د. صلاح عبد الرزاق
يعد افتتاح المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي في 11 شباط عام 2011 إضافة كبيرة حوّلت الشارع من شارع للقرطاسية وبيع الكتب إلى رئة ثقافية تتنفس فيها بغداد أسبوعياً وتتحضن نشاطات ثقافية وأدبية وتاريخية وفنية ومسرحية وسينمائية. وصار المركز قبلة لرواد المتنبي الذين وجدوا فيه ما يوفر لهم الامكانات والبنى التحتية لاقامة نشاطاتهم الأسبوعية يوم الجمعة بسهولة وبلا كلفة مالية. كما صار المركز جاذباً لنشاطات الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والوزارات ، وحتى الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة لاقامة نشاطات ومعارض نوعية وفنية وثقافية.
تاريخ المبنى
في نهاية القرن التاسع عشر اتجهت الدولة العثمانية لتطوير التعليم العسكري. الأمر الذي استدعى إنشاء مدارس متخصصة سميت آنذاك بالرشدية (الابتدائية) والاعدادية (الثانوية).
إذ أسس الوالي مدحت باشا المدرسة الرشدية العسكرية في بغداد عام 1870 في بناية الدفترخانة التي تعنى بحفظ وتدقيق سجلات الأراضي والشؤون المالية.
وقام الوالي عبد الرحمن باشا عام 1879 بتأسيس الاعدادية العسكرية في البناية ذاتها . وكانت مدرسة لتدريب وتدريس العلوم العسكرية. فكانت تدرس فيها أيضاً علوم الهندسة المسطحة والمجسمة والجبر والتاريخ والجغرافية والكتابة والفرنسية والرسم والعقائد والمنطق والرياضة . وكانت الصلاة فيها إجبارية ، إذ كان فيها إمام موظف ، والجميع يصلون خلفه. وكانت تضم قسماً داخلياً لمنام الطلاب. وتدفع لهم رواتب شهرية حسب الصف.
وفي عام 1893 انتقلت المدرسة الرشدية إلى بناية أخرى تم إنشاؤها في محلة الميدان مقابل البريد المركزي القديم . وفي بناية المدرسة الرشدية العسكرية القديمة أنشأت الاعدادية المركزية عام 1927. أما البناية القديمة فقد بقيت تشغلها الاعدادية العسكرية.
في عام 1914 توقفت المدرسة الاعدادية العسكرية بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم جرى تحويلها إلى مستشفى. في عام 1921 بعد تأسيس المملكة العراقية تم اتخاذها مقراً لوزارة العدلية ، وكلية الحقوق بعد استئناف الدراسة فيها، ثم دائرة الأوقاف والمحاكم المدنية والمميز الشرعي والمحكمة الجعفرية. كما شغلتها في عهود تالية دوائر وزارة العدل الأخرى مثل مجلس شورى الدولة ومحكمة استئناف الرصافة، ومخازن وأرشيف وزارة العدل، بالاضافة إلى نقابة المحامين التي شغلت أكثر من غرفة في هذا المبنى. واستمرت دوائر المحاكم بالعمل في البناية حتى عام 1978 .
كان الطابق الغربي المطل على النهر خاصاً بغرف الدراسة. أما الجانب الجنوبي الملاصق لجامع الوزير ففيه المطعم والمطبخ وبيت المؤونة. والجانب الشرقي الملاصق لسوق السراي ففيه الحمّام والسجن وغرف الخدم . والجانب الشمالي جبهة الباب الرئيس ففيه غرف الضباط ومخزن الملابس والكتب والاستقبال.
يذكر المؤرخ محمد رؤوف الشيخلي الذي كان طالباً في المدرسة الرشدية العسكرية : أن الاعدادية العسكرية كانت تشغل الطابق العلوي . وأما المدرسة الرشدية العسكرية كانت تشغل الطابق الأرضي حتى انتقالها منها، فشغلتها كلها الاعدادية العسكرية.
