وراء القتل الوحشي للصحفي “جمال خاشقجي” يكمن صراع على السلطة داخل العائلة المالكة السعودية ساعد في تغذية جنون العظمة والتهور لدى ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”.
وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى مقتل وتقطيع جثة الصحفي السعودي في قنصلية بلاده في إسطنبول.
بدأت المشاهد الافتتاحية لهذه العداوة العائلية في يناير/كانون الثاني عام 2015 في جناح مخصص لكبار الشخصيات في مستشفى الحرس الوطني في الرياض، بينما كان الملك السابق “عبدالله” مستلقيا على فراش الموت.
ووفقا لسعودي كان في المستشفى في ذلك الوقت، فإن أبناء “عبدالله” وحاشيته تأخروا لفترة وجيزة في إبلاغ خليفته “سلمان” بأن الملك قد رحل أملا أن ينجحوا في السيطرة على خزائن المال في القصر الملكي، وإجراء ترتيبات للحفاظ على مواقع قوية لجناح الملك “عبدالله”.
ويتطابق التخطيط الوحشي الذي مارسته أسرة “آل سعود” خلال الأعوام التالية مع وقائع مسلسل “صراع العروش” الخيالي، وقد امتدت تداعيات هذا الصراع إلى الولايات المتحدة والصين وسويسرا، وبلدان أخرى، حيث كانت العشيرتان الأقوى في العائلة المالكة تتنافسان على السلطة.
ومع ازياد التوتر، تجرأ الديوان الملكي المقرب من نجل الملك الجديد “محمد بن سلمان” على محاولة اختطاف عضو من فصيل الملك “عبدالله” في بكين في عملية قاسية في أغسطس/آب عام 2014، تبدو كأنها فصل لأحد أفلام الجاسوسية.
مع مرور الوقت، أصبح “محمد بن سلمان” أكثر قلقا وعدوانية تجاه أولئك الذين يعتبرهم أعداء.
وبداية من أغسطس/آب عام 2017، بدأ عملاء للاستخبارات السعودية، تحت رعاية الديوان الملكي، في تنظيم عمليات اختطاف لمعارضين في الداخل والخارج، وفقا للخبراء الأمريكيين والسعوديين.
وتم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية واستخدمت معهم أساليب استجواب قاسية وتعرضوا للتعذيب من أجل إجبارهم على الحديث، كما أجبروا تحت التهديد على توقيع تعهدات بعدم الكشف عما حدث لهم بأي حال من الأحوال.
وتم الوصول إلى تفاصيل هذه الدراما الواقعية عبر سلسلة من المقابلات التي أجريت مع سعوديين بارزين وخبراء أمريكيين وأوروبيين في الأسابيع التي تلت وفاة “خاشقجي”.
ولدى هذه المصادر معرفة بتفاصيل الأحداث ولكنهم طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لأن المعلومات التي أدلوا بها تنطوي على أمور دولية حساسة.
ووفقا للخبراء الأمريكيين والأوروبيين المطلعين على النتائج الاستخباراتية، تم قتل “خاشقجي” من قبل فريق أرسل من قبل البلاط الملكي في الرياض، وهو جزء من فرقة للتدخل السريع تم تشكيلها قبل 18 شهرا، حيث كانت آراء “خاشقجي” الصحفية وعلاقته مع قطر وتركيا قد أثارت ولي العهد السعودي بشكل متزايد ودفعته لإصدار أمر بإعادته إلى البلاد في يوليو/تموز من العام الحالي 2018، وهو أمر لم ترصده المخابرات الأمريكية إلا بعد 3 أشهر، حين اختفى الصحفي السعودي في إسطنبول.
وكانت الولايات المتحدة تراقب عن كثب هذه الحرب الوحشية، وأصبح “غاريد كوشنر” صهر “ترامب” ومستشاره مقربا من “محمد بن سلمان”، وزار “كوشنر” ولي العهد في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2017 في زيارة خاصة لم يكشف عن تفاصيلها، ولكن يرجح أنها ناقشت مكائد العائلة المالكة.
بعد مرور أسبوع على زيارة “كوشنر”، وتحديدا في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، قام “محمد بن سلمان” بما يشبه انقلابا داخليا واعتقل أكثر من 200 من الأمراء ورجال الأعمال السعوديين وتم احتجازهم في فتدق ريتز كارليتون في الرياض.
