د. جواد الهنداوي *||
لا أعني فقط انسحاب امريكا من افغانستان ، والذي كان هزيمة وفشل سياسي و عسكري ، وانما انسحابها من ساحات المعارك ، من بؤر التوتر و الحصار و الفساد و العقوبات الامريكية ، والتي فرضتها او ساهمت ،الى حدٍ كبير ،في صناعتها .
أنسحبت امريكا عسكرياً امام ايران ، اي لم تجرأ على منازلتها في حرب ، و مَنعتْ اسرائيل من توريطها و التهوّر بشّن حرب على ايران . كذلك كان الموقف الامريكي والاسرائيلي تجاه حزب الله . لا نلوم امريكا ،بل حسناً فعلتْ ، ولكن المؤسف لم يكْ الرادع اخلاقياً او انسانياً او قانونياً ، و انما ،و وفقاً لحسابات و مصالح امريكا و اسرائيل ،لم يعُدْ بمقدورهما غير الانكفاء و الانسحاب .
لم يقتصرْ انسحاب و فشلْ امريكا في الجانب العسكري فقط ، فشلت ايضا في سياسة الحصار و العقوبات المفروضة على شعوب ودول ، و المخالفة لحقوق الانسان و الشرعية الدولية ، و الاخلاق و الانسانية ، وسبّبت في ارتفاع معدلات الفقر في لبنان وفي سوريا وفي فنزويلا وفي ايران . ساهمت ايران بدور كبير في افشال سياسة الحصار الامريكية على فنزويلا وعلى لبنان ،ولم يكْ امام امريكا غير الانسحاب و المناورة والرضوخ للأمر الواقع ، ولم يعُدْ امام اصدقاء امريكا و المعتمدين عليها سوى الانسحاب ايضاً من المشروع الامريكي و الانخراط في اطار المشروع الذي يخدم مصالح شعوبهم و دولهم . المعارضة في فنزويلا، والتي راهنت جهاراً على امريكا ، أدركت فشل رهانها ، وتفاوض الآن الدولة والقوى السياسية من اجل الانخراط في المشروع الوطني و المشاركة في حكومة وطنية شاملة .
لم تقتصر اضرار الانسحاب و الفشل الامريكي في افغانستان ،مثلاً، على الادارة الامريكية ، وانما على دول اخرى ، والتي يتحتمّ عليها الآن استقبال مئات الالاف من الافغان كلاجئين .
الكيان الاسرائيلي اكثر الاطراف تضرراً من الافول الامريكي ، وتتفاوت آراء السياسيين و الخبراء الاسرائليين بين أتجاهيّن : اتجاه يرى في الانسحاب الامريكي من افغانستان و طريقته و تبعاته خطراً على الكيان ، وخطراً على الدول العربية التي طبعّت حديثاً مع الكيان ، و لاسيما اذا تعزّزَ هذا الانسحاب بآخر قادم من العراق و من المنطقة ، ويمثّل هذا الاتجاه رئيس الموساد الاسرائيلي السابق كوهين . ففي تصريحٌ له ،نشرتهُ صحيفة رأي اليوم الاكترونيّة ،بتاريخ ٢٠٢١/٩/٣ ، قال فيه " المشاهد المرعبة من افغانستان وسقوطها السريع بأيدي طالبان يستوجب استعداداً لان تؤدي خطوة اخرى مشابهة في العراق لانهيار اجزاء اساسيّة من الشرق الاوسط .ايران هي الرابح الاكبر ..." مَنْ هي تلك الاجزاء الاساسية ،بنظر كوهين ،المؤهلة للانهيار والتي لم يسمّها ؟ بالتأكيد ليس سوريا او العراق او لبنان . وبالتأكيد يقصد اسرائيل ، والتي هي قائمة بفضل الدعم الامريكي . كما ان التصريح يبيّن اهمية الوجود الامريكي في العراق للمصلحة الاسرائيلية ، وسوف تتضرر اسرائيل بانسحاب القوات الامريكية من العراق ، وهذا ما اكدّنا عليه في مناسبات وكتابات عديدة .
الاتجاه الثاني يرى بالانسحاب الامريكي من افغانستان ، و افول الدور الامريكي في المنطقة فرصة و مناسبة لتعزيز دور اسرائيل في المنطقة .بهذا الصدد نشرت صحيفة راي اليوم الاكترونيَة مقالاً بتاريخ ٢٠٢١/٩/٥ يقول فيه الكاتب " الانسحاب الامريكي من افغانستان سيدفع دولاً عربية للارتماء في احضان اسرائيل ... ويضيف امريكا اخطأت وستجد صعوبة في مواجهة التغلغل الايراني ، الموقف الامريكي شكّل انهياراً كاملاً لعقيدة الامن السعودي " .
ما يتوقعه الكاتب، و برأينا ، هي اوهام وليست استشرافات مبنيّة على مُعطيات واقعيّة وعلميّة .
فشلت اسرائيل في القضاء على المقاومة الفلسطينية و اللبنانية ،في الزمن الذي كانت فيه امريكا هي الآمر و الناهي في المنطقة ، فهل تظّنُ اسرائيل ان تكون هيمنتها و عزّتها في وقت التذليل الامريكي !
عقيدة الامن الاستراتيجي السعودي مرتبطة بالولايات المتحدة الامريكية ولم تكْ في يوم من الايام ،مرتبطة باسرائيل . تداركت المملكة موقفها قبيل التطبيع الرسمي ولم تبدأ به ، بخلاف الامارات و البحريّن ، وتتفاوض المملكة اليوم بشكل مباشر مع ايران ، كما صدرت من الجانب الايراني الرسمي تصريحات تشييد بجديّة المفاوضات السعودية معهم ، و وجّهه اليوم ٢٠٢١/٩/٦ السيد مسجدي ،سفير ايران في بغداد شكراً الى السيد الكاظمي ،رئيس وزراء العراق ،لدوره في التقارب بين طهران والرياض .
في خطاب الرئيس بايدن الاخير وقبل ثلاثة او اربعة ايام ،قال في صريح العبارة ان لا استقرار في المنطقة دون ان تكون هناك دولة اسرائيلية يهوديّة . اعتبرُ هذا التصريح رسالة طمآنة لاسرائيل على مستقبلها في ظل انحسار او بدء انهيار دور امريكا في وسط و في غرب آسيا ،اي في افغانستان وفي منطقتنا، والتصريح يدّلُ ايضاً على مدى القلق الذي ينتاب اللوبي الصهيوني وحكومة اسرائيل جرّاء الانسحاب الامريكي و انحسار دور امريكا .
سفير سابق /رئيس المركز العربي الاوربي
للسياسات و تعزيز القدرات /بروكسل
٢٠٢١/٩/٦ .