د. جواد الهنداوي *||
عاشَ العراق ، دولة و شعب ، ما يقارب عقديّن من الزمن في مواجهة تحديات سياسية و أمنية صعبة و أستراتيجية في ابعادها . تخطى وبنجاح نسبي لبعضها ، ولا يزال مُتعثراً امام البعض الآخر . أَنْقَذَنا التحّول السياسي عام ٢٠٠٣ مِنْ الدكتاتورية ، ولكن أوصَلنا الى ديمقراطية مُشّوه بالفساد وبعمالة البعض وبمسار سياسي وسلطوي لحساب اجندات خارجية . وقعَ أولئك الذين رسموا المسار السياسي في الفخ المنصوب امريكياً لهم ، وبأعتبار امريكا صديقاً و ناصراً لهم ولذاك التحّول ،فتمادوا في البذخ ( ان لم نقلْ في السرقة ) ،واللامُبالاة لتطلعات الشعب و مستقبله ، وعبثوا بثروات البلد ، و تجاهلوا بناء الاقتصاد و الاستثمار والمشاريع ، فأستهلكوا ولم ينتجوا و هّدموا ولم يبنوا . بلوغ العراق الى الحالة التي هو فيها الآن هو ما سعتْ اليه الإرادة الامريكية ، ولكن بأدوات عراقية خطّت و نفذّتْ و بخطأ المسار السياسي الموصوف بالديمقراطي . لدينا انتخابات و نتمتع بحريات وبتداول سلمي للسلطة و بأحزاب وبحركات سياسية متعددة و متنوعة ، ولكن ، هذه الممُرسات الديمقراطية جاءت بنتائج في تضادْ مع المطلوب :فبدلاً من بناء الدولة ،نجدُ الدولة اضعف بكثير من الحزب او من ظاهرة السياسة ، و مُجرّدة من ولاء الفرد او ولاء المواطن ، و بدلاً من تعزيز و ترسيخ السيادة ، نستجدي احترام السيادة اليوم من امريكا او من تركيا او حتى من اقليم كردستان ، بل حتى من احزاب او كتل سياسيّة !
لو كانت الإدارات الامريكية صادقة مع تجربة العراق ،مع التحّول السياسي الذي شهده العراق في عام ٢٠٠٣ ، لتأبطّتها و رعتّها بالنصح و التقويم ! ولما تركت سياسي المرحلة يتمادون في الأخطاء و الخطايا تجاه الشعب و الدولة ، ولما سمحت لظهور و نمو الارهاب وتفاقم جرائمهِ ، والطلب من حلفاءها في المنطقة بتمويل و دعم الجماعات المسلّحة التي عبثت و أجرمت في العراق و في سوريا ( انظر الى تصريحات السيد رئيس وزراء قطر الأسبق الشيخ حمد بن جاسم آل ثان الى قنوات تلفزيونية بتاريخ ٢٠١٧/ ١٠/٢٧ ، و نُشرت هذه التصريحات في صحف عديدة ،منها صحيفة رأي اليوم الاكترونية الصادرة بذات التاريخ اعلاه).
تجاهلْ الامريكان عن سوء المسار السياسي في العراق وسوء السلوكيات السياسية ، و تغاضيها عن ما جرى من فساد و سرقة ، كان متعمداً و مقصوداً و فَخّاً ، واصبح الآن فلماً مصوراً وسلاحاً تمتلكه الجهات الامريكية المعنيّة للابتزاز و التفاوض .
نتيجة المسار السياسي و التحديات السياسة تتجلى الآن ، وبوضوح ، من خلال استسلام قيادات المسار السياسي ، و استسلام المواطن ( المغلوب على امره و التائه ) الى القدر الامريكي المرسوم ، ولهذا القدر عنوانين عديدة : فشل الاسلام السياسي في العراق ،فشل حكم الشيعة في العراق ( بيدَ ان الشيعة محكومين في العراق وليس حكّام العراق ) ، التدخل الإيراني في العراق ( و لا دولة تتدخل في العراق مثلما تتدخل امريكا ) ، أذرع ايران في العراق .
نتيجة المسار السياسي الآن هو ضياع المواطن وفقدان بوصلته السياسية . كيف ؟ خرجتْ تظاهرات في اكتوبر عام ٢٠١٨ مطالبةً بتغيير النظام السياسي و بإلغاء الأحزاب ، و بمعاقبة الفاسدين و استرجاع الأموال و محاربة الفساد و ... و ... و اليوم يشهد الشعب تسجيل اكثر من ٤٠٠ حزب سياسي و حركة سياسية للأنتخابات القادمة ! و يُجازى الشعب باجراءات اقتصادية ( حكومية و سياسيّة لانها بمباركة رؤساء الكتل السياسية ) تمّسُ قوته ، من اجل دعم الاقتصاد و الموازنة ! كان من أهداف تظاهرات او " ثورة تشرين " ،على ما نعلم ويعلم الشعب ، هو استرجاع أموال الدولة المنهوبة في تجارة النفط و تجارة المنافذ و تجارة العقود ، وتجارة الاتصالات ، وتجارة النقل والخطوط الجوية ، وتجارة التضخم المقصود والمزّور لموظفي الدولة في بغداد و كردستان الخ ... هذا هي أهداف " ثورة تشرين " ...
تمنّى الشعب و ارادَ تضخيم موارد الدولة من خيرات العراق المنهوبة و المُسّربة ، وليس من استقطاع بنسبة تصل الى ٣٠ بالمئة من رواتب المتقاعدين و الموظفين !
سيواجه العراق ،ونحن على أبواب عام جديد ،ليس فقط تحديات سياسية ،توارثها من المسار السياسي في العقدين الماضين من الزمن، و إنما ايضاً من تحديات سياسية جديدة يفرضها الامريكي و العربي المتحالف معه ، وكذلك تحديات اقتصادية قاسيّة، تُفرضْ بعنوان الإصلاح ، و لا نشكُ بهدف الإصلاح و بضرورة الإصلاح ، ولكن نجاحها وهدفها مرتبط بالتحديات السياسية الجديدة التي سيواجهها العراق . فماهي تلك التحديات السياسية الجديدة ؟
سينال الحشد الشعبي و كذلك المرجعيّة حصصهما من مساحة التحديات السياسية ، وسيحشران اكثر و اكثر في تغريدات التواصل الاجتماعي ، لغرض النيّل من موقعهما و أثرهما الاجتماعي و السياسي .
تشهد منطقتنا العربية حالة طلاق مع أرثها السياسي بمفرداته و بمصطلحاته وبتوجهاته ، لم تعدْ قواسم مشتركة لا بين الانظمة العربية و لا بين شعوبها : لا وجود لما نسميه سابقا ( ولو نظرياً ) أمن قومي عربي ،
لامستقبل لسوق او لأسواق عربية مشتركة ، لا مستقبل حتى لتعاون عربي كلي او جزئي ، ستترسخ اكثر القاعدة التي تحكم السياسة الخارجية لدولنا العربية ، وهي " كيف تجعل جارك ضعيفاً " ! ، لم تعد فلسطين قضية للحلْ وانماّ قضيّة للتصفيّة ، لم تعدْ اسرائيل كيان محتل وانماّ دولة وبحدود مفتوحة وتتمدد بالتدريج من الفرات الى النيل ، اليوم ، ايران ، وللبعض هي العدو في المنطقة ، وتركيا ،اليوم ،هي العدو للبعض الآخر ، ينبغي ان يكون التعاون والاتفاقيات بين بعض الدول العربية وفقاً لتوصيات امريكية -اسرائيلية و لأهدافهما الاستراتيجية .
سيشهد العراق انتخابات و وفقاً لقانون الانتخابات الجديد ، والذي يسمح بوصول احزاب كبيرة وصغيرة متعددة الى مجلس النواب ، وسيكون للبصمة الاكترونية دور كبير في النتائج ، وستأتي النتائج وفقاً للإرادات السياسية المحكومة ايضاً بالتوافقات و التفاهمات على توزيع السلطات و مزايا السلطات .
اسرائيل ، ومن خلال الإدارة الامريكية ، وصلت حتى الى السودان لطلب الاعتراف بها ، فهل يخرج العراق من حساباتها وحسابات " دَلالّها " امريكا ؟ و لا أظنْ جهل القيادات السياسية العراقية بهذه الحقائق و التوقعّات .
أصبحَ " النضال الامريكي " من اجل اسرائيل الكبرى و المهيمنة يمرُّ عبر محادثات ودّية ، مثلما حصل مع الامارات و البحرين ، او يمرُّ عبر مقايضات ، مثلما حصلَ مع السودان و مع المغرب ، و يأمل " النضال الامريكي " أنْ يمرّر اعتراف بعض الدول الاخرى بالصبر و التروي ،مثلما يجري الآن مع المملكة العربية السعودية و قطر ، وسيسعى " النضال الامريكي " الى انتزاع اعتراف دول اخرى بأسرائيل من خلال التعذيب و التهديد والتجويع ، و لبنان خير مثال على ذلك .
الدولار و الاقتصاد و الديمقراطية المشّوه بالفساد و العمالة و الأجندات هي سلاح امريكا تجاه ما تبقى من الدول ، ومنها العراق ، لحملها للاعتراف باسرائيل ، وليس لمصلحة العراق وانماّ لمصلحة الهيمنة الاسرائيلية ، وما الحديث عن ايران و عن النفوذ الإيراني في العراق و في المنطقة الاّ حجّة و ذريعة و شماعّة لتصفية القضية الفلسطينية و للاعتراف باسرائيل وضمان هيمنة اسرائيل .
ليس من مصلحة العراق عداء او مخاصمة امريكا أو رفض تعاون سياسي و اقتصادي معها ، ولكن هل تتعامل امريكا مع العراق وفقاً للمصالح الامريكية - العراقية أمْ وفقاً للمصالح الاسرائيلية ؟
كنت سفيرا للعراق في قطر ، حين وصلَ الرئيس اوباما الى الحكم ، وفي لقاء ودّي مع سفير امريكا في قطر ،سألني حينها . ماذا تنتظرون كعرب من الرئيس اوباما ؟ كان جوابي له هو " ننتظر منه ان يكون امريكياً" .
" نضال امريكا " السياسي و الاقتصادي تجاه العراق و تجاه دول المنطقة سيكون محكوماً و مبرمجاً بخطوات تلك الدول تجاه اسرائيل ، ولن تتردد امريكا ، و في ظل قيادة بايدن من الاستمرار في توظيف كافة الوسائل الناعمة و الغليظة ( اقصد الفدّرلة او التقسيم ) من اجل تحقيق الأهداف .
https://telegram.me/buratha