وقد تم وضع خطط هذه الاعتقالات بعناية من قبل المقربين من “بن سلمان” في الديوان الملكي.
وكان الأمير “تركي بن عبدالله”، الابن الطموح للملك الراحل “عبدالله” على رأس قائمة المستهدفين من قبل “محمد بن سلمان” في فندق ريتز، وكان “تركي” قد نقل في وقت سابق إلى مسؤولين أمريكيين وصينيين مخاوفه من القرارات غير المدروسة التي يتخدها “محمد بن سلمان”.
ولا يزال “تركي” قابعا في الأسر إلى اليوم، فيما تم قتل مساعده اللواء “علي القحطاني” أثناء احتجازه في فندق ريتز العام الماضي.
الصراع حول الخلافة
بدأت دسائس القصر مطلع يناير/كانون الثاني عام 2015 عندما تدهورت الحالة الصحية للملك “عبدالله” الذي تم تشخيصه بسرطان الرئة قبل ذلك بعام.
وقد حملته طائرة هيلوكوبتر من معسكره الصحراوي في روضة خريم إلى جناح الشخصيات المهمة في مستشفى الحرس الوطني السعودي في الرياض محاطا بأبنائه ومساعديه في القصر.
وعندما دخل الملك في غيبوية، حاول الديوان الملكي إخفاء تفاصيل حالته الصحية لحين ترتيب سيناريوهات الخلافة المحتملة ومنها تنصيب نجله “متعب بن عبدالله”، رئيس الحرس الوطني، ملكا.
وعندما حضر الأمير “سلمان”، ولي العهد آنذاك، إلى المستشفى في 23 يناير/كانون الثاني سائلا عن أخيه، أخبره رئيس الديوان الملكي وحامل أسرار أسرة الملك “عبدالله”، “خالد التويجري”، أن الملك يحتاج إلى الراحة.
في ذلك التوقيت كان “عبدالله” قد مات بالفعل، وعندما علم “سلمان” بالحقيقة استشاط غضبا وقام بصفع “التويجري” بقوة.
لاحقا تم توقيف “التويجري” وإقالته قبل أن ينقل إلى ريتز كارليتون إبان اعتقالات الأمراء، وهو الآن قيد الإقامة الجبرية بعد أن قام بتسليم الجزء الأكبر من الأموال التي حازها خلال عهد الملك “عبدالله”. (الصورة: خالد التويجري)
كان أفراد العائلة المالكة يتجسسون على بعضهم البعض فيما كان الصراع على الخلافة يلوح في الأفق، ووصف أحد أبناء الملك “عبدالله” عمليات التنصت على هواتف العديد من الأمراء الكبار حيث قام المقربون من الملك “عبدالله” بشراء جهاز صيني الصنع يمكنه التعرف على الأرقام التعريفية الخاصة بالهواتف في نطاق دائرة قطرها مائة ياردة (حوالي 91 مترا)، دون حاجة للوصول إلى الهواتف نفسها.
أما أجهزة التجسس فكان يتم إخفاؤها في منافض السجائر وغيرها من الأشياء المتناثرة في القصور لالتقاط المؤامرات السياسية وأحاديث القيل والقال.
كان “سعود القحطاني”، محام سابق وعضو سابق في القوات الجوية، وصاحب اهتمام خاص بالقرصنة ووسائل التواصل الاجتماعي، متعطشا للمال، وكان أحد الذين ساعدوا الملك “سلمان” ونجله “محمد بن سلمان” في تعزيز سلطتهم خلال الأشهر الأولى.
وكان معسكر “سلمان” يشك في “القحطاني” في البداية نظرا لأنه عمل مساعدا لـ”التويجري” في الديوان الملكي منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي.
وقد تم استجواب “القحطاني” وتعرض للضرب في الأيام الأولى من حكم “سلمان”، لكنه سرعان ما أثبت ولاءه المطلق لنجل الملك “محمد بن سلمان”.
وبصفته مديرًا لمركز الدراسات والشؤون الإعلامية بالديوان الملكي، أثار “القحطاني” شكوك “بن سلمان” حول منافسيه المحتملين واحتمالية التآمر للانقلاب عليه.