كان الطابق العلوي مخصصاً لغرف النوم . وفي الركن الشرقي كانت غرفة الطبيب والجراح وغرفة للمرضى. وفي الركن الشمالي كانت غرفة المشير (قائد الفيلق العثماني السادس) . أما فوق جبهة الباب فكانت غرفة المدير والمعلمين.
الجدير بالذكر أن قسماً من الشخصيات السياسية والعسكرية العراقية قد تخرجت من هذه المدرسة أمثال نوري السعيد وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وجميل المدفعي ومولود مخلص وجميل الراوي ورشيد الخوجة والمؤرخ محمد رؤوف الشيخلي والشاعر معروف الرصافي الذي درس فيها ثلاث سنوات ولم ينجح فتحول إلى الدراسة التقليدية.
وآخر ما شغلته هو (معهد القرآن والسنة) في الحملة الايمانية التي قادها صدام في التسعينيات لتمرير ادعاءاته برعاية الاسلام .
بعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003 أصبحت ملاذاً للمشردين والصعاليك. وصارت باحة المبنى مرآباً لوقوف السيارات العائدة لمرتادي المتنبي وسوق السراي والدوائر الحكومية القريبة.
وصف البناية
تقدر مساحة البناية حوالي خمسة آلاف متر مربع . وهي عبارة عن باحة واسعة تحيط بها غرف وقاعات واسعة تتوزع في طابقين. وللبناية مدخل واحد وسلمان يوصلان الطارف الأرضي بالطابق العلوي. وكانت الباحة ميداناً لتدريب الطلاب على فنون القتال والتمارين الرياضية، وهنا صور قديمة يظهر فيها ضباط يدربون جنوداً على المبارزة وتسلق الحواجز والمصارعة.
يحيط بالباحة ممر مسقف يحمي السائر من المطر والشمس. وفي الطابق العلوي توجد شرفة على محيط المبنى ، ويوجد سياج خشبي مع أعمدة خشبية تسند السطح. شيدت البناية بالطابوق والجص ، واستخدم حديد الشيلمان في السقوف بالطريقة البغدادية القديمة.
انشاء المركز الثقافي البغدادي
في عام 2010 قمت بزيارة البناية وكانت متروكة، وكان تأهيلها سابقاً جرى بصورة غير مهنية. سألت عن عائدية البناية فاتضح أنها تابعة للإدارة المحلية (لواء بغداد). هذا يعني أن لدينا حرية في التصرف بها لكونها من أملاك المحافظة. بعدها قررت تحويلها إلى مركز ثقافي يفتح أبوابه لكل النشاطات الفكرية والأدبية والفنية والثقافية، وتحتضن كل المنظمات والاتحادات والجمعيات التي تريد إقامة نشاطاتها فيه. وتم افتتاح المركز أمام الجمهور في 11 شباط 2011 . ومنذ ذلك الوقت احتضن المركز آلاف الفعاليات الثقافية المتنوعة.
بدأ العمل الهندسي بتأهيل الطابق العلوي أولاً ، وذلك لأن الطابق الأرضي كان يعاني من الرطوبة وحشرة الأرضة ، الأمر الذي يتطلب تأهيله وقتاً وعناية دقيقة. شملت عمليات الترميم معالجة أضرار الرطوبة في الجدران والسقوف ، بالإضافة إلى الشقوق وسقوط الجص . وتم تغليف الجدران بالخشب والجزء السفلي بالمرمر. كما تم ترميم الشبابيك والأبواب الخشبية والسياج الخشبي وبوابة المدخل. كما تم رصف الباحة بالطابوق الفرشي الذي جلب من كربلاء حيث يصنع هناك. وتم إنشاء مرافق صحية في الطابق الأرضي ، إضافة إلى نافورة وتشذيب الأشجار.
ولمساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة فقد تم إنشاء مصعد يمكن الوصول إليه من باب على يمين المدخل. كما تم تزويد المبنى بكاميرات مراقبة وشاشات ضوئية على مدل كل قاعة تعرض برامج القاعة . وتم تجهير القاعات بأجهزة التكيف والانارة والصوت والصورة، وكراسي متحركة ليتاح استخدام القاعات حسب الحاجة، إضافة إلى مولدات كهرباء.
