علي عبد سلمان
“و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا.”
لعل الفساد واحد من أكثر الظواهر إنتشارا و لا يكاد يخلو مجتمع منه. ولكن ما يفرق بين الدول والمجتمعات أمام هذه الظاهرة يتعلق بدرجة تغلغلها ومستوى إتساعها. فالفساد كظاهرة عامة يبرز بصفة عرضية من خلال حالات متفرقة مستهجنة أخلاقيا وقانونيا يجرمها القانون ويترصدها القضاء. ولكننا نجد أن الفساد يمكن أن يستشري في مجتمع من المجتمعات ليتحول إلى ظاهرة شاملة تفرض قواعدها عليه لتتحول إلى ما يشبه الأعراف المقبولة والممارسات الدارجة في المعاملات تنافس القنوات المشروعة والمنظمة وفي مختلف مجالات الحياة تحت نظر أعوان السلطة وخارج طائلة القانون. ومن الطبيعي أنه لا يمكن للفساد بلوغ هذا المستوى دون أن تكون له روابط وثيقة تسنده في أعلى مستوى السلطة تسمح له باختراق مختلف أجهزتها المكلفة بالسهر على سلامة وشفافية الأعمال ونفاذ القوانين وحياد الأحكام. لذلك تختلف طبيعة ظاهرة الفساد جذريا بحسب المستوى الذي بلغته، بين الظاهرة العادية وحالة الفساد السياسي.
وإذا كان تعريف الفساد بوجه عام موضوع تهتم به القوانين والتشريعات التي تحضر وتحدد مختلف أشكاله وجرائمه، فإن الفساد السياسي يحتل في عالم اليوم مركز إهتمام ومحور أبحاث العلوم السياسية الحديثة لما يشكله من خطر على استتباب الأوضاع الداخلية لما يقترن به عادة من الإستبداد والتعسف في غصب السلطة من ناحية والدولية بشكل عام من خلال تركيبته القائمة على الجريمة المنظمة العابرة للحدود أو من خلال مجالاته المهددة لسلامة المجتمعات واستقرار الإقتصاد الدولي مثل تجارة المخدرات وتهريب السلع المقلدة وتبييض الأموال.
ويتجلى خطر الفساد السياسي في العلاقات العادية المنظمة لحياة الأفراد من خلال ما يمارسه المأمورون التابعون للسلطة وأعوانها من إبتزاز مقابل ما يؤدونه من خدمات للمواطنين في نطاق وضائفهم. ويدخل في هذا السياق فساد الإدارة وفساد القضاء وفساد الشرطة وأجهزة الأمن. ومن جهة أخرى بما يحيط به أصحاب السلطة والمقربون منهم أنفسهم من هالة الوجاهة والإمتيازات بما يجعل منهم طبقة فوق مستوى الناس العاديين لا يطالها القانون ولا تشعر بأدنى إلتزام بأحكامه ويجعل أصحابها في وضع يفتح أمامهم تجارة النفوذ والتوسط والرشاوي والغصب والإستيلاء وإطلاق أيديهم في المال العام بحيث يتجلى الفساد من خلال إزدهار التهريب وظهور التجارة الموازية والبضائع المزورة و المقلدة وتجارة الممنوعات والتي غالبا ما تستند إلى شبكات الجريمة المنظمة.
ويقود عدم تدارك الوضع بسياسات صارمة لتطهير أجهزة السلطة من البطانة التي تتشكل حول رأسها إلى تحول القواعد الطبيعية لعمل هذه الأجهزة إلى سلوك عام قائم على الفساد يشرع الرشوة والمحسوبية والوجاهة بحيث تتحول مؤسسات الدولة إلى أجهزة في خدمة مصالح أصحاب النفوذ والوضائف العامة ومطية للتكسب عن طريق العمولات والرشاوي على حساب الفئات الأكثر هشاشة والتي عادة ما تكون أيضا الأكثر عددا وفقرا إضافة إلى تحول إهتمامات الدولة عن مصالح عامة الشعب إلى خدمة ما حقق مزيدا من الثراء لخاصتها.