وبدأ “القحطاني” في تجميع الأسلحة السيبرانية لتوظيفها في خدمة “محمد بن سلمان”. وفي يونيو/حزيران 2015 تواصل “القحطاني” مع مجموعة “هاكينح تيم” الإيطالية للحصول على أدوات لمراقبة الإنترنت.
وفي 29 يونيو/حزيران 2015 أرسل “القحطاني” رسالة إلى “هاكينج تيم” عبر فيها عن رغبة الديوان الملكي في شراكة استراتيجية مع الشركة المتخصصة في الحلول السيبرانية.
وخلص المحققون السعوديون والأمريكيون إلى أن “القحطاني”، بصفته قائد العمليات المتعلقة بالمعلومات في الديوان الملكي، كان أحد الذين ساعدوا في تدبير جريمة قتل “خاشقجي”.
سياسات العائلة
بدأ فريق الملك “سلمان” في الانخراط في لعبة السياسات العائلية الصارمة منذ الأسبوع الأول لتوليه السلطة.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني عام 2015، أقال مرسوم ملكي اثنين من أبناء الملك “عبدالله”، “تركي” و”مشعل”، من منصبيهما كحاكمين للرياض ومكة، على التوالي وقد تركت هذه الإقالة ندوبا لم تلتئم أبدا.
وفي الوقت نفسه تم تعيين “محمد بن سلمان”، نجل الملك البالغ من العمر 29 عاما في منصب وزير الدفاع، وعين “محمد بن نايف”، وزير الداخلية القوي المقرب من الاستخبارات الأمريكية، وليا لولي العهد آنذاك، الأمير “مقرن بن عبدالعزيز”، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات.
شدد “سلمان” ونجله سيطرتهما بشكل أكبر في أبريل/نيسان من العام نفسه، حين تمت الإطاحة بالأمير “مقرن” ليحل محله “محمد بن نايف” كولي للعهد (بعد عام، منح الملك الأمير مقرن يختا فارها بطول 280 قدما إضافة إلى امتيازات أخرى كهدية وداع) في حين تم تصعيد “محمد بن سلمان” إلى منصب ولي ولي العهد ووضعه في خط الخلافة رسميا قبل أن يبلغ عامه الثلاثين.
وكان “بن سلمان” أميرا ميكافيليا منذ اللحظة الأولى، وحظي بدعم “محمد بن زايد” ولي عهد أبوظبي وشقيقه “طحنون بن زايد” رجل الاستخبارات القوي الذي زار يخت “محمد بن سلمان” أكثر من مرة خلال عطلات نهاية الأسبوع في السنة الأولى لصعوده.
وكان “بن سلمان” قد اكتسب منذ وقت سابق سمعة في الرياض كأمير متهور حين قام في صباه بتهديد أحد مسؤولي تسجيل الأراضي أعاق نقل ملكية قطعة أرض له وقام بوضع رصاصة على مكتبه كرسالة تحذير.
أعلن “بن سلمان” رغبته في تحديث المملكة، ولكنه كان أيضا مصابا بجنون الارتياب تجاه خصومه، مثل أبناء “عبدالله”، وكذلك “محمد بن نايف”، وفيما بعد، الصحفي المعارض “جمال خاشقجي”.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2015 وقع حدثان كان من المفترض أن يطلقا ناقوس إنذار مبكر حول نوايا “بن سلمان”، حيث سافر السفير “جوزيف ويستفال”، المبعوث الأمريكي إلى الرياض، في ذلك الشهر إلى جدة، للقاء “محمد بن نايف” قبل أن يتم استقباله في المطار وتوجيهه لزيارة “محمد بن سلمان” بدلا من ذلك.
في نفس الشهر، زار مسؤول استخبارات سعودي قديم يدعى “سعد الجبري” مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك “جون برينان” في واشنطن في زيارة خاصة.
وكان “الجبري” مستشارا مقربا من “محمد بن نايف”، لذا فإنه لم يخبر “بن سلمان” عن الرحلة، وعندما عاد “الجبري” إلى الرياض تمت إقالته من منصبه كوزير للدولة، وهو الآن يعيش في المنفى.