في الطابق العلوي تم افتتاح قاعات (علي الوردي) و (مصطفى جواد) و (نازك الملائكة) و (جواد سليم) . وتوج أيضاً مكتبة الباحث (ميخائيل عواد) الشخصية وًالتي اشتريناها من ورثته. تضم المكتبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وسبعين كتاباً بعضها مهداة إليه من مؤرخين ومستشرقين ، إضافة إلى فهرس للكتب بخط عواد. وكذلك مكتبه وكرسيه والخزانات الأصلية وبعض مقتنياته الشخصية التي أهدتها عائلته.
وتم تأسيس (مكتبة بغداد) التي جمعنا فيها ما كتب عن بغداد من مؤلفات ومصنفات وكتب رحالة، إضافة إلى وصف بغداد وشوارعها ومساجدها وأسواقها ومدارسها. كما ضمت المكتبة صوراً قديمة لبغداد وخرائط تاريخية منها خارطة الرحالة فيليكس جونز والمستر كولنج وود عام 1854 .
وتم تخصيص (قاعة بغداد) للمعارض النوعية كونها أكبر القاعات في المركز. وتشغلها حاليا معارض الانتيكات والأدوات والأجهزة القديمة ، إضافة إلى معرض الزعيم عبد الكريم قاسم الدائم.
وتوجد بناية ملحقة قررنا تحويل سطحها إلى شرفة تشرف على دجلة وتمثال المتنبي.
بعد ذلك توجهنا لاعمار الطابق الأرضي حيث تم افتتاح قاعة (المعارض التشكيلية) المجهزة بإنارة خاصة للوحات والصور. وتأسيس (القاعة الحصينة) التي تعرض فيها المقتنيات الثمينة خشية تعرضها للسرقة، و (قاعة المخطوطات) و (قاعة المسكوكات) و (قاعة الشناشيل) للمقام العراقي .
ولاحتضان الفنون المسرحية والحفلات التي تحتاج إلى خشبة عالية تم انشاء (مسرح سامي عبد الحميد) الذي افتتحناه بحضوره. تم تزويد المسرح بمائتي كرسي ثابت ، تتوزع على مدرجات تتيح للحضور الرؤية بسهولة. كما تم تزويد الخشبة الواسعة بستارة وإنارة بروجكترات وسماعات يتم التحكم بها من جهاز خاص. وخلف المنصة أسسنا غرفة للكواليس والممثلين والموسيقيين وغيرهم.
تم تأسيس مسرح في الباحة الداخلية للمركز الذي احتضن عروضاً مسرحية ومهرجانات خطابية وفعاليات متنوعة. كما شهد إحدى عروض رياضة الزورخانة التراثية حيث رافق الرياضيين مدربهم وقارع الطبل بصوته الجهوري الذي يعطي من خلاله إيعازات لللاعبين.
ويقام في الباحة بشكل مستمر معارض للكتاب الاسلامي والمسيحي والأدبي والفني والتاريخي ، وبسطيات لبيع المواد الحرفية والمشغولات اليدوية ، ولوحات بغدادية وفنون أخرى. وقد استخدمت باحة المركز مكاناً لتصوير مسلسل (علي الوردي). وما زالت الباحة تحتضن القنوات الفضائية الذي تذيع بالبث المباشر من المركز ، وتلتقي بمثقفين وأدباء وسياسيين.
كما تم إنشاء (كافتيريا السراي) ليكون مقهى لرواد المركز حيث تقدم المشروبات الساخنة والغازية الباردة، إضافة إلى تزويدها بحمامات ومغاسل. كما تم فتح باب نحو الباحة الخارجية المطلة على نهر دجلة. إذ تم ترميم المسناة ووضع سياج زجاجي يتيح رؤية منظر النهر ، ويمنع الهواء البارد شتاء. وقد زودت مناضد وكراسي مع مظلات تمنع الشمس. ونصب فيها تمثال لكهرمانة.
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha