دراسات

علم السياسة والتحليل السياسي...بقلم: محمد المحفوظ

3850 17:30:00 2013-01-24

 

محمد المحفوظ* كاتب وباحث من أحرار مملكة آل سعود «سيهات»

."1"

من التعريفات الأساسية لعلم السياسة أنه علم السلطة، إذ لا تتحقق مفاهيم السياسة والعمل السياسي، بلا سلطة اجتماعية - سياسية، تمارس من خلالها السياسات ومفاهيم علم السياسة.. ويقول وليم روبسون «إن علم السياسة يقوم على دراسة السلطة في المجتمع، وعلى دراسة أسسها وعملية ممارستها وأهدافها ونتائجها».. فهو يحدد بهذا التعريف أن علم السياسة، هو محصور في إطار بنية السلطة وأهدافها، وطريق ممارسة النخب السياسية للسلطة.. وليست السلطة أو الدولة في حقيقتها وجوهرها إلا نوع من التنظيم السياسي والقانوني المتكامل للجماعة البشرية.. لذا فإن من الأمور والمكونات النظرية الأولى، التي ينبغي أن يتعرف عليها المحلل السياسي هو السلطة بنيتها - هيكلها - مؤسساتها - التركيب السياسي لها، والواقع الاجتماعي لها.. بمعنى أن السلطة السياسية انبثقت من أي واقع اجتماعي، لأنه لا شك أن واقع السلطة الاجتماعي، سيؤثر بشكل طبيعي على القرارات والسياسات الداخلية والخارجية للسلطة.. وكذلك العلاقة التي تربط النخب السياسية بشرائح وفئات المجتمع المختلفة.. هل هي تخضع لقواعد وقوانين ثابتة، أم هي علاقة يحددها مزاج النخب ومصالحها الشخصية والسياسية.. وهل هذه السلطة أو الدولة تتمتع بكل قوانين السيادة الداخلية والخارجية، من قبيل هل هي التي تتولى شؤون حماية أمنها، وأمن المواطنين أم غيرها من الدول والقوى، وهل هي تخضع لرقابة خارجية في تسيير شؤونها السياسية والاقتصادية والعسكرية أم لا، وهل هي حرة في انتخاب نظام الحكم الذي ترتضيه لنفسها من دون تدخل أي سلطة أو قوة أم لا.. كما أنه من الضروري معرفة نسبة تدخل النظام والسلطة في الحقل الاقتصادي، وطبيعة القرارات الحكومية إلزامية - استبدادية - ديمقراطية أو ما أشبه، والقيم الحاكمة في المجموعات الاجتماعية وبنية النفوذ في النخب السياسية السائدة.. إن جميع هذه العناصر والتساؤلات تشكل ما يسمى ب «علم السلطة» التي لها الدور الأكبر في سن القوانين، وتنفيذ السياسات، وتشكيل الأخلاق، وصنع الدبلوماسيات.

وبكلمة: أن هذه العناصر بتداخلاتها وعلاقاتها، تشكل مصدر النشاط السياسي بكل صوره وأشكاله.. والمحلل السياسي، لا يتمكن من معرفة حقيقة الأحداث والظواهر السياسية، من دون الإطلاع والمعرفة النظرية على بنية السلطة وطبيعتها وأهدافها، وأي واقع اجتماعي تشكله، وأي شكل سياسي ترتضيه وتسعى نحو تنفيذه في المجتمع.. وفي هذا الإطار يبقى علم السلطة هو المكون النظري الأول للمحلل السياسي..

«2»

معرفة المؤثرات التالية:

الموقع الجغرافي:

من حيث المساحة والموقع والتضاريس، وكبر حجم الدولة وجميع الأمور التي تؤثر في القرار السياسي للدولة.. ويذهب بعض المفكرين بعيدا إذ يعتبرون أن الموقع الجغرافي، هو العامل الأول في التأثير على القرار السياسي.. ويجعلوا عملية تأثير الجغرافيا في السياسة عملية حتمية لا مناص لها.. ونحن نذهب إلى أن للجغرافيا تأثير في العلاقة والقرار السياسيين، ولكنه تأثير لا يصل إلى حد الحتمي.. حيث أن الاتساع في حجم الدولة، يمكنها من إيواء واستيعاب كمية ضخمة من السكان، ويعطيها وفرة وتنوعا في الموارد والثروات الطبيعية.. كما أن الاتساع الجغرافي قد يعطي للدولة بعض المزايا العسكرية، من عمق دفاعي يصعب على العدو اختراقه.. فمثلا جمهورية روسيا الاتحادية تستطيع أن تصل إلى مراكز الصناعة والإنتاج في غرب أوروبا أسرع بكثير مما تقدر دول أوروبا الغربية إلى الوصول إلى مراكز جمهورية روسيا الاتحادية.. كل ذلك بفضل الموقع والاتساع الجغرافي الذي تتمتع به روسيا الاتحادية.. كما أن الموقع الجغرافي قد يعطي ويهب الدولة موانع وعوائق طبيعية تزيد من الاقتدار العسكري للدولة.. إذا اقترنت هذه العوائق الطبيعية بوجود قوة عسكرية كافية تساعد على حماية الدولة.. فجبال البرانس مثلا تعطي حماية عسكرية لا يستهان بها.. والأرض بالمفهوم الاقتصادي الذي يتعدى القشرة المعروفة المستعملة للأغراض الإنسانية والعمرانية والزراعية، لتشمل جميع المواد الخام الأساسية، وقوى الطبيعة الثروات الدفينة وكافة المواد الصالحة للاستعمال والاستهلاك والتصنيع والتمويل، إلى سلع مفيدة لتلبية حاجات الإنسان واستمرار حياته.. كل هذه الأمور المرتبطة بالأرض كمصدر اقتصادي، له تأثير في عالم السياسة.. فأهم العوامل التي أسهمت في هزيمة هتلر في الحرب الكونية الثانية وبخاصة في الصحراء الغربية «معركة العلمين» كان عدم وجود البترول، مما جعل دباباته لا قيمة لها بالمرة.. مما مكن مونتغمري القائد العسكري البريطاني من الانقضاض على خصمه والانتصار عليه، ودحر قوى ألمانيا النازية بقيادة ثعلب الصحراء «رومل»..

وجماع القول: فإن الموقع الجغرافي للدولة ومناخها ومواردها الطبيعية، متغيرات مهمة وحقائق شاخصة تؤثر في شكل الدولة وفي النظام السياسي القائم، وفي قوة الدولة وعلاقاتها بغيرها من الدول والشعوب.. وليس أدل على تأثير الموقع الجغرافي في السياسية، من ظهور علم «الجيبوبولتيك» الذي يتناول المتغير الجغرافي وعلاقاته بالسياسة..

المسألة الديمغرافية «السكانية»:

ويمكننا القول: أن القرارات السياسية سواءا كانت قرارات حرب أو سلم للمسألة السكانية تأثير لا يستهان به على هذه القرارات.. فإسرائيل مثلا دائما تنتخب في حروبها أسلوب حروب الاستنزاف أو الحروب السريعة.. لأن قدرتها السكانية، لا تسمح لها بحروب طويلة الأمد.. وتظهر أهمية السكان للدولة والنظام السياسي، من أنهم يشكلون عصب القوة البشرية اللازمة، لإدارة أجهزة الإنتاج المدني.. ولا يمكن أن نتصور حكومة بلا قدرة بشرية، لتسيير شؤونها الإدارية والاجتماعية والسياسية وما أشبه.. كما أن السكان هم الذين يشكلون المؤسسة العسكرية التي تحمي الدولة وثغورها.. وعلى ضوء ذلك فإن للكثافة السكانية أو عدمها دور مباشر في العملية السياسية المحلية والخارجية.. فكثير من الدول تعتبر ضعيفة ليس لموقعها الجغرافي مثلا، وإنما لقلة سكانها، مما يجعلها عرضة لقوى إقليمية أو دولية تسيطر عليها.. كما أن الدولة ذات الكثافة السكانية تعتبر قوة إستراتيجية وعمق بشري، يصعب احتلالها، والسيطرة عليها.. لأن العمق البشري سيكون سندا لسياسة الدولة.. فجمهورية مصر العربية مثلا على الصعيدين القومي والأفريقي، لها تأثير قوي في مسار الأحداث السياسية والاجتماعية والعسكرية.. ولا ريب أن أحد عوامل هذا الدور والتأثير المتميز لمصر، يرجع إلى كثافتها السكانية، مما يجعلها قوة سياسية وذات تأثير ضخم على صعيد مشكلات الشرق الأوسط قاطبة.. والقيمة العملية لكبر حجم السكان وكثافتهم، تبدو من الناحية الاقتصادية في مجال الإنتاج الاقتصادي بالذات.. فمنطقة الخليج مثلا لقلة سكانها، فهي تستورد اليد العاملة من أجل عملية الإنتاج الاقتصادي للدولة.. وفي المقابل الدول ذات الكثافة السكانية يكون لديها فائض بشري خارج عن الدورة الاقتصادية للبلد.. لذلك يسمحوا بتصدير اليد العاملة للدول الأخرى.. كما أن للتنوع الأثني والعرقي والمذهبي والديني للسكان تأثير في عالم السياسة.. فمثلا لا يمكن فهم ما يجري في لبنان من دون معرفة التركيبة السكانية المعقدة للشعب اللبناني.. فالتعددية الهائلة للأطراف والقوى القادرة على التأثير في المسيرة السياسية، ومن تعدد انتماءات هذه الأطراف ومصالحها وتضاربها الشديد، وطبيعة الجذور التاريخية المشوهة للتركيبة اللبنانية القائمة سياسيا - عسكريا - ثقافيا - اجتماعيا - اقتصاديا لكل هذه الأمور تأثير في فصول الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية التي تجري في لبنان.. «فالتركيب السكاني اللبناني الذي أفرز وبمساعدة دول كبرى، مؤسسات طائفية ودستور يعتمد على التعدد المذهبي، وبنية دستورية وقانونية، قامت على أساس أن الجغرافية هي التي تحدد مصير لبنان.. فهو بسبب موقعه الجغرافي يعتبر رأس جسر نموذجي، وأنه مفترق طرق كما يقول أحد مؤسسي الدستور اللبناني «ميشيل شيما» فهو يسعى بكل الإمكانات والسبل إلى عزل لبنان عن محيطه العربي والإسلامي، ودفعه بقوة في عجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي..