كان أفراد عشيرة الملك الراحل “عبدالله” يشاهدون “بن سلمان” وهو يحوز مقاليد السلطة التي كانت يوما ملكهم، ومع علمهم أن “برينان” وأعضاء آخرين في إدارة “أوباما” لم يكونوا يشعرون بالارتياح تجاه “بن سلمان” فإنهم استأجروا شركة استشارات استراتيجية في واشنطن لرصد الديناميات الجديدة في العلاقات السعودية الأمريكية.
كانت الاجتماعات بالكاد سرية، فضلا عن أن ترقى لدرجة المؤامرة كما رآها “بن سلمان”.
على مدى عدة أيام في مايو/أيار 2016، التقى الأمير “تركي بن عبدالله” وأقرب مستشاريه، رجل الأعمال السعودي “طارق عبيد”، مع مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية السابقين في جناح بفندق فورسيزونز في جورجتاون، وقد رافقهم اللواء “علي القحطاني”، المستشار العسكري لـ”تركي” وحامي أبناء الملك الراحل “عبدالله”، الرجل الذي سينتهي به المطاف مقتولا في فندق ريتز كارليتون في العام التالي.
وصف “عبيد”، في مقابلة أجريت معه، هذه الاتصالات الأمريكية بأنها “كانت جولة من الاجتماعات بهدف الحصول على تقييم استراتيجي حول وجهات نظر الولايات المتحدة حول المملكة ومكانتها، من خلال مسؤولي الدفاع والأمن المطلعين في الولايات المتحدة”.
في الشهر التالي مباشرة، سافر “محمد بن سلمان” إلى واشنطن للاجتماع مع الرئيس “باراك أوباما” ومسؤولين آخرين.
حتى ذلك الحين، كانت الإدارة تلتزم الحياد وسط التوتر المتصاعد في العائلة المالكة، رغم وجود إشارات أن “بن نايف” و”بن سلمان” كانا على مسار تصادمي.
لكن “أوباما” أعجب بحيوية ورؤية “بن سلمان” وأجندته الإصلاحية، وبعد هذه الزيارة كانت واشنطن قد بدأت تميل بوضوح لتفضيل الأمير الشاب.
عالق في لعبة السلطة
ومع ذلك، احتفظت عائلة الملك “عبدالله” ببعض الروابط الخارجية المهمة، خاصة في آسيا، وفي عام 2016، أصبحت تلك الشبكات متداخلة بشكل متزايد مع جدول أعمال “بن سلمان”.
وسافر “عبيد” إلى شانغهاي في يوليو/تموز 2016، للتحضير لمشاركة “تركي بن عبدالله” في اجتماع المنتدى المالي الدولي، الذي كان سيعقد هناك في سبتمبر/أيلول، قبل أيام قليلة من اجتماع مجموعة العشرين الذي كان سيعقد في “هانغتشو”.
وبما أن “بن سلمان” كان يتجهز لحضور مجموعة العشرين، كانت خطة “تركي” لحضور اجتماع المنتدى المالي الدولي تحمل تلميحا للتنافس داخل السعودية.
وسافر “عبيد” إلى جناح في فندق شبه الجزيرة الصينية، وفي الغرفة المجاورة كان اللواء “علي القحطاني”.
ثم بدأت الأمور في التطور، وقد تم وصف هذه السلسلة من الأحداث من قبل عدة مصادر سعودية وسويسرية وأمريكية.
كان “عبيد” هو مبعوث “تركي” في مشروع تجاري مهم حيث كان “تركي” قد وافق على استثمار ما لا يقل عن 10 ملايين دولار في صندوق تنمية يطلق عليه “مؤسسة تمويل طريق الحرير” أو “سيلك رود فاينانس كوربوريشن”، يرأسه أحد خريجي جامعة “إم آي تي”، ويدعى “شان لي”، بحسب الموقع الإلكتروني للمنظمة.
وعندما سافر “عبيد” إلى بكين في أوائل أغسطس/آب 2016 للتفاوض على شروط الاستثمار لصالح “تركي”، فإنه حضر لقاء كبيرا في فندق بارك حياة الفخم حيث دعاه “جون ثورنتون”، المسؤول عن تمويل طريق الحرير، للاجتماع لتناول العشاء معه ومع “لي”.
