ادريس هاني *||
- تحيط بموضوع طالبان والانسحاب الأمريكي المفاجئ، الكثير من الإيحاءات التي تغري ذوي النّزعة المؤامراتية(كومبلوتيزم)، وحتى الآن لا يكفي الانخراط في لعبة التلويح بالموقف الرافض للنزعة المؤامراتية، لأنّ هذه الأخيرة تكاد تكون هي الدّاء العضال لمن يحاولون زفّ طالبان كحركة تحرر وطني، أليسوا هم في العادة من يتحدّثون عن الثّورة المُضادة؟ في بيئة تعيش حالة عدوى حادّة للكومبلوتيزم، ما العمل؟
- التمييز بين أحكام المؤامراتيين وأحكام المستنبطين هي مهمّة المنطق السياسي، أي حين يتعين أن نجعل من السياسة كما ذهب كارل سميث فنّا لمعرفة العدوّ. المنطق العلمي يفتح مجالا دائما للاحتمال، وهو الدواء الحقيقي للكومبلوتيزم. ففي مقدّمات السياسة وسقط الخطاب ما يفتح طريقا لتجاوز أمرين يبدو وكأنّهما متقابلان، ولكنهما يؤديان وظيفة "تحشيش" الأذهان:
1- النزعة المؤامراتية التي تتبع الطريق السهل وتطلق العنان لهلاوس الخيال.
2- النزعة النقيضة التي تتبع الطريق السهل وتحرّض على القبول بكل الأوهام.
كلاهما منوّمان مغناطيسيان، أحدهما يسلب الفكر النقدي والآخر يقوض الفكر الاحتمالي. إنهما سبيلان يؤديان للجمود وجعل الحقيقة هاربة ما بقيّ الليل والنهار.
- لا يمكن التسليم بخطاب المُنسحب ولا بخطاب الفاتح، كلاهما في معادلة غامضة، كان الغموض جزء من سياسة تتجاوز أفغانستان، وتخصّ سائر التعقيدات المحيطة بها. الغزو والانسحاب كلاهما يحمل البصمة نفسها: لعبة الأمم. هل يا ترى، لعبة الأمم هي جزء من هذه النزعة المؤامراتية؟ نعم، هي كذلك إذا كانت عنصرا جزافيا لتفسير الحدث من دون الوقوف على المحدد الأسمى للحدث، أما لعبة الأمم كحقيقة، فهي أكثر الأشياء بداهة في العلاقات الدّولية. حتى الآن لا زالت فرنسا تريد فقط تفسيرا لتحوّل أستراليا عن صفقة الغواصات، ثمّة نزعات تآمرية حتى داخل الحلفاء.
- أعود إلى تيري ميسان، ليس إلى كلّ ما يقول، ولكن بعضا مما أراه مناسبا هنا، إنّ الغاية من استراتيجيا الحرب على الإرهاب هي الإرهاب الموجّه لزعزعة استقرار المنطقة. وسيشكل سقوط كابول شرطا، هو يسميه هدفا استراتيجيا، لهذه الاستراتيجية. لكن هذا يتوقف على شرط عدم فشل طالبان في إقامة نظام مستقرّ، وهي من دون حلفاء لا تستطيع ذلك. إن طالبان حسب ميسان تمتلك ترسانة اليوم من شأنها أن تجعل الحرب في آسيا الوسطى أكثر خطورة من الحرب في الشرق الأوسط.
- ماذا عن سلاح طالبان النوعي؟ هل يا ترى بالإمكان أن نفترض أن تكون تلك هي البؤرة التي ستنبعث منها حروب المستقبل برسم الصراع على الهارتلاند؟ هل نحن إزاء إعادة تأمين السيطرة على أوراسيا، بعد أن حقّق المنافسان: الصيني والروسي بعض التّقدم باتجاه منطقة قلب العالم؟ لا تأبه واشنطن للروس إلاّ كقوة ضاربة ومؤثرة من حيث الثقافة والميراث الأورتذكسي والقومية والقوة العسكرية للصقالبة من حيث هم العنصر الحيوي في الهارتلاند، لكنها تضرب حسابا أكبر للصين ، لأنّها تتحرّك بثقل كبير يتعلّق بالعامل الأكثر حسما في مصير قيام الأمم وسقوطها: العملة والذّهب. إذا اتحد الهانيون بالصقالبة، فهذا سيجعل منطقة قلب العالم خارج الهيمنة الأمريكية. هذا هو التّحدّي الأكبر الذي يفسّر ما لا نستطيع فهمه من خلال حركات مبهمة في المحيط المتاخم لأوراسيا.
- بالنسبة لتيري ميسان، فإنّ أمريكا لم تعد تفكر كمنافس للأمبراطورية الرومانية، بل هي تفكر من خلال سياسة الابتزاز، وعلى هذا الأساس فهي غير معنية ببناء "أقواس النصر لمجدها" بل هي في نظره تقبل بهزيمة رئيسها بايدن في أفغانستان، لكن بالموازات، تسعى للسيطرة على العالم في الظّل وجمع أكبر عدد من رؤوس الأموال.
