د.أمل الأسدي ||
قبل أن نشرع بالحديث عن هذه الشخصية العظيمة ،سنقف عندي مفهومي الريادة والقيادة، والريادة لغةً: هي من الفعل رادَ،والرائد هو من يتقدم القوم لينير لهم الطريق ويبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث،والجمع :رائدون ،رادَة ،رُوَّاد.
ويقال: بعثنا رائداً يرود لنا الكلأَ والمنزل ويرتاد،والمعنى واحد أَي ينظر ويطلب ويختار أَفضله.
ينظر لسان العرب،ابن منظور مادة :.رود
أما الريادة اصطلاحا:فهي التفرد والتميز والسَّبَق،وهي
استثمار الفروق الفردية التي تتميز بها الشخصية في إدارة الحدث الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الأدبي... إلخ من مجالات الحياة العامة، وهي حيازة قصب السبق والفوز به.
أما القيادة لغة: فهي من القود،وهو نقيض السَّوق،فالسَّوق من الخلف، والقود من الأمام، وقدتُ الفرس،وقاد البعير: أي جرّه خلفه،وأَقاده خيلاً: أَعطاه إِياها يَقُودها، وأَقَدْتُك خيلاً تَقُودُها،والقِيادة والقائِدُ واحد القُوَّاد والقادة؛ ورجل قائد من قوم قُوَّد.
ينظر لسان العرب،ابن منظور مادة: قود
وأما تعريفها اصطلاحا : فهي استثمار القدرات والمواهب والمعطيات في إنجاح إدارة أي عملٍ من الأعمال، والقدرة علی التأثير في الآخرين وإقناعِهِم وتوجيهِهم بالشكل الذي يوصل الی تحقيق الهدف المنشود،إذن هي علاقة الفرد بالجماعة وقدرته علی ربطهم بمنظومةٍ خاصةٍ ومنهجٍ خاصٍّ يرتئيه لتحقيق النتائج التي يطمح في الوصول إليها
ـ ⭕️ البطاقة الشخصية للسيدة خديجة(عليها السلام):
الاسم: خديجة الكبرى بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
اللقب :أم المؤمنين - الطاهرة،سيدة نساء قريش
تاريخ الولادة: العقد الثالث أو الرابع قبل البعثة النبوية.
الموطن :مكة
الوفاة أو الاستشهاد: العاشر من رمضان،في السنة العاشرة من البعثة النبوية أي قبل الهجرة بثلاث سنوات.
(619 م).
- المدفن: مكة،مقبرة المعلاة، الحَجُون
ـ الدور الريادي: قد انفردت السيدةُ خديجة عليها السلام بدور ريادي، ومواقف متفردة لم تُتَحْ لغيرها من النساء ،وهذا الدور متأتٍّ من الصفات التي تتمتع بها السيدة، والخصائص التي أهلتها لتكون رائدةً علی أصعدةٍ متعددةٍ، ومحطاتٍ تأسيسيةٍ إسلاميةٍ فريدةٍ، سنعرضها بشكل متسلسل يبتدئُ من حياتها قُبيل البعثة النبوية ومن ذلك:
🔴 الريادةُ الاقتصادية: لم يكن مألوفا،ولم تعرف العربُ من قبل السيدة خديجة،لم تعرف شخصيةً نسائيةً ذات فكر اقتصادي تجاري، تؤسس لنفسها ثروةً ماليةً كبيرة ،بعيدا عن الربا واستغلال احتياج الناس للأموال، فقد ذكرت المصادرُ التأريخيةُ بأنها كانت تملك أكثر من ثمانين ألف جمل،وكانت تستأجر الرجال ليسيروا بقافلتها حتی سمعت بأمانة رسول الله الأعظم محمد(صلی الله عليه وآله) وصدقه وحسن خُلقه فأوكلته تجارتَها،فصار يخرج بتجارتها الی الشام ويصحب معه غلامَها ميسرة، وقد كانت السيدة خديجة حازمةً وشديدةً ولها هيبةٌ وحضوٌر بين قومها،وهذا كان من مقومات نجاحها وريادتها الاقتصادية.
يُنظر:البداية والنهاية،ابن كثير:1 /233-234
وهذا حتما كان بتوفيقٍ وترتيب من الله تعالی،فقد جرت السننُ الإلهيةُ علی رعايةِ الأنبياء والمرسلين وتهيئة الظروفِ الملائمة لهم، ووضع الشخصيات المؤسسة والساندة والداعمة لرسالاتهم،سواء أكانت هذه الشخصيات من الرجال أم من النساء،فلابد من مقومات أرضية تُنجح العمل الرسالي فضلا عن التسديد الإلهي،وهذه المقومات تختلف من رسالة إلی أخری، ومن نبيٍّ إلی آخر بحسب الظرف المحيط به، وبحسب المُخاطَب الذي يوجه إليه الرسالة،وسنری كيف أسست ريادةُ السيدةِ (خديجة) الاقتصادية عمادا وأساسا للرسالة المحمدية، فقد منحت الإسلامَ كلَّ ما تملكُ من ثروةٍ وأموالٍ وجاهٍ وحسبٍ ورفعةٍ ،وقد اختزل الرسولُ الأعظمُ دورَها التأسيسي بحديثٍ صريحٍ وبيّن ذلك ، حين قال (صلى الله عليه وآله): [ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مالُ خديجة وسيف علي بن أبي طالب] حلية الأبرار،هاشم البحراني:١/ ١٤٧
هنا يوضح الرسول عماد نجاح رسالتِه وهو أنموذج لنجاح أي عملٍ وهو : المال والقيادة الحازمة.
🔴 الريادة الدينية(التصديق والتسليم): من أخطر المراحل التي يواجهها الأنبياءُ والمرسلون مرحلة التأسيس والتثبيت التي تسبق الشيوع. فهنا ـ غالباـ تكون المواجهةُ غيرَ متوازنةٍ،فيواجه الفردُ (الرسول) جماعاتٍ بشرية ،جماعات قد ورثت مفهوماتٍ وعباداتٍ وسلوكياتٍ لايمكنها التخلي عنها ونبذها ،ولاسيما إذا كانت الرسالةُ الجديدةُ تضربُ المصالحَ الماليةَ والمنافعَ الخاصةَ المتعلقةَ بالجاهِ والسلطةِ والحسبِ، وفي هذه المرحلة يكون وجودُ الأشخاصِ المتصدينَ مع الرسولِ متأتيا عن طريق الاصطفاء والانتقاء الإلهي،والتوفيق الرباني،فهذه مرحلة تحتاج الی تصديقٍ عميق، وتسليمٍ مطلق، وقوةِ إيمانٍ،وثباتٍ روحيٍّ وماديٍّ،يتلاءم مع حجم المسؤولية وقدر المواجهة.
وإذا تحدثنا عن رسول الله الأعظم ورسالته الشريفة سنجد الريادةَ الدينية َ منحصرةً بشخصينِ عظيمين ،نهض علی إيمانِهما ودورِهما الإسلامُ ألا وهما : الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) والسيدة خديجة(عليها السلام)فهما أول من آمن، وأول من صدّق، وأول من عبد، وأول من صلی مع رسول الله الأعظم، وهما نقطةُ ارتكازِ الرسالةِ المحمديةِ ،وبؤرةِ انطلاقِها، وهما رداءُ القوةِ والعزيمةِ الذي تدثر به الرسولُ، وهما الدرعُ القويةُ التي تحصَّنَ بها الرسولُ واستقوی بها في مواجهةِ الجبتِ والطاغوت، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسولُ الله (صـلى الله علـيه وآله) لا يكاد يخرجُ من البيتِ حتّى يذكر خديجةَ فيُحسن الثناءَ عليها، فذكرها يوماً من الأيام فادركتني الغَيرةُ فقلتُ : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعرهِ من الغضب ثم قال : لا واللّه ما أبْدلَني الله ُ خيراً منها؛ آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ،وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ. ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولادَ النساء قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئةٍ ابداً،
صحيح البخاري: 5 / 39
وقد قال الإمام علي(عليه السلام):[كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاثَ حجَجٍ وما عَلى الأَرضِ خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنةِ خويلد رحمها اللّه]بحار الأنوار ،المجلسي: 16 / 2
وكل ذلك يبين مكانتها ويعكس دورها الريادي المتفرد.
🔴 الريادة الاجتماعية:
وهي ريادة مترتبة علی العنصرين السابقين ،أو متعلقة بهما، فهي زوجُ الرسول الأولی، وهي أمُّ امتدادهِ، وأمُّ بضعته، وهي سكينتهُ وأمانهُ، ووطنه وبيئته الآمنة التي أعانته علی مواجهة الظلم والطغيان،وكما لاحظنا في المحور السابق كيف تحدث عنها الرسولُ الأعظم،وكيف كان دؤوبا علی إنصافها وذكر فضلها،ليس في حياتها وحسب، بل حتی بعد رحيلها،رحيلها الذي أدمی قلبَهُ ودفعه إلی أن يسميَ العامَ الذي غادرت فيه السيدةُ خديجة وغادر قبلها أبو طالب بـ(عام الحزن)
وكان (صلی الله عليه وآله) يحترم صاحبات السيدة خديجة ويحتفي بهنّ : فقد وقف علی عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال : [إن حسنَ العهدِ من الإيمان ، إنها كانت تأتينا أيام خديجة ]وكان (صلی الله عليه وآله) يرسل الهدايا ويقول:[اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقةً لخديجة إنها كانت تحب خديجة] سفينة البحار ،القمي: 1 / 380
وهذه خصائص ريادية مُنحت للسيدة خديجة حصرا ولم تُمنح لغيرها،لافي حياتها ولا بعد رحيلها المُفجع لقلب الرسول.
🔴 ريادة المكانة الخاصة:
لقد اصطفی الله تعالی بعضَ النساء وفضلهن تفضيلا،ووهبهن مكانة رفيعة، ومقاما محمودا كالسيدةِ آسية بنت مزاحم، والسيدة أمِّ موسی ، والسيدةِ مريم ، وكذلك السيدة خديجة وقد قال رسول الله الأعظم:(صلى الله عليه وآله وسلم) : [أفضل نساء الجنة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون] الخصال،الصدوق : 1 /96
وعلی الرغم من أن سياق الحديث قد جمعهن إلا أن للسيدة خديجة الريادة والتفرد دونا عن غيرها ،فهي الوحيدة التي خصها الله تعالی بخطابه وسلامه كما ورد
عن رسول الله الأعظم:[ أتاني جبرئيلُ ( عليه السلام ) فقال:يا رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنيةٌ فيها إدام أو طعام أو شراب ، فاذا هي أتتك فاقرأ ( عليها السلام ) من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ] صحيح مسلم :7/ 133
ثم ردت عليه السيدة العالمة المهذبة بـ[الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام]
فلم يخصص اللهُ امرأةً بسلامه كما خصّ السيدة خديجة عليها السلام،كيف لا وهي أم الرسالة، ووعاء الأئمة كما قال رسول الله: [يا فاطمة،إن بطنَ أمِّكِ كان وعاءً للأئمة]
المناقب،ابن شهر آشوب:3/ 335.
ـ⭕️ الدور القيادي:
لقد ذكرنا في تعريف الريادة والقيادة أن القيادةَ هي استثمارٌ، استثمارُ القدرات والمواهب والمعطيات في إنجاح إدارة أي عملٍ من الأعمال، والقدرة علی التأثير في الآخرين وإقناعهم وتوجييهم بالشكل الذي يوصل الی تحقيق الهدف المنشود،وبالنسبة للسيدة خديجة(عليها السلام) كان لها دور قياديّ مساند لقيادة الرسول الأعظم كما كان دور أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقد وظفت كل المؤهلات والمعطيات التي تمتلكها من أجل تحقيق إدارة ناجحة لمرحلة عصيبة،ولاسيما وهي السيدة الجليلة الوقور التي تهابها قريش، وهي في الوقت ذاته القلب المحِبّ للرسول الأعظم، القلب المصدّق المسلِّم له، فكان لابد من وجود شخصيات فاعلة تحث الأقربين والمؤمنين علی الصبر والثبات، وتمنحهم القدرة علی المواجهة،فالسيدة خديجة بعد ما كانت تشارك الرسول الأعظم لحظات العناء والتعبد في غار حراء،فتحمل له الطعام والشراب، وبعد أن كانت ترسل غلمانها لحمايته وكف الأذی
عنه، بعد ذلك كله شكلت جدارا صادا منيعا، وخيمة حانية، وقلبا صابرا لبني هاشم حين حاصرتهم قوی الطغيان في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات!!
هناك حيث أغلق طغاة قريش أبواب الحياة علی بني هاشم وعلی كل مؤمن برسالة المصطفی،ثلاث سنوات من الجوع والحرمان والقطيعة، ثلاث سنوات من العويل والبكاء والصراخ، إذ وصل الحال بهم أن يأكلوا من أوراق الشجر!!
ظن الجبابرة أن التجويع سيكسر شوكة بني هاشم، وانهم سيتراجعون ويتركون رسول الله لوحده!!
وفي هذه الأعوام القاسية ظهر دور السيدة خديجة القيادي المساند،فهي الأم الحنون المواسية للباكين،وهي العقل الاقتصادي والسند المالي الذي يدبر معيشة بني هاشم في شدة الحصار!!
وكان أهل مكة لايجرؤون علی بيع شيء للهواشم إلا في موسم الحج، وكانوا يؤوذون من يبيعهم شيئا أو يرسل إليهم طعاما بضربهِ ونهبِ مالهِ، إلا أن السيدةَ خديجة كانت توفر لهم الطعامَ عن طريقِ ابن أخيها (
حكيم بن حزام بن خويلد) وغلمانها،وحتی في فترة الحج كانوا يبيعونهم الأطعمةَ بأضعافٍ مضاعفةٍ،ومع مرور الأيام اشتدت الأوضاع أكثر، وضغط الجوع والحرمان علی أضلاعهم ونفدت أموال السيدة خديجة ونفدت معها أموال أبي طالب، لكنها بقيت مساندةً قويةً للرسول الأعظم وللمؤمنين حتی نهاية المطاف.
لهذا تُعد السيدة خديجة عليها السلام أنموذجَ المرأةِ القويةِ، الحكيمة ِالمفكرةِ العاملةِ،ويُعدّ دورها دورا رياديا وقياديا ونبراسا لكل نساء العالم، فمن تريد أن تبنيَ نفسها وتفرضَ وجودَها فلتعد الی هذا الأنموذج المتفرد الذي منّ الله به علی المؤمنين إذ جعل السيدة خديجة بنت خويلد أمَّا لهم.فالسلام عليها يوم وُلدت ويوم رحلت ويوم تُبعث حية.
https://telegram.me/buratha