وهذا الثراء الفاحش المتأتي من الفساد لا تلبث أن تظهر علاماته على المستفيدين منه سواءا في مستوى ترف العيش الذي يظهرونه أو بالأخص في مستوى حجم الثروة التي لا يلبث ان يتضح أنهم يملكونها أو من خلال إستثماراتهم عند محاولتهم التحول لرجال أعمال لتبييض الأموال غير المشروعة التي كسبوها من خلال إستثمارها في السيطرة على البنوك والقطاعات الأكثر ربحية في الإقتصاد من جهة وفي تدعيم قاعدتهم السياسية تحسبا لحماية مراكزهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية على المدى البعيد.
وهكذا نجد أن الفساد في هذا المستوى يعود بالأساس إلى طبيعة السلطة نفسها وغياب المراقبة واستحالة المحاسبة عما يقترفه الماسكون بها من تجاوزات في خدمة مصالحهم الخاصة والإثراء الفاحش والسريع والذي يطرأ عليهم وعلى المقربين منهم والذي لا يجد تبريرا منطقيا له سوى في ما توفر لهم من نفوذ بفعل السلطة الماسكين بها. وهو ما نعني به الفساد السياسي والذي لا يمثل إستشرائه داخل المجتمع سوى انعكاس لفساد الحكم نفسه
لذلك برزت في السنوات الأخيرة بوادر تشكل مقاربة جديدة في تناول مسألة الفساد السياسي عن طريق تطوير ترسانة من القوانين الدولية لمقاومة الفساد السياسي وتركيز قواعد مشتركة للمعايير الدولية المتعلقة بتحديد مفاهيم الفساد السياسي وآليات الكشف عليه ومقاومته داخليا ودوليا وذلك تحت إشراف الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية المعنية بالنزاهة والشفافية.
ويقدر البنك الدولي حصيلة الفساد من الرشاوي المدفوعة للشخصيات السياسية في تقريره الصادر سنة 2004 بأكثر من ترليون دولار سنويا كما يتعتبر الآفة الثالة من حيث الأهمية التي تعاني منها الشعوب الإفريقية بعد الفقر والبطالة. ولكن الإجماع الحاصل حول خطورة الوضع وأولويته لا يقابله نفس الإجماع من حيث المقاربة النظرية لمواجهته.
وتتنازع الرأي الغالب في هذا المجال نظريتين أساسيتين؛ الأولى نظرية دعم المؤسسات وتلح على التركيز على المؤسسات باعتبارها تمثل نقطة ضعف الأنظمة المخترقة بالفساد السياسي مما يجعل السلطة تمارس في هذه النظم وفق هياكل وقواعد غير واضحة المعالم تتيح لأصحاب القرار السياسي مجالا واسعا من الحرية في تحديد خياراتهم في الصفقات المالية بحيث تصبح الرشاوي أهم حافز لهم في تحديد القرار. لذلك تبحث هذه النظرية على التركيز على دعم المؤسسات و تفعيل دورها لتشكل درعا في مواجهة الفساد وتسد منافذه.
أما النظرية الثانية فتعتبر أن تغول السلطة المخترقة بالفساد السياسي يشكل حافزا للفساد بحيث يتصرف المسؤولين الرسميين بشكل منطقي و لكن بمنطق ربحي لأنهم لا يميزون في قرارة أنفسهم بين أموالهم الخاصة والأموال العامة وفي غياب إي مراقبة أو سلطة مضاده فإنهم يوجهون كامل النضام في الإتجاه الذي من شأنه أن يخدم أكثر مصالحهم الخاصة. لذلك نجد أصحاب القرار يتلاعبون بخطط السياسة الإقتصادية لتوجيهها نحو المجالات التي من شأنها أن تجلب لهم أكثر ربح مالي و تكون أكثر مردودية. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة التي يهيمن عليها الفساد السياسي بحاجة إلى إعادة هيكلة بالكامل بمعنى تغيير كامل للنظام لإصلاحها و تركيز آليات مكافحة الفساد السياسي داخلها.
ورغم التباين في منهج المعالجة تتفق النظريتان في تشخيص الفساد باعتباره سياسيا بالأساس وقائم على إشتراك الموظفين العموميين والقادة السياسيين في استغلال النظام لمآرب شخصية بسبب غياب سلط مضادة تدعمها مؤسسات حقيقية.
ومن البديهي أن لا تسعى الدول التي لا تقوم السلطة فيها على قواعد الحكم الرشيد وسلطة القانون إلى تطوير تشريعاتها المتعلقة بمقاومة الفساد أو ترقية عمل مؤسساتها على قواعد الشفافية وتدعيم إستقلالية وسلطة القضاء فيها وفتح مشاركة المجتمع المدنى في مراقبة تصرف مسؤوليها عن طريق توسيع حرية الصحافة والتعبير.
إن هذا الجانب النظري لقضية الفساد السياسي يحيلنا مباشرة على العقدة التي يتوقف عليها حل كامل المشكلة وترتهن أي إستراتيجية لمقاومة الفساد. ذلك أن الإستراتيجية الإجرامية في مقاومة الفساد وتبييض الأموال المترتبة عنه تقتضي وجود إرادة سياسية لوضعها وتطبيقها وإذا كان الإطار السياسي نفسه متورط في الفساد فإنه يصبح من السذاجة إنتظار وضع أو تنفيذ هذه السياسة منه.
كما أنه لن يتسنى قياس مستوى الفساد من خلال المعطيات التي تقدمها الحكومات. ذلك إن الفساد عندما يستولي على السلطة تصبح هذه الأخيرة لا تسعى إلى كشف حقيقة الفساد بل إلى التعتيم عليه وإخفاء حقيقته وفي أقصى الحالات إلى تبريره. لذلك يبقى المرجع الحقيقى لقياس درجة الفساد السياسي في أي دولة أو مجتمع من المجتمعات في ما تعتمده هذه الدولة من تشريعات وتراتيب للتصدي لظاهرة الفساد بين القائمين بالسلطة فيها وفي مستوى الحرص والشفافية في التقيد بهذه الإجراءات وتنفيذها.
و تقوم هذه الإجراءات عادة على:
- إعتماد التصريح عن الممتلكات والدخل لدى المسؤولين الرسميين عند تولي المسؤولية وعند مغادرتها وبصفة دورية بينهما كل سنة أو سنتين و تركيز هيئة لها من الإستقلالية والنفوذ ما يتيح لها مراقبة صحة التصاريح والتثبت في شرعية الموارد والممتلكات المصرح بها وتتبع المخالفين ومن تحوم شبهة الفساد حول مصادر ممتلكاتهم ودخلهم. ونجد أن بعض الدول تحمل صراحة المسؤولين الرسميين عبء الإثبات بأن مداخيلهم وممتلكاتهم متأّتية من مصدر شرعي.و كذلك مدى شمول هذه التصاريح لأفراد عائلة المصرح وأقاربه المباشرين.
- إعتماد المعايير الدولية في مراقبة المعاملات المالية الحاصلة من طرف ” الشخصيات السياسية الأكثر تعرضا” وهم حسب تعريف مجموعة العمل المالي “الأشخاص الموكلة إليهم أو الذين أوكلت إليهم مهام عامة بارزة، كرؤساء الدول أو الحكومات، والسياسيين رفيعي المستوى، والمسئولين الحكوميين رفيعي المستوى والمسئولين القضائيين والعسكريين، وكبار الموظفين التنفيذيين في الشركات المملوكة للدولة، ومسئولي الأحزاب السياسية الهامين. وتنطوي علاقات العمل مع أعضاء عائلات هؤلاء الأشخاص أو شركاؤهم المقربين على مخاطر تتعلق بالسمعة مثل تلك المخاطر التي يتضمنها التعامل مع هؤلاء الأشخاص بعينهم، ولا ينطبق هذا التحديد على الأفراد الذين يشغلون مناصب متوسطة أو أقل في الفئات المذكورة”.
ومن المعلوم أنه ليس هناك فاعلية لمثل هذه الأدوات و التشاريع لمراقبة الفساد السياسي لأصحاب السلطة و القرار و المحيطين بهم في الوضع العراقي فيما يتعلق بالتصرح على الشرف بالمكاسب للقضاة مثلا بالنسبة لهم و لزوجاتهم و أبنائهم القصر و يشمل العقارات و السياات و الأسهم والحصص و الرقاع و الأصول التجارية و الحيوانات و المبلغ لدى البنوك و الإموال تحت اليد عند التصريح و تدع هذه التصاريح لدى دائرة المحاسبات إلا أنه لا يوجد أدنى مؤشر على تواصل تطبيقها أو فعالية تذكر لها منذ إحداثها.
كما أنه ليس هناك نظام لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ، وليس ثمة التزام للمؤسسات المالية باتخاذ نظام إدارة يسمح لها بالتحقق من هوية الأشخاص المعرضين سياسيًا، والحصول على موافقة الإدارة للدخول في علاقة عمل مع الأشخاص المعرضين سياسيا، وبالاستعلام عن أي شخصية ظاهرة سياسيا أو عن مصدر أموالها وذمتها المالية أو بإثبات اليقظة المشددة نحو الأشخاص المعرضين سياسيا. قد سكتت القوانين العراقية عن مسائلة الأشخاص المعرضين سياسيًا وعن الإجراءات المحددة لليقظة التي يجب تطبيقها عليهم.
وإذا كان القانون هو الذي يوفر الأدوات التشريعية والقنوات الإجرائية اللازمة لمقاومة الفساد فإن فعاليته رغما عن نقائصه تتوقف بالأساس على الدور الذي يضطلع به القضاء في تطبيقه. وهو ما يطرح الدور المحوري لمسألة إستقلال القضاء وسبب ضروريتها حتي يتمكن القضاء من الإضطلاع بواجبه في مقاومة الفساد ودرء الفساد السياسي عن مؤسسات الدولة والقائمين بالسلطة من خلالها..
و يثار عادة للتملص من ضرورة دعم سلطة القضاء و رقابتهم على شفافية ممارسة القائمين بالسلطة لمهامهم و محاسبتهم عن التجاوزات و الفساد الذي لا تخلو سلطة أن تغر صاحبها من الوقوع فيه بالدفع بمخاطر هيمنة القضاء على السلطة والوقوع في فخ ما يعرف بحكومة القضاة و التحول من استبداد السلطة التنفيذية إلى استبداد السلطة القضائية التي ليست معصومة بدورها من الفساد.
و الحقيقة أن هذا الإدعاء ليس سوى كلمة حق أريد بها باطل يريد من خلالها الماسكين للسلطة الفعلية المحافظة على إطلاق يدهم في المال العام والتملص من كل ما من شأنه أن يحد من سلطتهم. ذلك أن القضاء مهما بلغت سلطته ومدى إستقلاليته لا يمكنه أن يتعدى الإطار المرسوم له كمرفق عمومي في خمة المجموعة كما يحدده الدستور وتنظمه القوانين و التراتيب. كما أن القضاء لو أتيح له ممارسة سلطته الدستورية في ردع الفساد السياسي فإنه لا يتناول المشتبه بفسادهم من خلال دورهم في السلطة أو خلفيتهم السياسية وإنما من خلال مخالفتهم للقانون و تجاوزهم لضوابط أدائهم شانهم شأن غيرهم من المواطنين.
و هكذا نجد أن العلاقة بين السلطة و القضاء في مجال مكافحة الفساد بشكل عام والفساد السياسي بشكل خاص تعتبر في حد ذاتها مؤشرا على مستوى الفساد السياسي للسلطة. إذ لاتوجد سلطة نزيهة في مجتمع من المجتمعات لا تدرك أهمية تحصين نفسها من الفساد ومخاطر الإغراءات التي تعرض القائمين بالسلطة إلى الإنحراف و الفساد مهما كانت نزاهتهم. ذلك أن الفساد السياسي يقاس قبل كل شيئ من خلال حرص السلطة نفسها على توفير أدوات مقاومة الفساد بين القائمين بها وذلك من خلال تعزيز التشريعات دور المؤسسات في مواجهته.
إننا من خلال قضية الفساد السياسي إنما نطرح مسألة أولية تتجاوز مسألة الحكم على السلطة من حيث طبيعتها الإستبدادية أو الديموقراطية، التقدمية أو الرجعية و االعلمانية أو الإسلامية لأنه قبل طرح الخيار حول كل ذلك يحتاج المواطن العادي والبسيط كما نحتاج جميعا أن نعرف هل أنها سلطة فاسدة أو نزيهة حتى تكون جديرة بثقته؟.
https://telegram.me/buratha