كما دعا “ثورنتون” “مايكل كلاين”، وهو مصرفي استثماري في نيويورك، كان يشاع في ذلك الوقت أنه مستشار رئيسي لـ”بن سلمان” في خطته لجمع ما يصل إلى 100 مليار دولار من خلال طرح عام أولي لبعض أسهم شركة أرامكو السعودية، والتقى “كلاين” مع “عبيد” لفترة وجيزة ثم غادر.
وخلال اجتماع بارك حياة مع مجموعة طريق الحرير، حذر “عبيد” من أن الاكتتاب العام في شركة أرامكو السعودية، من خلال فرض معايير الإفصاح الغربية، قد يكون له تأثير كبير على الأمن القومي السعودي، عبر إضعاف قبضة العائلة المالكة على السلطة، حيث كانت أرامكو لفترة طويلة إحدى الركائز الرئيسية لحكم المملكة.
وبدلا من ذلك، اقترح “عبيد”، أن الصينيين يمكن أن يتوصلوا إلى صفقة مقايضة مع السعوديين لتداول بعض المخزون الضخم للصين من سندات الخزانة الأمريكية مقابل النفط السعودي.
ومن خلال انتقاد خطة “بن سلمان” للخصخصة أمام المجموعة الاستثمارية الصينية، كان “عبيد”، في الواقع، يحث الصينيين على دعم النظام السعودي التقليدي الذي كان تحت حكم الملك “عبدالله” والملوك السابقين، الذين كانوا يحافظون على الاستقرار والأمن.
وقال “كلاين”، من خلال متحدثه، إنه خلال محادثته القصيرة مع “عبيد”، لم يناقش قط صفقة المقايضة مع النفط أو خصخصة شركة أرامكو السعودية.
ويذكر “ثورنتون” أن “عبيد” قدم مقترح مقايضة النفط لكنه لم يتذكر من كان حاضرا.
ووفقا لأحد المسؤولين التنفيذيين في “طريق الحرير”، طلب عدم ذكر اسمه، فإن “تركي” و”عبيد” لم يصبحا مستثمرين فعليين في هذا المشروع.
ولكن أنباء انتقاد خطة خصخصة “بن سلمان” من قبل المستشار المالي لعشيرة “عبدالله” وصلت إلى الرياض.
وبعد أسبوع أو نحو ذلك، بدأ “عبيد” في تلقي وابل من المكالمات من أرقام سعودية لم يتعرف عليها ولم يرد عليها.
وفي نهاية المطاف، وبحسب مصدر مطلع، تلقى مكالمة من “خالد الحميدان”، رئيس رئاسة المخابرات العامة السعودية، وقال “الحميدان” إن الديوان الملكي يريد من “عبيد” العودة إلى المملكة على الفور، وأجاب “عبيد” أنه بحاجة إلى الرجوع أولا إلى رئيسه، الأمير “تركي”.
وبحسب المصدر المطلع، اتصل “تركي” بـ”الحميدان” وسأل عما إذا كان الملك “سلمان” قد أمر شخصيا بعودة “عبيد”، وأخبر “تركي” رئيس المخابرات: “إذا كان الملك هو من طلب ذلك، فسأطير شخصيا إلى الوطن الآن”.
وقد تم إرجاع الطلب إلى “الديوان” وليس الملك، وساعتها فإن “تركي” نصح “عبيد” بالبقاء في الصين.
وفي 21 أغسطس/آب، دعا “لي” السعودي “عبيد” مجددا للقدوم إلى بكين للتباحث في مكتب شركة “طريق الحرير” حول تمويل المشروع.
وبعد ظهر يوم 25 أغسطس/آب، طار “عبيد” من شنغهاي إلى بكين على متن طائرة خاصة، وعندما هبطت الطائرة، دخلت إلى منطقة معزولة في المطار، وكانت هناك طائرة متوقفة في مكان قريب كانت تحمل علامة “HZ-ATR”، وتعني البادئة “HZ” على أن الطائرة سعودية، وقد تم وصف ما حدث بعد ذلك من قبل مصادر سعودية وسويسرية مطلعة على القضية.
عندما غادر “عبيد” طائرته، أوقفه أكثر من 40 رجل أمن صيني يرتدون ملابس مدنية، ويقال إن قائد المجموعة، وهو يتحدث بالعربية، قد أخبر “عبيد” قائلا: “نحن من وزارة أمن الدولة” طالبا منه الاستسلام والتعاون، وتم تغطية رأسه وجسده بشكل ضيق لدرجة أنه لم يتمكن من الرؤية أو التحرك دون مساعدة، ومن ثم تم نقله إلى منشأة تحقيق في مكان ما في بكين مع تقييد يديه إلى كرسي.
وأكد مصدر في المخابرات الصينية أن “عبيد” تم اتهامه بتمويل الإرهاب وأنه كان ينظم مؤامرة مع متشددين باكستانيين لعرقلة قمة مجموعة العشرين المقرر إجراؤها في الشهر التالي، حسبما ذكر مصدر مطلع على القضية.
وكانت الأسئلة الموجهة له، “أين يختبئ الإرهابيون؟ وأين يختبئ رجال الميليشيات الباكستانية؟”، واحتج “عبيد” أنه ليس لديه أي فكرة عما يتحدثون عنه، لقد كان عندهم الرجل الخطأ، ويبدو أنه تعرض لمحنة استجواب طويلة ومؤلمة.
ولحسن الحظ، كان الفنيون التابعون لوزارة الأمن يفحصون جهاز “آيباد” والهاتف المحمول الخاص بـ”عبيد”، ويتحققون من المعلومات من مصادرهم الخاصة.
وبسرعة، خلص الصينيون إلى أنه قد تم بالفعل ارتكاب خطأ، فقد أعطاهم المسؤولون السعوديون معلومات كاذبة عن “عبيد” لإلقاء القبض عليه كإرهابي وتسليمه إلى المملكة.
وبحسب مصدر مطلع، قال أحد كبار ضباط أمن الدولة بوزارة الخارجية الصينية لـ”عبيد”: “انظر، لقد وقع خطأ. هناك شخص ما في بلدك اتصل بنا قبل 5 دقائق من وصولك إلى بكين وقال إنك إرهابي تمول عملية ضد قمة مجموعة العشرين”.
وأوضح المسؤول الصيني: “أنت عالق في لعبة قوة في بلدك، بين أميرين قويين”.
ورتب ضباط المخابرات الصينية، الغاضبين من أنهم قد تم خداعهم، لـ”عبيد” للسفر بسرعة إلى شنغهاي وتمت حمايته لبقية مدة إقامته في الصين.
وفي هذه الأثناء، كان السعوديون، الذين كانوا يأملون في ترحيل “عبيد” من بكين، غاضبين أنه هرب من قبضتهم، وقد أرسلوا وكلاء للبحث عنه في فنادق بكين.
وفي شنغهاي، تلقى “عبيد” اتصالا من اللواء “يوسف بن علي الإدريسي”، نائب رئيس المخابرات السعودية، وطلب منه العودة إلى بكين والالتحاق بالطائرة السعودية التي تم إرسالها لاصطحابه، بحسب مصدر مطلع على القضية.
وعاد “عبيد” مرة أخرى للحصول على المشورة من راعيه، الأمير “تركي”، الذي اتصل بـ”الإدريسي”، وبحسب مصدر مطلع، قال “تركي”: “إذا أراد الملك ذلك، فسيتم ذلك”، وسأل “الإدريسي” نيابة عن من يتحدث، وقدم “الإدريسي” إجابة غامضة حول من أمر بمغادرة “عبيد” القسرية من الصين.
وبقي “عبيد” في شنغهاي تحت حراسة مشددة من وزارة أمن الدولة لمدة أسبوع آخر.
ولأن “عبيد” كان لديه جواز سفر سويسري، فقد تلقى كذلك الحماية من القنصلية السويسرية في شنغهاي.
وفي 11 يناير/كانون الثاني 2017، وصلت رسالة إلى محامي “عبيد” من القنصل السويسري العام “فرانسوا كيلياس زيلويجر” تؤكد تمتعه بفوائد الحماية القنصلية.
وصل الأمير “تركي” إلى الصين في 30 أغسطس/آب، وتحدث في اجتماع صندوق النقد الدولي في الأول من سبتمبر/أيلول، كما التقط صورا مع الرئيس الصيني “شي جين بينغ”.
ووصل “بن سلمان” إلى قمة مجموعة العشرين، التي انعقدت في هانغتشو في 4 و5 سبتمبر/أيلول.
وبحلول ذلك الوقت، كان “عبيد” على متن طائرة إيرباص تركية خاصة متوجهة إلى سويسرا.
وتابع الصينيون الأمر للتأكد من وصول “عبيد” بأمان إلى جنيف، وبمجرد الوصول إلى هناك، عولج “عبيد” على الفور في عيادة متخصصة بسبب الإصابات التي لحقت به في الصين، بحسب مصدر سويسري. الصورة: (الأمير تركي بن عبدالله)
فشل محرج
وتحدث “بن سلمان” في اجتماع مجموعة العشرين حول خطته للتحديث، “رؤية 2030″، لكن سرا، قيل إنه كان غاضبا عندما بلغته أنباء فشل “الإدريسي” المحرج في جهود الترحيل السرية.
وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺎد إﻟﻰ اﻟوطن، أﺟﺮى “بن سلمان” ﺗﺤﻘﻴقا ﻓﻲ اﻟﺤﺎدث، وتمت إقالة “الإدريسي” من منصبه نائب رئيس المخابرات وحل محله لاحقا اللواء “أحمد العسيري”، وهو الرجل الذي أطاح به السعوديون بعد ذلك للاشتباه في أنه ساعد في قتل “خاشقجي” في إسطنبول.
وأرسل السعوديون وفدا خاصا إلى الصين للاعتذار عن سوء استخدام قنوات الاستخبارات في قضية “عبيد”.
وأوضح مسؤول سعودي قريب من “بن سلمان” أنه تم إلقاء اللوم بشكل كامل على “الإدريسي”: “لقد كانوا محرجين بسبب خطأ الإدريسي، وأعتقد أنه (الإدريسي) أدرك الخطأ، وأنه لم يكن يجب عليه فعل ذلك”.
لكن رجال “بن سلمان” في الديوان الملكي من الواضح أنهم لم يتعلمون الدرس حيث تعمقت شكوكهم حول الأعداء المتصورين وزادت شهيتهم للسيطرة المطلقة.
وابتداء من ربيع عام 2017، بدأ السعوديون برنامجا سريا لخطف المعارضين واحتجازهم في مواقع سرية، وفقا لخبراء أمريكيين وسعوديين مطلعين.
واشتمل البرنامج على تشكيل “فريق النمر” الخاص، الذي كان يعمل بالتنسيق مع مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي برئاسة “القحطاني”.
وساعد “تركي آل شيخ”، وهو مستشار آخر لـ”بن سلمان”، في الإشراف على مواقع الاستجواب، وفقا للخبراء الأمريكيين والسعوديين.
وقد اكتسب الانقلاب الداخلي الذي قام به “بن سلمان” قوة دافعة العام الماضي، حين بدأ ولي العهد يخشى أن تكون حياته مهددة.
وفي يونيو/حزيران 2017، تم خلع “محمد بن نايف” من منصب ولي العهد، وحل محله “بن سلمان”، وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أسبوع من زيارة “كوشنر”، اعتقل “بن سلمان” أعداءه الملكيين، بدءا من “تركي بن عبدالله”، واحتجزهم في فندق “ريتز كارلتون”.
وكان من بين المعتقلين بعض كبار الأمراء وأثرياء رجال الأعمال في المملكة، وبعد أن استأنف فندق “ريتز كارلتون” أعماله الفندقية، تم نقل محتجزين جدد إلى مواقع سرية.
وتم اعتقال العديد من ناشطات حقوق المرأة السعودية في مايو/أيار 2018، أي قبل شهر واحد فقط من إلغاء “بن سلمان” الحظر المفروض على قيادة النساء.
ويقول نقاد “بن سلمان” إن ولي العهد لم يرغب في أن تحصل الناشطات على الفضل في إصلاحاته، وكانت إحدى الناشطات مصدومة للغاية بسبب معاملتها القاسية لدرجة أنها حاولت الانتحار عن طريق قطع شرايين معصميها بشفرة حلاقة.
وبقي “عبيد” في سويسرا، ويخضع للتحقيق هناك وفي الولايات المتحدة للاشتباه في تورطه في الحصول على مبالغ غير شرعية من صندوق الثروة السيادية الماليزي، المعروف باسم 1MDB، لصالح شركة تدعى “بترو سعودي إنترناشونال”، أسسها كل من “تركي بن عبدالله” و”عبيد”، لكن لم يتم اتهام أي منهما بعد.
جنون العظمة الوحشي
وما يثير الإزعاج حول قصة التنافس العائلي هو أنها ساعدت في إثارة جنون العظمة الذي أدى إلى قتل “جمال خاشقجي”.
لماذا لم يوقف أحد هذه السلسلة من الأخطاء المميتة قبل ذلك؟ وتشبه محاولة الإيقاع الفاشلة بـ”عبيد” في الصين بشكل مخيف حادثة مقتل “خاشقجي” في إسطنبول.
وفي كلتا الحالتين، أراد السعوديون إسكات ناقد جامح، وعندما فشلت الاتصالات الأولية، حاولوا فعل ذلك بعملية سرية غير قانونية، في كل مرة تحت إشراف نواب رئيس المخابرات، الذين كانت لهم صلات وثيقة مع الديوان الملكي.
وفي كل مرة، كان نائب رئيس المخابرات هو كبش الفداء، ولم تظهر أدلة قوية في كلتا الحالتين توثق دور “بن سلمان”.
ويبدو أن كلتا العمليتين تم تنظيمها من قبل خلية خاصة داخل الديوان الملكي بإشراف “القحطاني” وليس من قبل المخابرات السعودية.
وهذا مطمئن للمسؤولين الأمريكيين، الذين يرون رئيس المخابرات “خالد الحميدان” وزميله “عبدالعزيز الهويريني”، رئيس جهاز الأمن الداخلي المعروف باسم المباحث، كقوتين محتملتين للاستقرار.
ولعل أكبر اختلاف بين القضيتين هو أن “عبيد” لا يزال حيا في إحدى ضواحي جنيف، بينما مات “خاشقجي” وتم تقطيع أوصاله.
وأوقف المدعي العام السعودي 18 سعوديا في القضية، من بينهم “ماهر مطرب”، وهو ضابط مخابرات سابق وحارس شخصي سابق لـ”بن سلمان”، اتهمه المسؤولون السعوديون بأنه قائد الفريق الذي قتل “خاشقجي”.
وقد تم فصل كل من “القحطاني” والعسيري” من وظيفتيهما، وكان “القحطاني” من بين 17 سعوديا وضعتهم وزارة الخزانة الأمريكية على قوائم العقوبات بسبب أدوارهم المزعومة في وفاة الصحفي بصحيفة “واشنطن بوست”.
وجاء في بيان وزارة الخزانة أن “القحطاني” “كان جزءا من تخطيط وتنفيذ العملية”، وأن “مطرب” نسقها ونفذها.
ويعتقد كل مراقب سعودي تحدثت معه أن “بن سلمان” من المرجح أن يبقى في السلطة، على الرغم من الغضب العالمي حول مقتل “خاشقجي”.
وأن أقرب شيء قد يغير تلك المعادلة في قضية “خاشقجي” هو أن يتم اكتشاف أن “القحطاني” قد تبادل رسائل ذات صلة مع “بن سلمان” حول الواقعة، ولكن ما لم يتم الكشف عن هذه الرسائل، قد يكون من المستحيل إثبات وجود صلة لولي العهد.
ويذكر هذا بجنون العظمة الوحشي في بغداد أيام “صدام حسين”، وقد يكون تسليط الضوء على مقتل “خاشقجي” فرصة أخيرة للسعودية والولايات المتحدة لتجنب الانزلاق نحو تجربة استبدادية جديدة تكتسح المنطقة.
وبالعودة للتاريخ، نجد أن “آل سعود” قد حكموا عن طريق الدم أحيانا، لكن الولايات المتحدة، باعتبارها حليف المملكة الرئيسي، عليها الالتزام بتهدئة هذا الخلاف العائلي قبل أن يلحق ضررا أكبر بالسعودية والعالم.
https://telegram.me/buratha