هذا الذي توصّل إليه تيري ميسان هو ما أكدناه مرارا بخصوص نمط الهروب في السياسة الأمريكية، إنّها في الوقت الذي تجعل أمما تفكّر في حاجاتها اليومية على مستوى الخدمات، تكدّس ما أمكن من رؤوس الأموال، تحسبا ليوم النّزال الأكبر مع الصين، وهو نزال حتما سينتهي بتقاسم النفوذ في العالم والتدبير الثنائي لنظام عالمي جديد.
- طالبان لا شكّ أقلّ قدرة من أن تحدث ارتباكا في هذه المعادلة، ولكنها كحركة وظيفية تسعى للظفر بدولة، تستطيع أن تلعب أدوارا ممهدة أو إشعال الحرائق، في سياق سياسة دولية محكومة بالابتزاز والإرغام.
- ثمّة قراءات تحليلية وميدانية لطالبان، كتلك التي قام بها أنطونيو جوستوزي من كينجز، حيث رصد تحولات طالبان من 2001 إلى 2018، وهو يقدم عملا بمساعدة جامعة أوكسفورد: (The Taliban at War 2001–2018). الأهم في هذا العمل هو إشارة أنطونيو إلى ذلك الحدث الفريد في تجربة طالبان، أي تشكيل القوات الخاصة. لقد تمّ تدريب نخبة من عناصرها تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، هو يقول على يد حزب الله، تعلّمت طرق الحاج سليماني في الحرب. ففي الوقت الذي كان محمد جواد ظريف يجهل نشاط الحاج سليماني في أكثر من منطقة تتعلق بالأمن القومي الإيراني، كان هذا الأخير يقوم بأدوار عميقة ويهندس استراتيجيات كبرى، بموجبها قارن الخبير البريطاني ألستر كروك بينه وبين ليوناردو دا فينشي.
- حمت إيران عناصر طالبان الذين لاحقتهم القوات الأمريكية، تعاملوا معهم كما تعاملوا مع كل الهاربين واللاجئين الأفغان، كانوا ينظرون إليهم كأبناء أفغانستان، استثمروا في أخلاقيات حسن الضيافة، وحاولوا إعادة تأهيلهم وتغيير نظرتهم، ثم قدّموا لهم ما لا تستطيع طالبان التنكر له في هذا المدى القصير من أشكال التدريب والدّعم. هم يعتبرون أنّ طالبان في موقف العدو للأمريكيين، لكن هل بالفعل طالبان ستكون كذلك على المدى المتوسط والبعيد؟
- لما يُسأل الناطق باسم خارجية طالبان عن موقف هذه الأخيرة من إمكانيات التطبيع مع إسرائيل، يجيب في أكثر من مرة، بأنّهم الآن ليسوا في حاجة إلى ذلك، هذا بينما تحدث عن أن سياساتهم ستحدد وفق مبادئ الشريعة. نتساءل: ما معنى لسنا مضطرين إلى ذلك الآن؟ وهل إذا ظهرت الحاجة سيكون المجال مفتوحا؟
- ومع ذلك يحبّ الديمقراطيون أن يبرروا قرار بايدن القاضي بالانسحاب الفوري من أفغانستان، هذا ما يؤكده توماس فريدمان الذي يحيل إلى تجربة مشتركة مع بايدن يوم كان هذا الأخير رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، حين رافقه في أولى زيارته لأفغانستان، حيث كان بايدن غير مقتنع بأنّ الغزو الأمريكي لأفغانستان ستعقبه ديمقراطية وثقافة سياسية في بلد يعيش وضعا أصوليا وقبليا، فضلا عن موقف باكستان المعادي لمساعي واشنطن في أفغانستان، خوفا من أن يؤدي ذلك لإبعاد طالبان من نفوذها الثقافي والجيوسياسي، كان بايدن حسب فريدمان يرى في ذلك سياسة حمقاء، ولكنه ظل ممزقا بين رأيين. نفهم من كلام فريدمان، أن بايدن نفّذ ما كان يبدو واحدة من قناعاته، لكن هل سيفعل مثل ذلك في العراق وسوريا؟ لقد أجاب بايدن بأنّ الخطر في سوريا هو أكبر.
- كلّ هذا، وبينما تسعى طالبان إلى لنيل اعتراف سلس بحكومتها، هناك داعش على الأبواب، فلقد نفذت هذه الأخيرة قبل يومين سلسلة من التفجيرات بجلال آباد شرق أفغانستان مستهدفة عربات لطالبان، مخلفة أكثر من 35 قتيل ومصاب من حركة طالبان.
أمام هذا الوضع الجديد، قد نجد من سيلعب دور تفعيل نشاط داعش في أفغانستان ، لكي يظهر طالبان في وضعية المناهض للإرهاب، والحقيقة هي كذلك، فهما يتشابهان في العناصر الأساسية للخطاب، لكنهما مختلفان في تدبير الهيمنة والسلطة والعلاقات. طالبان تبحث عن فرصة لإنشاء دولة وداعش تسعى لإقامة دولة، أفغانستان أمام موجة عنف وإحياء لمعارك التّطرّف. وفي نهاية المطاف ستقدم داعش خدمة جليلة لطالبان، حين تمنحها صكّ الظهور كمنقذ للشعب الأفغاني ومدافع عن أمنه.
ادريس هاني */ كاتب وباحث من المغرب
:21/9/2021