دراسات

الفقه السياسي والدستوري عند الشهيد الصدر


السيد محمد طاهر الحسيني / رئيس مركز ابن إدريس الحلي للتنمية الفقهية والثقافية

 

تمثّل “أسس الدولة الإسلامية” المعروفة بـ”الأسس” اختصاراً، وكتاب “الإسلام يقود الحياة”، أهم المستندات التأريخية لرصد نشوء وتبلور وتطور التفكير السياسي والدستوري عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

وقد كتب الشهيد الصدر (الأسس) كأصول للدستور السياسي المقترح والمزمع كتابته فيما بعد لتكون المادّة الفكرية والثقافية في منهاج (حزب الدعوة الإسلامية)، ويعود تاريخها إلى أواخر الخمسينات من القرن العشرين الميلادي، وهي الفترة نفسها التي أسس فيها حزب الدعوة الإسلامية.

وتعتبر هذه الأسس من جهة نظر بعض الباحثين “أول مجموعة أصول للدستور الإسلامي، إذ لم يعهد قبلها أن وضعت أصول للدستور الإسلامي”. وهي عبارة عن أصول للدستور وليست دستوراً. ويبلغ عددها ـ كما وصلت إلينا فعلاً تسعة، لكن ذكر بعض تلامذته وروّاد العمل الإسلامي أنّ عددها يصل إلى أكثر من ثلاثين، وكان يقوم الشهيد الصدر نفسه بشرحها على روّاد العمل الإسلامي يومذاك.

والذي أدّى إلى ضياع بعضها ونسيان البعض الآخر، هو طابعها السرّي الذي كان يفرض عدم نشرها، وحصرها بين أعضاء الحزب، وإلى فترة قريبة.

وأما كتاب “الإسلام يقود الحياة” فهو آخر ما أنجزه الشهيد الصدر فكرياً، وقد اشتمل على أفكاره السياسية والدستورية في عدد من حلقاته المختصرة، وتحديداً “اللمحة الفقهية التمهيدية عن مشروع الدستور الإيراني” و”منابع القدرة في الدولة الإسلامية”.

وقد ذكر بعض تلامذته أن هناك بحثاً كتبه الشهيد الصدر في بداية تكوين التصور السياسي، ناقش فيه جميع الأدلة التي يذكرها الفقهاء على الصيغة الخاصة للحكم الإسلامي، سواء روايات ولاية الفقيه المطلقة، أو دليل الحسبة الذي كان يراه دليلاً قاصراً عن الوفاء بجميع متطلبات الحكم الإسلامي، وذكر ـ أيضاً ـ أنه أطلع عليها الشيخ حسين الحلي أحد أشهر فقهاء النجف الأشرف يومذاك.

المسألة السياسية

كانت المسألة السياسية جزءً من مشروع الشهيد الصدر الفكري، وجزءً من همّه الاجتماعي أيضاً، وهي إن كانت كذلك، فإنها تجد مبررها الكافي في طبيعة الإسلام الشمولية نفسها، باعتبارها نظاماً متكاملاً يهدف إلى بناء الإنسان، وفقاً لرؤية متجانسة تنتمي إلى عالم الكمال المطلب، وتتفق مع فطرة الإنسان.

وقد كتب الشهيد الصدر في هذا الصدد: “فالإسلام إذاً مبدأ كامل، لأنه يتكون من عقيدة كاملة في الكون، ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأسس وأهم حاجتين للبشرية، وهما القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي.

وتتصل المسألة السياسية بالمشكلة الاجتماعية أصلاً، والتي تُحدّد صيغتها باختصار في التساؤل عن النظام الذي يصلح للإنسانية، وتسعد به في حياتها الاجتماعية. والنظام الإسلامي ولاشك هو الأصلح من وجهة نظر الشهيد الصدر، شأنه في ذلك شأن جميع الإسلاميين، وهو ما يفسّر جهوده التي تركزت على التنظير لهذا المشروع المتكامل والتعريف به، والكشف عن مزاياه في المقارنة مع الأنظمة السائدة الأخرى. وإذا كان الإسلام بوجوده وجوداً فكرياً خالصاً (قبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران)، إلاّ أنه ببقائه في ذهن الأمة الإسلامية أصبح “أملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون”، والقضية التي “يجب أن ننذر حياتنا لها”، على حد تعبير الشهيد الصدر، وهو ما دأب الشهيد الصدر على العمل لأجله، وبرهن على مدى مصداقيته وإخلاصه في هذا الاتجاه.

وهو إذ يؤكد على مشروعية بل لزوم عمل من هذا القبيل، فإنه يرى أنّ هناك جناية ضخمة يمارسها كل من يسهم في حجز الإسلام في القمقم وتجميد طاقاته الهائلة البنّاءة، وإبعادها عن مجال البناء الحضاري لهذه الأمة. فالمسألة السياسية همّ ثابت متأصل في مشروع الشهيد الصدر، لأنه من وجهة نظره يعتبر الحكم والسياسة جزءً من المشروع النبوي نفسه الذي دأب الأنبياء للعمل من أجله، ويعتبر اختيار النظام الإسلامي منهجاً في الحياة وإطاراً للحكم أداءً لفريضة من أعظم فرائض الله، وإعادة لروح التجربة التي مارسها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وجاهد من أجلها أمير المؤمنين علي عليه السلام والأئمة عليهم السلام، وهو ما يفسّر ـ حسب رأي الشهيد الصدر ـ الموقف الإسلامي الشيعي عموماً، إذ “عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيّرة، عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والإصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين. ولذلك يُعدّ التخلي عن وظيفة كرّس الأنبياء جهودهم وجندوا أرواحهم لأجل تحقيقها، تفريطاً بجزء من أهم أسس الدعوات الإلهية وتحديداً الدعوة الإسلامية.

 

 

 

ومن جهة نظر الشهيد الصدر يجب على المسلمين التصدي للحكومات أو الأنظمة غير الإسلامية واستبدالها بالدولة الإسلامية، بل ويجب إسقاط الحاكم الذي يرأس الدولة الإسلامية نفسها في حالة انحرافه وتنكّره للإسلام وتعاليمه وإصراره على ذلك.

مهام الدولة الإسلامية:

حدّد السيد الشهيد مهام الدولة الإسلامية كما في الأسس بأربع وظائف، وهي:

أولاً: بيان الأحكام، وهي القوانين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية المقدسة بصيغها المحدّدة الثابتة، وهي “الأحكام الثابتة التي بيّنت في الشريعة بدليل من الأدلة الأربعة، الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فلا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير لأنها ذات صبغة محددة وشاملة لجميع الظروف والأحوال، فلا بدّ من تطبيقها دون تصرف”، كما في إلزام الأمة الإسلامية بإعداد ما تستطيع من القوة في مواجهة الأعداء، وقاية لأمنها من المخاطر، فإنه حكم ثابت شامل لجميع الظروف والأحوال.

ثانياً: وضع التعاليم (التعليمات)، وهي التفصيلات القانونية التي تنطبق فيها أحكام الشريعة على ضوء الظروف. ويتكون من مجموع هذه التعاليم النظام السائد فترة معينة، تطول وتقصر تبعاً للظروف والملابسات. وهي “أنظمة الدولة التفصيلية والتي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعية الدستورية، لظرف من الظروف. ولذا فهي قوانين متطورة تختلف باختلاف ظروف الدولة، ومنشأ التطور فيها أنها لم ترد في الشريعة مباشرة وبنصوص محدّدة، وإنما تستنبط من أحكام الشريعة على ضوء الظروف والأحوال، التي هي عرضة للتغير والتبدل. ولعلّ أوضح مثال عليه ـ كما عن الشهيد نفسه ـ إلزام المسلمين القادرين بالتدريب على حمل السلاح، ولم يكن على العهد الأول وصدر الإسلام، لعدم اقتضاء الظروف لإلزام من هذا القبيل، ويدخل في هذا الإطار قانون الشرطة، وقانون الاستيراد والتصدير، وقوانين العمل والتعليم.

ثالثاً: تطبيق أحكام الشريعة ـ الدستور ـ والتعاليم المستنبطة منها ـ القوانين ـ على الأمة، وينبّه السيد الشهيد على أنّه رعاية شؤون الأمة التي عُهد بها إلى السلطة في الدولة الإسلامية هي نفسها لا بدّ أن يراعي فيها تطبيق الدستور والقوانين الإسلامية، فيجب أن تكون في ضوء ما حدّده الإسلام.

رابعاً: القضاء في الخصومات الواقعة بين أفراد الرعية، أو بين الراعي والرعية على ضوء الأحكام والتعاليم.

نشير إلى أن الشهيد الصدر لا يرى أن جميع هذه المهام من شؤون رعاية الدولة لتكون داخلة في صلاحيات الحكومة بوصفها حكومة، وإن كانت لازمة للدولة.

فبيان الأحكام الشرعية من شؤون(الإفتاء) وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها ـ أيضاً – المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحداً، كما في مجالات السياسة والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهداً، أو يختار اجتهاداً من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم. لكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ.

وربما يختزن هذا الرأي ـ ضمنا ـ قدراً كبيراً من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، ما لم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية، ولكن ذكر الشهيد الصدر في (فلسفتنا): “إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله. فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها”. ولا نعرف ما إذا كان هذا يعني احتكار الحكومة التعليم.

وكذلك القضاء، فليس من مهمات الحكومة بوصفها حكومة، لأنه لا يثبت للحاكم لمجرد كونه حاكماً، بل يثبت لمن نصت الشريعة عليها نصاً خاصاً، وهم الفقهاء. فإن كان الحاكم فقيهاً جاز له القضاء، ولكنه لا يمنع غيره من الفقهاء من القضاء، ما لم يكن ثمة مصلحة تقضي بتوحيد القضاء على اجتهاد معين، فمن كان من الفقهاء مصوباً لهذا الاجتهاد فهو يقضي وفقاً له بلا إشكال، وإلا قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يصوب أو يرتأي الاجتهاد المذكور.

ومهما يكن من أمر، فليس للحكومة أن تمنع فقيهاً من القضاء، وليس لها أن تمنحه لغير الفقهاء. لكن يجب عليها أن تقوم بتوفير الكادر القضائي، وذلك بإعداد أو توفير القدر اللازم من القضاء، لأن ذلك يندرج في شؤون رعاية الأمة التي تدخل في صلاحيات الحكومة.

ثمة تفصيلات فقهية كثيرة لهذه الأسس وفي هذه المسألة تحديداً لم يشر إليها الشهيد الصدر، لأنه ليس بصددها وهو في مقام بيان أصول الدستور لا الدستور نفسه، فضلاً عن النظام القضائي، ولذلك أحال السيد الشهيد التفصيل إلى بحوث الفقه، غير أنه من اللازم الإشارة إلى أنّ هذا الرأي يستبطن الإيمان بفصل القضاء عن السلطة (الحكومة التنفيذية) وهو ما يجري الآن في العالم المعاصر، وسبق إليه النظام الإسلامي.

وبالمقارنة مع ما كتبه الشهيد الصدر في (الإسلام يقود الحياة) لا نجد ثمة تفصيلات، بل أشار بعمومية شديدة إلى مهام وأهداف الدولة الإسلامية، ولكنه أشار إلى تنوّع أهدافها على المستويين الداخلي والخارجي.

فأهداف الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشهيد الصدر على المستوى الداخلي:

أولاً: تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.

ثانياً: تجسيد روح الإسلام بإقامة مبادئ الضمان الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في المعيشة، وتوفير حدّ أدنى كريم لكل مواطن، وإعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة، وبالطريقة التي تحقق هذه المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية.

ثالثاً: تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصية الإسلامية العقائدية في كل مواطن، لتتكون القاعدة الفكرية الراسخة التي تمكن الأمة من مواصلة حمايتها للثورة.

وأهدافها على المستوى الخارجي:

أولاً: حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كله.

ثانياً: الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.

ثالثاً: مساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطغيان، وبخاصة في العالم الإسلامي.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك