جاسم الصافي
لعل التجربة التي يمر بها واقع الأعلام العراقي بعد التغيير هي تجربة فريدة من نوعها ولكي تكون ناجحة فهي تحتاج الى الكثير من النقد اذ لا يزال الإرباك يتملكها وتشوبها الفوضى التي يثيرها بعض ممولي القنوات الفضائية الرافضين لعملية التغيير ، أو لسياسة الحكومات التي جاءت بعد التغيير ، وفي مقارنة مع تجارب حصلت سابقا عند بعض الدول التي حوّلت نظامها من الشيوعية الى الديمقراطية ( تشيك وبولونيا ) أو مناطق ذات تنوع عرقي ( البوسنة والهرسك ) تجعلنا متفائلين بعض الشيء ، فتنوع الأعلام في العراق الجديد ترك مسحات واسعة لسياسة التحرير الإخباري ، وحرية طرح الرأي والرأي المعاكس رغم أن الأوطان أن كانت في حرب مشتعلة كما يجري في العراق اليوم يكون بأمس الحاجة الى أعلام ترويجي وامني كما هو الأعلام الإسرائيلي الذي يوازي بين أمن أمته ومهنية الاعلام ، فهو دائما يطرح الأسئلة الصعبة لتترك ولو احتمال طفيف لإحداث التغيير في الوقت المناسب . أن ما يؤخذ على التجربة العراقية وما يعرقل مسيرتها الشاقة هو حالة التدرج والفصل البطيء ما بين توأم الاعلام الحزبي بشقيه ( الحكومة و المعارضة ) وبين اعلام الدولة المختل في توازينه ، اذ أن الاعلام الحزبي هو الغالب على الساحة وهو ليس باعلام خبري بل هو إخباري كون تلك القنوات الاعلامية الحزبية تعمل على اجتزاء الخطاب أو إضافة منهاج عليه لتحويره أو مغايرته للحقائق بعد أن يمرر على ماكياج الادلجة والتحليل الحزبي ثم تعليله ليكون جاهزا للمتلقي الذي لا يجهد عقله بفحص الخبر بل يستغنى عن التحليل المنطقي حين يجتذبه العامل العاطفي من خلال محاكات الشعور العرقي أو المذهبي الذي يصب في مصلحة الجبهوية الحزبية التي تسوق اوهامها للعامة قبل الخاصة ، وهذا الخطاب مصدره السياسيين لذا فهو يؤثر في وسائل الإعلام اكثر من تاثير الاعلام فيه ، ومع هذا نجده الخطاب السياسي آني أو تعبوي يأتي ويتغير مع الحدث أي انه سرعان ما يزول بزوال السبب وحتى وان امتلك العقلانية التي تشغل المتلقي بالتطرف والتبعية .. فهناك دور للاعلام الذاتي الذي يوازن في طرحه لوحدة الخبر المعتدل أي العقلانية للواقع ولعاطفة المتلقي . ومثال على ما تقدم قناة الخدمة العامة أي ( العراقية ومشتقاتها ) التي تحتكر لصالح الحكومة ومنها تحتكر الأخبار الرسمية والتشريعية لتلك القناة ، وهي الوحيدة التي تمتلك حرية تتبع مصادر الخبر في دهاليز الدولة أو الحكومة من دون قيد ، بينما نجد باقي الوسائل الأعلامية تحجب بل تمنع من ذلك ، وهذا ما نعانيه جميعا ومثال على ذلك حالات عايشتها انا شخصيا فحين يحاول احدنا الاتصال بأي مدرسة في محافظة الناصرية نجد أن مدراء المدارس يمنعوا دخول أي جهة إعلامية غير( العراقية ) وهذا الأمر بتوصية من مدير تربية ذي قار بينما تعليمات الوزارة تختلف اذ تمنع التصريحات فقط ، كما أن الأخبار الأمنية في هذه المحافظة أول ما تبلغ الى القناة الحكومية أي العراقية وبهذا تكون كل وسائل الأعلام غير الحكومية مبتورة المصدر بل وتجد لها المبرر لان تعادي الجهات الأمنية والتربوية وبعض الدوائر الخدمية اذ هم عصب الخبر ، فكيف للدولة أن تجد الرقيب الحقيقي الذي يساند البناء الحكومي أن كانت قد حصنت مؤسساتها المهمة بهذا الشكل . مع العلم أن مجلس محافظة ذي قار سمح لوسائل إعلامية دون أخرى وهذا من حقه أن كانت هناك ضرورة تنفع المجتمع الناصري ، وأنا أتحدث في هذا المثال عن الوسائل التي سمح لها المجلس بالعمل داخل المحافظات ثم تمنع في اغلب دوائر الدولة .
أن قطاع إلاعلامي الخاص يمكن إن يخضع للقوانين المحلية ومواثيق الشرف التي تضعها الجهات الوطنية المنظمة للعمل الإعلامي اذا ما أعيد النظر في الأسس القانونية والسياسية والاجتماعي للبث الإعلامي ومثل هذا التنظيم لا يعني تقييد الاعلام وكم الأفواه بل هو تنظيم للتنمية الوطنية بشرط أن تترك الاستقلالية للعاملين بهذا المجال عن الدولة ، مع خضوعهم للمساءلة أمام ممثلي الشعب المنتخبين ( النواب ) أن حدث تقصير مهني منهم ، ولعل السياسة الإعلامية المعمول بها في الحكومة الحالية هي سياسة ناجحة نوعا ما لضخامة المجهود الاعلامي فيها ، ولكن مجهودها اجتهادي أي بدون تشريع قانون يثيب ويعاقب بل أن الامر اشبه ما يكون سائب فهو أن عاقب كان ارهابا وان اثاب كان مكرمة وهذا ما يبقي الأعلام الرسمي متخلف أن لم يكن رجعيا أمام المتلقي الذي ترك منذ زمن طويل فريسة للقنوات التجارية أو القنوات المغرضة والهادفة الى تسطيح وعي المتلقي ، بل تجويف موروث الاجتماعي من محتواه ألقيمي عبر سياسة المثاقفة وتعويم العولمة التي قزّمت المنتج المحلي .. أمام عملقة المستورد ليستمر الاستسلام ووعي الاستهلاك كل هذا من اجل شل الإبداع عندنا
أن قطاع الأعلام الخاص يمكن أن يدعم القطاع الحكومي حين تعمل الحكومة على احتضان هذه القنوات داخل حدود الوطن فمنها ستحصل على فوائد كبيرة اولها : تنظيم عملها الاعلامي الذي سيكون مسيطر عليها وفق سياسة وقيم المجتمع كما أن تمويلها سيكون وطني او من الدولة التي قد تشارك هذه القنوات بدل أن تكون خصما لها وعائقا امام العملية السياسية وهو ما تدعمه وتعمل به النظم الأوربية التي أدركت حجم الكلفة الإنتاجية لبعض البرامج الضخمة فأصبح تدعم الإنتاج المشترك ، وهكذا تنوع يمكن للقناة الحكومية أو للقنوات ذات الخدمة العامة أن تكون خصما خطرا في تفتيت وحدة مشاهدي القنوات التجارية أو ألعدائية إن تم دعمها من قبل الحكومة .
ولنتحدث عن قنوات محلية تم مهاجمتها وطرد مكاتبها ورغم هذا فهي لها حضور واضحا في كل البيت العراقي وهو ما يثير تسائل عندنا عن سبب ذلك ؟ .. أكيد أن الإجابة واضحة وهو التمويل الكبير المخصص لإنتاجها مواد محلية مثل المسلسلات والبرامج المغرية للمتلقي لتكون بهذا قادرة على اقناع المشاهد بالبقاء أطول مدة ممكنه امام الشاشة ، وبالتالي يضطر لتلقي إخبارها بل وتدوير هذه الاخبار شفاهيا بين من لا يرغبوا في مشاهدة هكذا قنوات ، وهذا السبب هو ما يجعلها خطرة كونها ذات وجهة مقبولة عند المتلقي ، ولتوضيح علاقة المادة بالمتلقي علينا أن نحتسب نسبة بقاء المشاهد إمام شاشة التلفاز ، ثم أي قناة ، ثم أي برامج يلاحقه المشاهد سواء أكانت رياضية ام وثائقية ام درامية ، فهذه المواد تسهم في امتصاص الزخم من مشاهدي القنوات الإخبارية ، ومنها ندرك سر ملاحقة المتلقي لمثل تلك القنوات، ليتسنى لنا السيطرة عليها وسحب المقبولية منها وبالنتيجة تكون التنمية الإعلامية موازي للتنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونخطو بالأعلام الى الإمام بخطى واثقة وواسعة ، وخلاصة الكلام أن الأمر يحتاج الى تنظيم تشريعي يوازي بين القيد والحرية ، فبدل أن تكون تجربتنا كما الأعلام اللبناني الذي كرس الحالة الطائفية بشكل فوضوي فجعلت متوارثه ومشرعة للتدخل والدعم الخارجي فتكون قناة المستقبل للحريري و LBC لسمير جعجع ، فنحن الان يمكن أن نصنف بعض القنوات العراقية لجهات حزبية أو طائفية ، لكن الكم الهائل الموجود يفرز النوعية بالتقادم الذي لربما ينجح تجربتنا الفتية أن تم دعمها من قبل سلطة الدولة مع مراعات ما تطرقنا اليه سلفا .
https://telegram.me/buratha