رواء الجبوري ||
ليس هناك شيء أعظم من العلم، وليس هناك مهنة أشرف من مهنة التعليم، فهي مهنة الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين، فهذا نوح (عليه السلام) يقول لقومه (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وهذا هو نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوه الله عزو وجل لتبليغ رسالته إلى قومه لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ).
من هذا المنطلق؛ كان ومازال التعليم يٌعد حقا أساسيا من حقوق الإنسان، بل هو أول الحقوق التي ينبغي أن يحظى بها بعد حق الحياة، وهو حق كل فرد، أكان طفلا أم يافعا أم راشدا، في الحصول على تربية جيدة تحترم كرامته، ويتحقق نمو شخصيته، على أفضل وجه، حتى يتمكن من تحقيق ذاته، ويصبح عنصرا فاعلا في المجتمع.
يحتل التعليم الاهلي أهمية اساسية في العراق كرديف للتعليم الجامعي الرسمي في المرحلة الراهنة هذا ويرجح البعض إلى أن انتشار التعليم الأهلي في العراق ، جاء بسبب تردي واقع التعليم الحكومي بعد عام ٢٠٠٣ ، بينما يرى البعض الآخر أن التدخل السياسي لرجال السياسة العراقيين ، قد فرض وجود التعليم الأهلي في البلد ، لأسباب وأهداف سياسية وتجارية ربحية بحتة، وعلى الرغم من ان التعليم الاهلي يعد من اهم القطاعات في الدول المتقدمة المستقرة لانه يساعد على دعم المستقبل بأجيال واعية وقادرة على البناء والتنمية والابتكار، اما في الدول غير المتقدمة غير مستقرة مثل العراق فلا يزال قطاع التعليم الاهلي فيها غير قادر وعابى بدوره في المجتمع.
ففي العراق فقد انتشرت الكليات والمدارس الاهلية فيه بعد عام 2003، وصار عددها يفوق عدد الجامعات والمدارس الحكومية، حتى اعداد الطلبة المسجلين فيها قد بلغوا حدا يلفت الانظار، واصبحت كل كلية ومدرسة اهلية تضخ الى الشارع العراقي الالاف من حملة شهادات وفي مختلف المجالات العلمية والانسانية.
و ان اغلب هذه المدارس و الكليات تركز على عامل الربح ، وبعبارة أكثر صراحة اغلبها وليس جميعها تحول الى دكاكين لبيع الشهادات، فالمبالغ التي يسددها الطلاب لهذه المدارس و الكليات هي بمثابة صكوك الغفران التي تؤهلهم للنجاح والتخرج منها، بغض النظر عن الدوام المنتظم فيها من عدمه.
أن لذلك آثار خطيرة، كتدني المستوى العلمي للخريجين، مما أفرز العديد من المظاهر الجانبية الخطيرة، من قبيل غياب الكفاءة التخصصية، وبالتالي إخفاق هؤلاء الخريجين في سوق العمل، اضافة إلى ان ذلك أنتج تراتبية طبقية، حيث اصبح المسؤولون وأبناؤهم، فضلا عن التجار وأصحاب الثراء الفاحش يحرصون على التسجيل في هذه الكليات الأهلية، لتحقيق نوع من المكانة داخل المجتمع، طالما أصبح النجاح مضمونا.
بنظرنا تكمن المشكلات الرئيسية للتعليم الاهلي في تمتع هذا النوع من التعليم بمميزات فريدة كالانتهازية والنفعية والربحية خصوصا في مجتمع تقلصت فيه ادوار الجامعة في بناء الانسان ويمر في ازمة اخلاقية واسعة النطاق فيه تتفكك منظومة الوحدة الوطنية بمفاهيم الطائفية السياسية والعرقية، ويتسع فيه حجم الفساد الاداري والمالي لدرجة رهيبة. يدعي البعض ان الكليات او المدارس الاهلية في العراق تلتزم بالشروط القانونية والاكاديمية والتعليمية لتخوفها من العقوبات ومصير الاغلاق في حالة عدم الوفاء بالتزاماتها.
ومن مساوئ التعليم الاهلي وخصوصا الكليات الاهلية هي: ان الكليات الاهلية ضربت التعليم الحكومي الذي يعتبر جيدا نسبيا، كون ان الكثير من الطلبة ذوي المعدلات المنخفضة يذهبون الى الكليات الاهلية و ان المتخرجين منها يسافرون على عجل الى الدول الاخرى ويحصلون على الشهادات، وانها اصبحت مرتع للطلبة المترفين من الذين لم يتمكنوا من دخول الجامعات الرسمية بناءً على رغبة عوائلهم للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية (وليس لاجل ابعادهم عن الارهاب والانحراف استنادا الى فلسفة التعليم العالي)، يتم تأسيس الكليات الاهلية على اساس عدد التدريسيين من حملة الشهادات العليا، لذا يتم الاتفاق مع بعض التدريسيين المتقاعدين مهما كانت اختصاصاتهم، فعلى سبيل المثال في احدى الكليات رئيس قسم هندسة الاتصالات هو خريج كلية الزراعة، ورئيس قسم تقنية الحاسبات هو خريج ادارة واقتصاد، اي لاصله لهم باختصاص القسم، وعميد الكلية او رئيس الجامعة الاهلية اشبه برئيس دولة حيث له الحق في فصل التدريسي متى ما شاء ولاي سبب كان،قبول بعض الطلبة على الدراسة المسائية من موظفي الدولة وغالبيتهم من الضباط والاداريين في دوائر الدولة وبعضهم يملك نفوذ يفرضه على اساتذة الجامعة لغرض مساعدتهم في التغاضي عن الغيابات الطويلة والمتكررة وبالتالي التغاضي عن عدم حضورهم الامتحانات واعطائهم درجات في نهاية الفصل من غير جهد او عناء، والبعض منها يعود الى الفائدة المتبادلة بين الطرفين، اي على سبيل المثال ضابط في المرور يصدر اجازة سوق لاحد الاساتذة مقابل تمشية اموره بالدرجات، وكثرة التجاوزات اللاخلاقية للطلبة على اساتذتهم، لان شعار الادارة هو خسارة استاذ هي افضل من خسارة طالب ، وتقاضي بعض اعضاء هيئات التدريس رشوات من الطلبة مقابل التغاضي عن غيابهم ، ومساعدتهم بطرق غير اخلاقية لتجنب الرسوب والفشل في الدراسة، و تفشي الغش بحيث انه اصبح حالة طبيعية،تفشي مظاهر الترف القائم على الغنى والاهتمام فوق العادة بالامور غير الاكاديمية والعلمية ، فضلا عن انخفاض المستوى العلمي بدرجة مذهلة حيث تبين عند اجراء امتحانات مركزية لبعض المواد الدراسية لطلبة المراحل النهائية في العام الماضي عندما فشل اكثر من 80% من طلبة الكليات الخاصة بالرغم من التسهيلات المقدمة لهم، ان المواد التدريسية عبارة عن ملازم من وريقات معدودة لا تتناسب مع اهمية المادة والمستوى العلمي الضروري لمنح الشهادة، قبول اعضاء لمجلس النواب واصحاب المناصب للدراسة فيها، ومن ثم ارسال من ينوب عنهم في الدراسة، وقبول طلبة وفقا للمحسوبية والمنسوبية خصوصا في الكليات الطبية والهندسية، كثرة اصحاب المعدلات العالية من خريجي الكليات الاهلية اصبحوا ينافسون خريجي الجامعات الرسمية في القبول في الدراسات العليا، وبالرغم من ان اغلبيتهم يرسب في امتحان القبول يتم قبول عدد منهم بسبب معدلاتهم العالية.
لذا ان طغيان الربحية وتغلغل النفوذ السياسي في مؤسسات التعليم الجامعي الأهلي ، تعد من أهم التحديات التي يواجهها التعليم الجامعي في العراق ، فالربحية العالية والسريعة جعلت نسبة أكثر من ٩٠ ٪ لتلك المؤسسات أن تدار من قبل أصحاب النفوذ ، والذين يقف خلفهم رجال سياسيين عراقيين ، كما وأن القصور في قانون التعليم الجامعي العراقي ( ٢٥ ) لسنة ٢٠١٦ . يعكس الحاجة الملحة إلى ضرورة إيجاد آليات طارئة وسريعة لتعديله ، وذلك لوجود أخطاء جوهرية في صياغة بنوده .
النتيجة اننا نحتاج الى وقفة جديدة امام وضع الكليات الاهلية ونحتاج الى إصلاح جذري لهذه المؤسسات التربوية المهمة اذ ان فوضى التعليم الأهلي في العراق ، وضعت مستقبل الأجيال العراقية على المحك .
(ان كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة اعظمُ )