدود. ولكن بنظرة هادئة إلى الأمور، يدرك الفرد أن الخيار الأوروبية نحو التقديمات الإجتماعيّة، كان ـ ولو من تحت الطاولة ـ ردّاً على الدولة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي، والتي كانت تقدم الخدمات والرعاية لمواطنيها، وبالتالي إعطاء صورة الإنفتاح، والرعاية في الوقت ذاته، وتحديداً في دول أوروبا الغربيّة. اليوم وصل ماكرون وبدأ بتطبيق خططه الإقتصادية التي تأخذ من الفقراء لتعطي الأغنياء،
كما أن عصا الأمن باتت أقوى على المتظاهرين في الشوارع. المتظاهرون يتعرضّون للضرب من قبل القوى الأمنية، كما أن هامش الحريّة يضيق في المناطق البعيدة عن فرنسا، والتي هي مستعمرات سابقة وضعت السلطات الفرنسية يدها عليها. الشعب في فرنسا وخاصة الشباب الذين نشؤوا على فكرة دولة الرعاية، والمساعدات الإجتماعية والدولة التي تقف إلى جانبهم، لن يتقبلوا فكرة قانون عمل جديد، وضرائب تضاعف الأعباء، وتضعهم تحت رحمة مؤسسات إحتكاريّة كبيرة، من دون اي مساعدة من الدولة. وبنظر هؤلاء فإن هذه الإجراءات إذا تمت الموافقة عليها، ستتبعها إجراءات اخرى ربما تكون تخفيض أو الغاء الرعاية الصحية، وبعدها التعليم، وبالتالي تتدحرج الأمور إلى الاسوأ.
كرة الإحتجاجات وبحسب الصحافة الفرنسية آخذة بالإتساع، حتى التراجع عن القرارت، والسير باتجاه إصلاحات إقتصادية تراعي اصحاب الدخل المحدود. وفي هذا الإطار تنقسم فرنسا اليوم إلى وجهتي نظر الأولى تقول أن الحكومة الفرنسية لن تتراجع عن قراراتها بشأن رفع أسعار المحروقات وبعض المواد الأوليّة، وتزيد هذه المصادر عن أنّ هذه الإجراءات سوف تتبعها إجراءات جديدة متعلّقة بالمهاجرين، او بغير الفرنسيين حتى من الذين يمتلكون أوراق لإقامة قانونية في فرنسا. فمن المتوقع ان ترتفع رسوم التسجيل الجامعي للطلاب الاجانب في فرنسا، كما أسعار السكن لغير الفرنسيين، وحتى بعض الوظائف، وهذا من وجهة نظر هؤلاء سيؤدي مع الوقت إلى صعود اليمين المتطرف أكثر فأكثر، وحجز مكان وازن في الحياة السياسية، كان قد افتقدها على مدى السنوات. وأصحاب هذه النظرية يقولون ان الدولة تعمل على وضع الفرنسيين بوجه المهاجرين أو اللاجئين وغير الفرنسيين، عبر التصوير أن هؤلاء يأخذون كل شيء من الدولة من دون ان يقدموا اي شيء، ولكن مع الوقت ستخسر الحكومة الجديدة خطها، ومن سينجح ويستفيد هو اليمين المتطرّف.
أما وجهة النظر الأخرى فهي ترتكز على الإرث الثقافي والإجتماعي والسياسي للشعب الفرنسي، والذي بحسب هؤلاء لن يسمح لماكرون وتياره بسحق الطبقات الفقيرة لصالح الاغنياء، وبالتالي فإنّ تغيّراً سيحصل، يعيد الأمور إلى مرحلة الوسط.
تتسع رقعة الإحتجاجات، وتضيق الخيارات على ماكرون وفريقه، ويبقى رهان البعض على عدم ملل الشارع والرضوخ للقرارات والضرائب، وإلّا سيكون هذا مقدمة للمزيد من التضييق على الطبقات الفقيرة. نجح ماكرون نسبياً في لعبة الدبلوماسية ومد الأذرع داخل وخارج الإتحاد الأوروبي، ولكنه فشل بشكل كبير وواضح في اللعبة الداخلية، وعند أول امتحان ظهرت سياساته المنحازة، لمن دعمه للوصول إلى كرسي الرئاسة. الأكيد أن الأمور ستأخذ بعض الوقت لكي تتضح الصورة، ولكن من يرى تطورات المانيا وصعود اليمين المتطرف على وقع الإحتجاجات ضد اللاجئين والمهاجرين، مع عزوف انجيلا ميركل عن الترشح لولاية جديدة، يدرك ان فرنسا كونها الدولة الثانية في الإتحاد تتجه اليوم نحو مرحلة ضبابية، بدأت آثارها تبدأ في الداخل، وربما ستكون نتائجها كبيرة في المستقبل، سواء على المستوى المحلي، أو على مستوى الإتحاد. حتى الآن اليمين المتطرف يبدو الأكثر استفادة في ظل ضياع اليسار، وعدم تشكيله حلفا موحداً لكي يقود الشارع والحركات المطلبية.
المصدر: خاص موقع المنار
https://telegram.me/buratha