دراسات

تفقّه المثقف


 

 

د. علي المؤمن||

 

    يعد اقتران البعد المعرفي في شخصية المثقف الإسلامي بالعلم الديني وبوعي التراث الإسلامي؛ ضرورة ملحة بكل المعايير. يقول رسول الله (ص): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». كما يقول الإمام محمد الباقر(ع): «لا يُقبَل عملٌ إلاّ بمعرفة». والمقصود هنا بالعلم والمعرفة المقترنين بالعمل والحركة والفعل؛ ليسا مطلق العلم والمعرفة، بل هما العلم الديني والمعرفة الدينية التراثية تحديداً، كما يشير إلى ذلك ما يروى عن الرسول(ص): «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل». هذا المبدأ الشرعي الذي يعني وجوب اقتران حركة المثقف الإسلامي بالعلم الديني؛ له معايير مصداقية عديدة مستلّة من الواقع، وهي تمثّل ضرورات لا مناص منها أبداً، وأبرزها:

 

    1 - الاستقامة على الدين:

    يقول الإمام علي(ع): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا.. وإن من الحق أن تفقّهوا». فالارتياب هو مدخل الشك السلبي والانحراف والكفر، وبكلمة أخرى الابتعاد عن الحقيقة الدينية. في حين أن التفقُّه هو الموصل إلى هذه الحقيقة. ولعل التأمل في المصير المؤلم الذي انتهت إليه إحدى الجماعات الإيرانية المعروفة ببداياتها الإسلامية ومنطلقاتها النقية؛ يؤكد أهمية التفقه المنهجي للمثقف الإسلامي، وخاصة المثقف الحركي؛ إذ كان أبرز أسباب انحراف هذه الجماعة، ثم وصمها بالنفاق؛ ضعف الثقافة التراثية والعمق الإسلامي العلمي لمؤسسيها وقادتها وكوادرها، وخاصة أنهم كانوا من الشباب دون العشرين أو أكبر قليلاً، وليس بينهم فقيه او علماء دين، وقد قرأوا الإسلام قراءة سطحية، ولامسوا التراث الديني ملامسة هامشية، عبر بعض الخطابات والكتابات الثقافية والفكرية النقدية المعاصرة، ثم أسسوا ونظّروا لفكرهم وايديولوجيتهم في ضوئها. وكانت النتيجة أن هذه الجماعة تشظّت، فاقترب جزء منها من الماركسية، ووضع نفسه في أقصى يسار الإسلام، وانغمس جزء أخر في الفكر الليبرالي ووضع نفسه في أقصى يمين الإسلام، فيما تطرّف جزء ثالث في الانفتاح على العلمانية والإلحاد وأفكارهما وسلوكياتهما، وتطرف جزء رابع في الانغلاق على الواقع والعالم، وتحنّط في أطر الماضي أو بات صوفياً. وقد لفت نظري وأنا أقرأ مذكرات أحد الفقهاء القياديين، تقييمه لعناصر هذه الجماعة، حين كان يعيش معهم في زنزانة واحدة خلال حكم الشاه، وقد عرفهم عن قرب؛ فكان يمتدح فيهم الحماس والإخلاص والنقاء، وهم شباب في العشرين من عمرهم، أغلبهم جامعيون أو خريجو جامعات، ولكن هذا الفقيه يقول أنه كان يخشى كثيراً من ضعف ثقافتهم الدينية، وانفتاحهم على الثقافة العصرية، دون حصانة علمية وثقافية إسلامية أصيلة، فكانوا يجتهدون في أمور عقائدية وفقهية تخصصية، وينظّرون لقضايا فكرية أساسية، ويعطون لكل ذلك عناوين إسلامية، لكن اجتهاداتهم وتنظيراتهم تفتقر إلى أبسط المعايير العلمية الإسلامية والقواعد الشرعية، ومليئة بالاشكالات والانحرافات، بسبب عدم اطلاعهم المنهجي حتى على واحد من الكتب العلمية الإسلامية التراثية والتخصصية، وعدم وجود فقهاء وعلماء دين بينهم، وعدم رجوعهم في أفكارهم وحاجاتهم الفقهية والعقدية الى فقيه ومتخصص، فكانت نهايتهم كما ورد عن رسول الله (ص): «من أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكَم من المتشابه فقد هلك وأهلك». وهو ماحدث مع جماعات إسلامية أخرى، كان أفرادها أنقياء خلال التأسيس للجماعة، ثم انتهوا إلى إسلاميين ماركسيين، أو إسلاميين قوميين، أو إسلاميين ليبراليين، أو إسلاميين سلفيين.

 

  2 - الانسجام مع الموقع والدور:

    إن الموقع التغييري والتبليغي الذي يتبوأه المثقف الإسلامي في المجتمع، وخاصة المثقف الحركي، ودوره الطليعي في حركة الأمة؛ يحتمان عليه أن يكون بمستوى متطلباتهما العلمية والثقافية والاجتماعية؛ إذ لا يمكن للمثقف الإسلامي أن يمارس دوره التبليغي والدعوي والتغييري دون أن يكون قد أنهى بصورة منهجية مرحلة مقدمات العلوم الحوزوية حداً أدنى. فربما يطالع أحد المثقفين الإسلاميين تفسيراً ـــ مثلاً ـــ لآية قرآنية في كتاب ثقافي، فإن وجد هذا التفسير قريباً إلى ذهنه وقناعته ونفسه؛ فربما يؤسس عليه حقيقةً أو رأياً عقائدياً أو فكرياً معيناً، دون مراجعة للمصادر الأساسية في التفسير، ودون أن يكون على اطلاع بالعلوم القرآنية الأخرى وقواعدها وأصولها، وهكذا الأمر بالنسبة للحديث الشريف، ثم يعمم هذا الرأي على الآخرين عبر كتاباته أو خلال ممارسته دوره الدعوي أو الثقافي الاجتماعي.

    3 - مواجهة تحديات العصر:

 

يشهد الواقع الإسلامي تراكماً متزايداً باطراد للاشكاليات الفكرية والثقافية، والتي من شأنها مراكمة التحديات. وهو مايتطلب انتاج خطاب إسلامي أصيل ومعاصر في الوقت نفسه، يجيب على التساؤلات ويفكك الاشكاليات ويواجه التحديات، ويلبي الحاجات الفكرية والثقافية المستحدثة. وهذه المهمة الفكرية والثفافية لاتنحصر بالفقيه والمفكر الإسلامي؛ لكن الجزء الأكبر منها يقع على عاتق المثقف الإسلامي، الذي يدخل معركة الفكر والثقافة متسلحاً بالتراث والمعرفة الدينية المنهجية، وبخطاب العصر ولغته وثقافته ومتطلباته، فبدون الانطلاق من التراث الإسلامي، بعد استيعابه واستنطاقه؛ لا يمكن بناء الخطاب الإسلامي الأصيل والعصري، بناءً متكاملاً مشتملاً على نظريات معمقة في الفكر والحركة، ومعالجات لإشكاليات الفكر الآخر وشبهاته، وفي مقدمتها الحداثة والتنمية المستدامة والمشروع الحضاري.

    4 - مواجهة محاولات الإلغاء:

     يرى بعض علماء الدين أن المثقف ممنوع عليه الخوض في الموضوعات الإسلامية التي فيها نوع من التخصص، بل وحتى الكتابة أو الحديث فيها. وينطلق هذا البعض من حكم مسبق على المثقف الإسلامي، يتلخّص في ضعف وعيه التراثي وعدم دراسته العلم الديني دراسة منهجية، وهذا الحكم قد لا يخلو من الموضوعية غالباً. من هنا؛ فإن القراءة الواعية المتأنية للتراث الإسلامي العلمي والفكري وامتلاك أدواته، عبر الدراسة المنهجية؛ ستمكن المثقف الإسلامي من تجاوز ذلك الحكم الجاهز، والانطلاق في آفاق المعرفة الإسلامية، دون أية عقبة موضوعية تلغي حركته وتصادر رأيه.

    ولا تقتصر الضرورة على فهم الأفكار الإسلامية العامة أو الأحكام الشرعية التي يحتاجها المثقف الإسلامي في حياته، فهذا المقدار لا بد منه لكل مكلّف، بل إن الضرورة تكمن في تفقّه المثقف الإسلامي، إذ: «لا خير في دين لا تفقه فيه»كما يقول الإمام علي(ع)، أو كما يقول الإمام الصادق(ع): «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام». وهذا لا يعني دفع المثقف الإسلامي ـــ إلزاماً ـــ الى الانخراط في سلك الدراسات الشرعية الحوزوية وارتداء زيها، وصولاً الى بلوغ مستوى القابلية على الاستنباط والتخصص في العلوم الإسلامية، رغم أنه طموح مشروع وممكن، كما لا يعني أن يغرق المثقف الإسلامي في التراث بكل تفاصيله وشكلياته، وجامداً على نصوصه، بل الأصل هو دراسة مكوناته دراسة منهجية واعية، واستيعابها إلى مستوى الفهم الجيد، والقابلية على التحاور والاستنطاق، وتقرير الموقف العقائدي والفقهي من قضية معيّنة، فكرية أو سياسية أو سلوكية، تستدعي استيعاب الكثير من النصوص العلمية المثبتة في كتب علوم القرآن والحديث والكلام والرجال والفقه وأصول الفقه والمنطق واللغة العربية، إضافة إلى السيرة والتاريخ والفلسفة والأخلاق وغيرها. وهذا الاستيعاب ينتج عنه فهماً منهجياً لآلية الاستفادة من الآية القرآنية، ومعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، ومعرفة كيفية الاستشهاد بالحديث الشريف، والتفريق بين الحديث المسند والمتواتر والضعيف، ومستويات اعتماد خبر الواحد وغيرها، ومعرفة منهجية تطبيق القواعد الفقهية والأصولية، وخاصة في القضايا التي تشتمل على أبعاد فقهية وعقائدية تُبنى على القطع.

    ويبقى أن هناك عقبة تواجه المثقف الإسلامي الذي لايجد الوقت أو الجغرافيا التي تمكنه من الالتحاق المباشر بالدراسات الشرعية الحوزوية، مما يشكل له صعوبة في فهم النصوص التراثية، بل وصعوبة فهم حتى النصوص الجديدة - أحياناً - والتي تُكتب خصيصاً لطلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، وخاصة في علم الدراية وأصول الفقه والمنطق وأبواب الإلهيات في علم الكلام. وهنا يمكنه اللجوء الى الدراسة الالكترونية المباشرة في الحوزات الجامعية الحديثة، التي تقدم مناهج جديدة بلغة حديثة وبأساليب تتلاءم والمستوى العلمي العام، كمناهج كلية الفقه في النجف الأشرف، وخاصة ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر، ومناهج العلوم الشرعية في جامعة الأزهر، وكلية الأوزاعي في بيروت، وكتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وما صدر عن كلية أصول الدين والمجمع العلمي للسيد مرتضى العسكري، وجامعة المصطفى في قم، والجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن، وخاصة ما كتبه الشيخ عبد الهادي الفضلي خصيصاً لها، والكتب التي صدرت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بقلم الشيخ جعفر السبحاني.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك