فهد الجبوري ||
العلاقات بين الدول اليوم تتحكم بها المصالح ، وليس المباديء ، وهناك الكثير من الحكومات والأنظمة التي تتحدث عن ضرورة احترام حقوق الإنسان ، وتدعو الى تطبيق مفاهيم مثل العدالة والشفافية ، والنزاهة السياسية ، واحترام حرية الرأي والتعبير وغير ذلك . ولكن رفع الشعارات شئ ، وتطبيقها على أرض الواقع شئ آخر . وهناك العديد من الأمثلة والنماذج التي تشير الى تناقض واضح بين النظرية والممارسة ، بين الشعار والتطبيق .
وفي الأعم الأغلب ، وفي زمن تتدافع فيه المصالح ، وتتراجع المبادئ والشعارات ، تبقى قضية حقوق الإنسان مجرد شعار يتم رفعه عندما تكون حاجة الى ذلك ، ويتم طمسه عندما تقفز المصالح الى السطح ، وترتقي الى قمة العلاقات بين الدول .
هذه القضية تجد لها مصداقا واضحا في موقف تركيا ، ومسار علاقاتها مع النظام الحاكم في السعودية . فبعد قطيعة في العلاقة حدثت على أثر مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في عام ٢٠١٨ ، وهي الحادثة التي اثبتت كل الدلائل والتحقيقات أن ولي العهد السعودي ، الحاكم الفعلي في الرياض ، هو من أصدر الأوامر بتصفية خاشقجي وتقطيع أوصاله بطريقة وحشية . ومن ذلك ما قاله الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بنفسه " إن عملية القتل قد تمت بأوامر صدرت من جهات عليا في الحكومة السعودية .
وقد شاب العلاقات بين انقرة والرياض توتر واضح لان حادثة القتل وقعت على أرض تركية ، مما يعد انتهاكا صارخا لسيادة تركيا ، كما أن خطيبة خاشقجي السيدة خديجة جنكيز تحمل الجنسية التركية ، وقد ذهبت مع خطيبها الى القنصلية السعودية في إسطنبول لتصديق عقد زواجهما . والتي انتظرته خارج القنصلية ، لكن خطيبها دخل ولم يعثر على جثته حتى الآن .
وقد اثارت حادثة القتل المروعة غضبا عارما على مستوى العالم . حتى أن واشنطن لم تتمكن من إخفاء الحقيقة ، حيث أعلنت رسميا ، من خلال الكونغرس ، ومن خلال وكالة المخابرات المركزية أن ولي العهد محمد بن سلمان هو الذي اصدر بشكل مباشر أمر تصفية الصحافي خاشقجي الذي كان يقيم بصفة رسمية في الولايات المتحدة ، وكاتبا مساهماً في صحيفة واشنطن بوست .
ولي العهد السعودي ، المتهم الأول في قتل خاشقجي ، حل اليوم ضيفا كريما على الرئيس اردوغان في زيارة رسمية ، وذلك بعد زيارة قام بها الرئيس التركي الى السعودية في نيسان الماضي .
وسائل الاعلام العالمية تناولت زيارة بن سلمان الى انقرة واعتبرتها نقطة تحول في مسار العلاقات بين البلدين ، بعد عدة سنوات من القطيعة والعداوة .
وجاء في تقرير لصحيفة الغاردين " أن زيارة ولي العهد السعودي شكلت نقلة أساسية في سياسات الشرق الأوسط ومثلت آخر الجهود الرامية الى عودة السعودية الى المجتمع الدولي بعد تعهدات بعزلها ومقاطعتها بسبب حادثة مقتل خاشقجي .
ونقلت عن خطيبة خاشقجي قولها " إن زيارته الى بلدنا لا تغير من حقيقة أنه كان هو المسؤول عن القتل . والشرعية السياسية التي يحصل عليها من خلال هذه الزيارات التي يقوم بها لمختلف البلدان لن تغير من حقيقة كونه هو القاتل "
وقالت الصحيفة " إن اردوغان قاد الجهود الدولية لإدانة مقتل خاشقجي ، واصفا تركيا " بأنها ممثل الضمير العالمي المشترك وذلك في خطاب له في اكتوبر عام ٢٠١٨"
وقال في مقالة نشرها في صحيفة واشنطن بوست عام ٢٠١٨ " نحن نعلم ان الأمر بقتل خاشقجي قد صدر عن المستويات العليا في الحكومة "
وأشارت الغاردين الى زيارات اردوغان للسعودية ودولة الإمارات وقالت أنها جاءت في وقت حاسم ، بعد انهيار قيمة الليرة التركية بحوالي نصف قيمتها في السنة السابقة . ونقلت عن خبير وباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية قوله " أن اردوغان من الواضح يريد ان يركز على القضايا المحلية ، وإنه يائس للغاية لجمع الأموال لتركيا ، كما أنه ايضا يغير من سياسته اتجاه الشرق الاوسط ، حيث بعد الربيع العربي ، كانت تركيا تدعم التغيير الجماهيري في البلدان العربية "
وفي تقرير لها حول الزيارة قالت قناة بي بي سي أن زيارة محمد بن سلمان الى تركيا جاءت بعد ثلاثة اسابيع من ايقاف محكمة في إسطنبول المحاكمة الغيابية ل ٢٦ مواطنا سعوديا ، بينهم اثنان من مساعدي ولي العهد السعودي المتهمين بقتل خاشقجي .
وهكذا وبكل بساطة يسدل الستار على هذه القضية الإنسانية ، ومرة اخرى تتغلب المصالح على المبادئ ، وقريبا سوف يحل الرئيس الأمريكي جو بايدن ضيفا على ولي العهد السعودي ، ناكثا الوعد الذي قطعه خلال حملته الانتخابية بجعل السعودية دولة " منبوذة " بسبب قتل خاشقج
عالم تحكمه المصالح ، وحقوق الإنسان تبقى مجرد شعار وكذبة كبرى
ــــــــ
https://telegram.me/buratha