فالتركيب السكاني المتعدد والمتنوعة مصادره ومشاربه ومدارسه المذهبية والفكرية والسياسية، له دور لا يستهان به في عالم السياسة..

العامل الاقتصادي والتكنولوجي:

ونقصد بذلك مستوى النمو الاقتصادي والتكنولوجي والفني، الذي وصلته الدولة.. فمعرفة درجة التصنيع مثلا، يؤهلنا إلى استنتاجات صحيحة عن السياسة الاقتصادية لها.. ووجود التكنولوجيا يهيئ أكفأ وسائل استغلال الإمكانات الطبيعية والمادية والبشرية المتاحة بدلا من الركون إلى نماذج سيئة في استغلال الثروات.. وتنعكس قوة الدولة الاقتصادية، في قدرتها على استخدام الأدوات الاقتصادية، للتأثير في اتجاهات وسياسات الدول الأخرى..

 

فالولايات المتحدة الأمريكية استطاعت التحكم في مصائر الكثير من الدول والشعوب، بفعل قوتها الاقتصادية، وقدرتها على توظيفها سياسيا.. والغرب بمؤسساته الدولية ضغط على «غانا» في عهد نكروما للأخذ بمظاهر الحداثة والتحديث، وكرست جهود كبيرة وموارد كثيرة لاكتساب رموز الحداثة «مؤسسات - آلات - مصانع - جهاز الدولة» فكانت النتيجة النهائية تحديثا بغير تنمية حقيقية.. فالمستوى الاقتصادي والتكنولوجي، له تأثير مباشر في العملية السياسية..

ويمكننا أن نوضح دور المستوى الاقتصادي والتكنولوجي في عالم السياسة عن طريق المفردات التالية:

- المشكلات الاقتصادية الداخلية التي تعاني منها الدولة..

- الثروات ومصادر الدخل القومي للدولة..

- هل وصلت الدولة إلى حد الكفاية الذاتية أم لا..

- السياسات الإنمائية والتنموية للدولة..

- علاقات الدولة الاقتصادية بالخارج..

من خلال هذه المفردات وغيرها نتمكن من معرفة المستوى الاقتصادي للدولة.. فمثلا السياسات الإنمائية المتبعة في العالم الثالث عند التحليل والتأمل، نرى أنها هي المسئولة عن بقاء التخلف وعن تطوير التبعية وزيادة اختلال توازن المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا.. حيث أن جميع المشاريع والأعمال التخطيطية، أتت في الحقيقة نتيجة النظرة الاغترابية تجاه المستوى الاقتصادي في البلدان المتطورة صناعيا.. ولذلك أتت بنتائج عكسية أي بتعميق التبعية التكنولوجية والغذائية تجاه الغرب الصناعي.. كما أن سياسات التنمية المتبعة في بلدان العالم الثالث، تناسب مصالح الدول المتقدمة صناعيا، من حيث اعتمادها على تعامل كثيف وغير متكافئ مع الدول الصناعية.. مما يتطلب الاستعراض واستيراد الآلات المكلفة والمعقدة، بما لا يراعي ظروف البيئة والمستوى التقني المحلي.. وينتج عن ذلك تبذير وضياع اقتصادي واجتماعي لا حد له.. كما أن من الأمور المهمة على الصعيد الاقتصادي، وجود الشركات الاقتصادية الكبرى في بلدان العالم الثالث.. فالمحلل السياسي مثلا للوضع الاقتصادي في أي دولة عربية أو ثالثية، لا يمكنه أن يصل إلى نتائج حقيقية وسليمة عنه من دون معرفة دور الشركات الكبرى والعابرة للقارات في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة..

والشيء الثابت في هذا الصدد أن العوامل الاقتصادية والإنتاجية على شمولها واتساعها وتنوعها، تتفاعل مع الوضع السياسي فتنفعل به وبالعكس.. لذلك من الأمور الضرورية في البناء النظري للمحلل السياسي هو معرفة المستوى الاقتصادي للدولة.. حيث أن قوانين الاقتصاد مثل العرض والطلب أو أزمات المجاعة وتضخم الإنتاج وما أشبه كلها عناصر لها تأثير مباشر على عالم السياسة.. وأيضا لا بد من معرفة التكتلات والنقابات والتجمعات المرتبطة بالوضع الاقتصادي للدولة كنقابة العمال والفالحين وما شاكل ذلك، والعلم بالتكتلات والهيئات الاقتصادية الإقليمية أو الدولية، التي تنتمي إليها الدولة في الخارج.. فمثلا لا يمكننا فهم ماجرى من أحداث سياسية في بولندا بدون معرفة «نقابة تضامن» ودورها في الصراع السياسي المحلي وتأثيرها الخارجي سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا.. كما إننا لا نتصور الوضع الاقتصادي لأوروبا الغربية بدون معرفة الدور والامتيازات الاقتصادية والسياسية والتجارية التي يقدمها «السوق الأوروبية المشتركة» إلى الدول المنتمية إليه.. كما ينطبق ذلك على أعضاء «الكوميكون» ولكي نفهم العملية السياسية بوضوح ويكون البناء النظري للمحلل السياسي متينا من الضروري إدراك ومعرفة ووعي التجمعات الدولية كـ «صندوق النقد الدولي والبنك الدولي» ودورها وتأثيرها على دول العالم قاطبة.. ومن الملاحظ أن البلدان التي ارتبطت بالصندوق الدولي، وجربت السياسات الاقتصادية، كانت النتيجة النهائية المزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتراجع معدلات النمو والإنتاجية وارتفاع العجز في الميزانية، وتفاقم مستوى خدمة الدين الخارجي، واستفحال الأزمة الغذائية من جراء تدني مردود القطاع الزراعي..

فإذا أردنا أن نحلل الوضع الاقتصادي لأي بلد، لا يمكننا فهم الوضع الاقتصادي، ومعرفة هياكله ومؤسساته ودورها في المجتمع، بدون معرفة ووعي دور المؤسسات الاقتصادية الدولية ودورها في تخريب الاقتصاد في ذلك البلد.. ومن المعروف أن للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، حقا في تحديد طبيعة المشاريع المقرر إنشاؤها وتحويلها بقروض منه، أو من مستثمرين خاصين بضمانات منه.. فهو لا يقدم أي قرض ما لم تقدم لجنة خاصة تقريرا توصي فيه بإقامة المشروع المطلوب بعد دراسة فوائده.. والملاحظ في كل البلدان التي عمل فيها البنك الدولي، إنه تركز اهتمامه على تمويل المشاريع الهيكلية الاقتصادية كشبكات الطرق ومحطات توليد الكهرباء والموانئ والمخازن مهملا المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية الأساسية.. كما أن البنك يفرض ضمانات مقابل القروض التي يمنحها، لا تأخذ شكل عمولات فحسب، يل تأكيدات وضمانات ضد التغييرات السياسية والاقتصادية المحتملة في البلدان المقترضة «بالكسر».. ونستخلص مما سبق أن للمؤسسات الاقتصادية الدولية تأثير في القرارات السياسية، والمحلل السياسي لا يستطيع فهم السياسة الاقتصادية لدولة من الدول، من دون معرفة دور هذه المؤسسات الاقتصادية..

موقع الدين في الحكم والمجتمع:

ثمة نسبة من الأحداث السياسية التي تجري في العالم، بدافع وحافز أيدلوجي.. لذلك فمن الضروري بمكان للمحلل السياسي، أن يتعرف على موقع الدين والأيدلوجية في السلطة والمجتمع.. فلا يمكن للمحلل السياسي أن يتعرف على جوهر الصراع العربي - الصهيوني - بدون معرفة موقع الدين في هذا الصراع لكلا الطرفين.. كما أنه لا يمكن فهم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للهند، من دون التعرف على موقع الدين في المجتمع الهندي.. كما أن معرفة أيدلوجية السلطة مسألة مهمة في التحليل السياسي.. إذ لا وجود للممارسة سياسية بلا أيدلوجية وتحت تأثيرها يتحرك الفعل السياسي في الاتجاه الذي يتناغم كليا أو جزئيا مع المنظومة الفكرية «النظرية» لهذا الكيان السياسي.. فالخيارات الأيدلوجية للمؤسسة الحاكمة والمجتمع بفئاته وتكتلاته السياسية والاقتصادية والثقافية، لها تأثير جلي وواضح في الممارسة السياسية.. فالحاكم السياسي الذي ينتخب خيار العلمانية كنهج مجتمعي وسياسي، لا يمكن أن يجعل حكمه وقراراته السياسية بمعزل عن تأثير هذا الخيار وهكذا دواليك.. كما أن المجتمع الذي يرتضي الإسلام نهجا للحياة والحكم، لا يستطيع البقاء تحت حكم فئة أو حزب أو شخص لديه خيار أيدلوجي يناقض خيار الإسلام.. ولو رجعنا قليلا إلى التاريخ لوجدنا التأثير البين للدين في العملية السياسية والحضارية للمجتمعات والأمم.. فالأوروبيون حينما شنوا حروبهم الرعناء ضد العالم الإسلامي، كانت بدافع ديني صليبي لذلك سميت تلك الحروب «بالصليبية» حيث ألقى البابا أربانوس في 26 تشرين الثاني عام «1059» خطبته في كلرمونت من مناطق فرنسا الجنوبية الشرقية، ودعا الصليبيين إلى إعادة كنيسة القيامة وانتزاعها مما أسماهم بالقوم الأشرار.. وقد أشعلت هذه الخطبة نيران الأحقاد في نفوس الأوروبيين، فقد تنادى الإفرنج وصاحوا صيحتهم الحاقدة «ديوسي فولت» أي الله أرادها.. وقد استجاب لدعوة البابا في ربيع السنة التالية نحو مئة وخمسين ألف رجل.. كما أن اليقظة والانبعاث الذي حدث في العالم الإسلامي آنذاك للدفاع عن النفس والمقدسات كان بدافع إسلامي وديني..

فاللدين «بمعناه الشمولي» تأثير لا يمكن تحديد مداه، ومعرفة صداه في العملية السياسية والحضارية على المجتمعات والشعوب.. لذلك لا بد للمحلل السياسي أن يتعرف وبدقة على جوهر الدين ودوره وتأثيره في المؤسسة الحاكمة والمجتمع، حتى يخلص إلى نتيجة وتحليل سياسي سليم ودقيق..

المستوى العسكري:

«لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نفصل المستوى والوضع العسكري لدولة من الدول، عن وضعها وكيانها السياسي.. إذ أن الاستعداد العسكري كان ضروريا دائما لمساندة ودعم القرار السياسي للدولة».. فالكيان الصهيوني مثلا في كل قراراته السياسية المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط، كانت مسنودة ومدعومة من قبل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.. حتى قيل أن المفاوضات والمباحثات لا تحسم في القاعات، وإنما في سوح القتال.. والذي يفرض قوته في ساحة المعركة والقتال، هو الذي سيتحكم في جريان المفاوضات والمباحثات.. وفي المقابل فإن الدولة التي لا تمتلك مؤسسة عسكرية قوية، يبقى تأثيرها السياسي محدود.. والدولة التي تمتلك الكفاءة العالية والعملية في إعداد الجهة المدنية لخدمة المجهود العسكري، تشكل قوة سياسية - عسكرية لا يستهان بها.. لأنها استطاعت أن تعبأ المجتمع المدني لإسناد الجيش والمؤسسة العسكرية.. كما أن الجيش ذا الكفاءة العالية في التدريب والقتال، سيكون له تأثير سياسي محلي وخارجي أقوى بكثير من جيش لا كفاءة في التدريب لديه، ولا قدرة قتالية جيدة.. كما أن الدولة التي تعتمد في تسليح جيشها وقواتها المسلحة على نفسها «التصنيع المحلي»، تختلف سياسيا عن الدولة التي تعتمد على الدول الأخرى في تسليح جيشها ومؤسستها العسكرية..

وفي هذا الإطار ينبغي الاعتبار أيضا بكفاءة القيادات السياسية والعسكرية المسئولة عن عمليات التخطيط الاستراتيجي، الذي يتلاءم وطبيعة مشكلات الأمن القومي الذي تواجهه الدولة.. وبمقدار سلامة التصورات التي تمتلكها هذه القيادات «العسكرية والسياسية» لطبيعة المشكلات الاستراتيجية، التي تعتبر نفسها مسئولة عن التخطيط لها يكون لها تأثير في عالم السياسة..

 

وخلاصة القول: إن القدرة على حشد طاقات الدولة وإمكاناتها بالسرعة الواجبة في الظروف التي تتطلب إجراء تعبئة شاملة لقواها، مسألة تؤخذ بالحسبان في القرارات السياسية.. فدرجة الاستعداد العسكري والتفوق التكنولوجي، في إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية، وفي وسائل جمع المعلومات عن العدو نقاط القوة والضعف وما أشبه، كلها اعتبارات ينبغي للمحلل السياسي التعرف عليها لأنها ذات تأثير على الصعيد السياسي..

شخصية الحاكم وطبيعة النظام:

إن حركة الأحداث السياسية، لا تخرج عن إطار طبيعة النظام السياسي وعلاقاته الإقليمية والدولية، بوصفه الوعاء الطبيعي لحركة الأحداث السياسية وغيرها.. لذلك فإن معرفة طبيعة النظام وهياكله ومؤسساته وشكله ديمقراطي أو ديكتاتوري، اشتراكي أو رأسمالي، أو ما أشبه.. كل ذلك مسألة ضرورية لفهم حركة الأحداث السياسية.. والمحلل السياسي الذي لا يفقه طبيعة النظام، لن يتمكن من فقه حركة الأحداث السياسية.. كما أن معرفة شخصية الحاكم «الملك - القائد - الرئيس - الزعيم» مسألة مهمة في عملية التحليل السياسي.. وبالخصوص أن كثيرا من دول العالم تبقي جميع أوراق اللعبة السياسية بيد الزعيم.. فلا يمكن مثلا تحليل الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية في ليبيا بعيدا من شخصية الزعيم الليبي «معمر القذافي».. لذلك لا يمكن تحليل الأوضاع هناك بدون التعرف على شخصية الزعيم، لأنه مصدر القرارات السياسية والإستراتيجية الكبرى.. والجدير بالذكر أن بعض الدول الديمقراطية أيضا، تعطي للرئيس صلاحيات استثنائية أبان الأزمات والمشاكل.. كالفيتو الرئاسي الأمريكي تجاه مقررات مجلس الشيوخ أو البنتاغون.. فالتعرف على القوانين الاستثنائية، التي تعزز شخصية الحاكم ضرورية في التحليل السياسي.. فكل هذه الاعتبارات لها تأثيرا واضحا في مجمل العملية السياسية.. ولا يمكن للمحلل السياسي، أن يبدأ عملية التحليل متجاوزا هذه الاعتبارات ومتجاهلا تأثيراتها على حركة الأحداث.. ولا شك أن قوة المحلل أو ضعفه، ترجع بشكل أو بآخر إلى مدى فهمه ووعيه، لآلية تأثير هذه الاعتبارات في العملية السياسية.. وبدون هذا الفهم لن يتمكن المحلل من فقه السياسة وحركتها بوصفها هي الانعكاس الطبيعي لهذه الاعتبارات..

القدرة السياسية للدولة:

عند التحليل السياسي من الضروري في البناء النظري للمحلل، معرفة مدى استقرار النظام السياسي وكفاءة وقدرة مؤسساته على إدارة شؤون الدولة.. ومدى التجانس ومقدار التنسيق بين مختلف المؤسسات والهيئات، لأنه كلما ازدادت الانقسامات السياسية والإدارية، أدى ذلك إلى استنزاف جهود الدولة، وضعفت قدرتها السياسية.. كما أن الدولة التي يغيب فيها الاستقرار السياسي لسبب أو لآخر، لا تستطيع أن توجه قدرتها السياسية للخارج.. لأن غياب الاستقرار السياسي، يرهق الدولة ولا يجعلها ذات قدرة سياسية متينة.. كما أن مدى السيطرة السياسية للحكومة على الدولة ومؤسساتها وهيئاتها، تحدد مدى القدرة السياسية للحكومة.. فالصين أبان حكم «شيانج كاي شيك» وحزب الكومنتاج لم يكن للحكومة السيطرة الفعالة والتامة على كل الأراضي.. الأمر الذي أضعف من القوة السياسية للصين في الداخل والخارج.. كما أن من الأمور المهمة التي تحدد مدى قدرة الدولة سياسيا، كفاءة الأجهزة الدبلوماسية للدولة.. حيث أن المقدرة السياسية تتطلب إيجاد نوع من التنسيق والتوافق بين مختلف النشاطات والجهود.. حتى تتمكن الدولة من استثمار هذه النشاطات والجهود سياسيا.. ولا ريب في هذا الإطار أن لعنصر التوقيت والزمن في العمل السياسي والدبلوماسي أهمية بالغة في اغتنام الفرص السياسية والدفاع عن مصالح الدولة العليا... وتتحقق كفاءة الأجهزة الدبلوماسية، بقدرتها على التحليل الشامل والمتعدد الأبعاد للظروف الموضوعية والسياسية للحدث، واستقراء مختلف المواقف وانتخاب الأفضل منها.. وقدرتها على التنبؤ بردود الأفعال والتأثيرات التي تحدثها المواقف والتصرفات السياسية، حتى تتمكن هذه الأجهزة، من إيجاد قنوات وأشكال لتحييد التأثيرات السلبية والسيئة التي تقف في الجانب المضاد لمصالح الدولة.. وتتجلى قدرة الدولة السياسية على التوافق والتوازن بين الإمكانيات والقدرات المتوفرة والمتاحة للدولة، وأدوات التنفيذ والفعل السياسي والدبلوماسي.. والنظام السياسي الذي لا يتمكن من إيجاد وخلق توفيق دقيق بين الإمكانات ووسائل العمل السياسي، لن يتمكن من توظيف جميع قدراته الذاتية وثروات بلاده، لصالح تطلعاته السياسية.. فالمحك الأساسي لقياس مدى قدرة الدولة السياسية في قدرتها على تحويل إمكاناتها السياسية المتواضعة، إلى قدرة فائقة وضاغطة في العمل السياسي.. وهذا بالطبع يحتاج إلى مهارة خاصة وفائقة في نفس الوقت في تركيب عناصر هذه الإمكانيات، حتى تحدث الأثر السياسي المطلوب.. كما أنه يحتاج إلى مرونة إلى الحد الذي يسمح للدولة والنظام السياسي، أن يحافظ على مصالحه الجوهرية مع التنوع في التكتيكات والسبل الموصلة للحفاظ على تلك المصالح الاستراتيجية.. فالقدرة السياسية للدولة، تتشكل بمجملها من مختلف المؤسسات والوزارات التابعة للدولة، ومدى قدرتها على توظيف جميع هذه المؤسسات والوزارات في تجاه المصالح الحقيقية للدولة.. فمؤسسات الإعلام والدعاية مثلا تعتبر من أركان القدرة السياسية للدولة.. لذلك من الضروري التعرف على المؤسسات الإعلامية للدولة ومدى قوتها أو ضعفها ودورها التي تقوم بها.. وبالطبع هناك أيضا فرق بين الدولة التي لديها القدرة على صنع ولاءات وأطر سياسية جديدة على حسب احتياج الساحة، وبين الدولة التي لا تمتلك القدرة للقيام بهذا العمل..

المهم في هذا الإطار أن يقوم المحلل السياسي بالتعرف على القدرة السياسية للدولة، التي تشملها جميع أبعاد وأدوات القدرة السياسية..

4/5/13124

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك