الدكتور السفير جواد الهنداوي ||
رئيس المركز العربي الاوربي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل
/ ٢٠٢٣/٩/٢٧ .
مِنْ المفارقات التاريخية السياسية ، أنْ تتلقى المملكة العربية السعودية ، رسمياً ، برقية تهنئة بمناسبة عيدها الوطني ،من الجمهورية الاسلامية في ايران ، واخرى من الكيان الاسرائيلي .
في كتاباتنا قبل ثلاث سنوات ، أشرنا ، وفي عدّة مقالات ، الى التزاحم و التنافس المحموم بين إيران و تركيان و الكيان الاسرائيلي المحتل على قيادة المنطقة او الهيمنة على المنطقة . آنذاك ،كانت المملكة ، على مايبدوا ، سياسياً و اقتصادياً و أجتماعياً ، على مشرحة التحليل وتحت منظار الامير ،ولي العهد ،محمد بن سلمان .
ترّجمَ الامير ما أدّركه ، على ضوء نتائج مشرحة التحليل ؛ ثروة و مكانة دولية و جغرافية و تأثير سياسي و اقتصادي و نقدي في أحوال العالم ،تكادُ جميعها تتبّخرْ بسبب حرب اليمن و التطرف و الخصومة مع ايران . بعد ترسيخ منهجه و رؤيته ،أولَ ما عمله الامير محمد بن سلمان هو تبنيه لسياسة تصفير المشاكل و وضع عجلات المملكة على سكّة الحداثة و التغيير .
نجحَ الامير ،ولي العهد ، في ايقاف حرب اليمن ،و في خطوات نحو اتفاق سلام و عادل يحفظ سيادة البلديّن ، و نحجَ في كبح جماح التطرف وتعزيز أمن و أستقرار المملكة ، واعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران والبدء معها في تحريك عجلة التعاون و تطوير العلاقات .
سياسة المملكة في تصفير مشاكل المنطقة ليست كسياسة تركيا في تصفير المشاكل ، والتي أعلنها وتبناها وزير خارجية تركيا الاسبق ،أحمد داوود اوغلو ،تحت شعار ، " صفر مشاكل مع الجوار " ، عام ٢٠١١ ، والتي آلتْ الى " صفر علاقات مع دول المنطقة "، وساهمت في ترويج الارهاب و دعم الجماعات المسّلحة و التدخل في سيادة الدول . تزامنت سياسة المملكة في تصفير مشاكل المنطقة مع وقت الانتصار على الارهاب ، و كشف اوراقه و فضائحه ، و نفاذَ دوره ، و تزامنت ايضا مع رؤية استراتيجية للملكة مفادها السياسة في خدمة الاقتصاد و تطوير المملكة وليس العكس . بل وكانت ، ولاتزال ، سياسة تصفير المشاكل حاجة اساسيّة لتطوير المملكة وتنمية وازدهار المنطقة .
كانت المملكة ،في السنوات قبل ٢٠٢٠ ، غارقة في ازمات المنطقة( حرب اليمن ، العلاقة مع لبنان ، العلاقة مع ايران ،العلاقة مع سوريّة ) ، وكانت هذه الازمات مُحدّدات لدور المملكة في المنطقة و محدّدات لانطلاقها نحو التطوير والتغيير والتمنية ، بحيث كان دور المملكة و تأثيرها في السياسة و العلاقات الدولية اكثر من دورها و تأثيرها في سياسة المنطقة ،الامر الذي جعلَ اسرائيل تحلم بملأ الفراغ وتسعى منافسة ايران و تركيا لقيادة او الهيمنة على المنطقة ،مدعومة من امريكا و الغرب .
أتقنتْ المملكة سياسة ترويض امريكا و الغرب و اذعان اسرائيل بقوة الثروة و النفط و بجرأة اتخاذ القرار ،حتى و إنْ كان القرار يغيض امريكا و الغرب ، وسبقتها إيران في سياسة ترويض امريكا و الغرب و اذعان اسرائيل ،ولكن بقوة السلاح و الصمود و النفوذ المُسّلح وغير المُسّلحْ في المنطقة ،وايضاً بجرأة التصريح والتهديد بالرّد العسكري في حال تعرضها الى حرب .
أتقنتْ المملكة ايضاً فن المناورة و المرواغة السياسية و الدبلوماسيّة و قلبتْ الملف الايراني و الخطر الايراني من تهديد و ابتزاز غربي لها الى ورقة ضغط على امريكا و الغرب و اسرائيل و لصالحها ! كُلّما اقتربت المملكة خطوة تجاه ايران زادَ ارتباك امريكا و الغرب ، وتقربوا اكثر لارضاء المملكة . ها هو الرئيس ماكرون يُخبِر الرئيس بايدن بتطورات بين ايران و المملكة في الشأن النووي ،و يعرض عليه معلومات مُقلقة ، تفيد بأنَّ ايران عرضت للمملكة مشروع تعاون نووي مُغري جداً ،بموجبه تقوم ايران باستقبال ٦٠٠ باحث و متخصص سعودي ،في الشأن النووي ،لغرض التدريب في ايران ،دون شروط ايرانية ،بخلاف المشروع الامريكي الذي يفرض شروط كثيرة على المملكة ،تمّسُ سيادتها .
لم تتقدمْ المملكة نحو اسرائيل ، تطبيعاً او علاقات عامة ،دون مقابل ، وقد اعلنت المملكة ذلك صراحة لامريكا ولغيرها وللرأي العام ، و المُقابلْ المطلوب هو دولة فلسطينية و عاصمتها القدس الشرقية ، وقد قالها صراحة سفير المملكة المُعيّن حديثاً لدى فلسطين ، السيد السديري ، والذي وصل اول امس رام الله .
في مقال سابق لنا ، وبتاريخ ٢٠٢٣/٦/٢٣ ، نُشِرَ في جريدة الحوار الالكترونية ،بيروت ، وفي مواقع اخرى ،بينّا وبوضوح موقف المملكة من التطبيع ، وجاء في المقال مايلي "لن تقعْ المملكة في فخ التطبيع الابراهيمي ،فنأت بنفسها عن ايّة علاقة رسمية و دبلوماسيّة مع اسرائيل ، لم تنسْ المملكة رفض اسرائيل لمبادراتها للسلام في عام ١٩٨٢ و في عام ٢٠٠٢ " .
تبنّتْ السعودية ،على ما يبدوا ، وبجدّية القضية الفلسطينية ،لقاءات عديدة و مستمّرة بين السلطة الفلسطينة والمملكة ، وانتقلَ الثقل الفلسطيني او المسار الفلسطيني نحو السلام و نحو الحل الدولي المشروع بقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية ،من الاردن الى الرياض .
ثمن التطبيع بين المملكة و اسرائيل لن يكْ رخيصاً ، سيكون بقدر و اكثر ثمناً من ما تنتظره وتجنيه اسرائيل ، دولة فلسطينية ، وعودة لاسرائيل الى مواقعها التي كانت عليها قبل عام ١٩٦٧ ، وهذا يعني انسحابها من هضبة الجولان السوريّة المُحتلة .
تعلمُ المملكة بأن تطبيعها مع اسرائيل ،هو تعزيز سياسي و اقتصادي لكيان مُحتلْ و متغطرس و رافض لايَّ شرعية دولية ، و تعلمُ ايضاً انَّ تطبيعها مع اسرائيل له صورة سياسيّة و صورة اسلامية ، ودول عديدة مثل اندنوسيا ،ترفض اقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل ليس فقط لاسباب سياسيّة ،وانما ايضاً لاسباب دينيّة .
https://telegram.me/buratha