د. سيف الدين زمان الدراجي *!!
مقالات في إستراتيجيات الأمن الوطني ومواجهة التحديات. "الحلقة التاسعة"
" إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك, فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة ما في كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات عدوك، فستواجه الهزيمة المؤكدة في كل معركة".
الفيلسوف والجنرال الصيني " Sun Tzu" من كتابه " فن الحرب".
ضمن إطار عمل الاستراتيجيات الوطنية، تحرص الدول على تطوير سياساتها وبلوغ أهدافها "Ends " بعد معرفة قدراتها و تحديد مواردها المتوفرة “Means” وفق طرق وآليات مرنة وقابلة للتطبيق Ways” “.
تضع الدول تصوراً كاملاً لعناصر قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والمعلوماتية والتي تمكنها من تحقيق القدر الاكبر من مصالحها والدفاع عن حقوقها و مكتسباتها وتعزيز مواقفها الدولية والإقليمية قبيل الخوض في أي مهمة تفاوضية.
تُعد استراتيجية التفاوض واحدة من أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول في تسوية خلافاتها بُغية تحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب. ويعرف التفاوض " بأنه سلسلة من النقاشات والمحادثات التي تهدف للوصول إلى اتفاقات" . كما ويقول عنه وليام شكسبير " بأنه فن تقسيم الكعكة بطريقة ينصرف بعدها كل من الحضور معتقداً أنه حصل على الجزء الأكبر".
يتخذ التفاوض أشكال أخرى بما فيها المساومة أو الأخضاع والتي تفضي إلى أن يرضخ أحد الطرفين في نهاية المطاف سعياً للحيلولة دون الوصول للأنهيار التام أو الخسارة الأكبر. كما ويعتبر كل من مصطلحي الوساطة والتحكيم بالاضافة الى التسوية صور أخرى يمكن استخدامها في إطار عملية التفاوض الأكثر شمولاً. يشترط في عملية التفاوض وجود طرفين على أقل تقدير - وقد يكون هناك طرف ثالث او اكثر- ويمكن أعتبارها أحد السلوكيات الاجتماعية التي تختلف من فئة إلى أخرى عبر الزمان والمكان وفقاً للمستويات التفاوضية وانواعها وأهدافها.
قد يأخذ التفاوض أشكال عدة ولعلنا نشهد يومياً عشرات عمليات التفاوض من خلال معاملاتنا في البيع والشراءلأبسط الحاجات، لننتقل إلى مستويات أعلى في ما يخص نزاعات ومناكفات سياسية وعسكرية واقتصادية وغيرها. فضلاً عن صراعات السيطرة والنفوذ وفرض المصالح والإرادات داخل المؤسسة الواحدة ومن ثم بين المؤسسات المختلفة داخل البلد الواحد، لننتقل بعدها لمستويات أعلى في ما يخص الدول والمنظمات والجهات الحكومية وغير الحكومية.
من غير الممكن أن نُحيط بهذا الفن أو العلم إحاطة تامة ولكننا سنحاول التطرق لبعض المفاهيم والتكتيكات التي نعتقد بأنها تحقق فهم أوسع لجوهر وأهمية إستراتيجية التفاوض. وسنركز على العلاقة بين الدول من منظورِ أشمل.
هناك ثلاث مفاهيم أساسية تعتمد عليها استراتيجية التفاوض وهي:
المواقف و المصالح و الاحتياجات الفعلية.
• المواقف: تُعَد المواقف التي تطرحها الفرق التفاوضية اوراق لعب، منها القيمة وغير القيمة ولكل ورقة غاية ومغزى وهدف، معلن وغير معلن. تتغير المواقف وفقا للمصالح والاحتياجات.
• المصالح: تهدف الفرق التفاوضية إلى تحقيق اكبر قدر ممكن من مصالح دولها وشعوبها، وفق ما تمتلكه الدول من عناصر قوة. ووفق ما يمتلكه الفريق التفاوضي من قدرات ذاتية وإمكانيات شخصية. قد لا يمكن تحقيق كل المصالح التي تهدف إليها الدول وفرقها التفاوضية، وقد يتم التنازل عن بعضها مقابل تحقيق الاحتياجات الفعلية.
• الإحتياجات الفعلية: هو ما يجب الحصول عليه فعلاً. خلاف ذلك، يُعد مؤشر فشل في الأداء التفاوضي، الأمر الذي قد يتسبب بفشل عملية التفاوض برمتها. تعتبر الاحتياجات الفعلية واحدة من العوامل الثابتة التي لابد أن تتوائم مع متطلباتها كل من المواقف والمصالح.
ضمن هذا السياق، لابد من الأشارة الى مقومات التفاوض، والتي يمكن إيجازها بـ :
• فهم واسع للقدرات والإمكانيات والاحتياجات، وتحديد الأهداف والمواقف والوسائل التي ستنتهجها الفرق للوصول لإتفاقات تضمن تحقيق أهدافها المرسومة واحتياجاتها الفعلية.
• تفهم مواقف الطرف المقابل، "ضع نفسك في مكانه"، ودراسة الدوافع والاهداف والإنجازات التي يسعى لتحقيقها، بالإضافة للعواقب المترتبة جراء عدم تحقيق ما جلس من أجله على طاولة التفاوض.
• التحضير بشكل جيد مسبقاً، وقبل البدء بعملية التفاوض، من خلال جمع المعلومات اللازمة عن مواقف الطرف الآخر وشخصيات الفريق التفاوضي، عبر المصادر المفتوحة و السرية- الإستخبارية- وقد يتم ذلك من خلال طرفِ ثالث.
• وضع خطط بديلة، وعدم إفتراض مواقف مُسبقة. والاستعداد لتغيير تنفيذ الإستراتيجية التفاوضية تبعاً للمستجدات.
• تطوير مفاهيم الذكاء العاطفي، وأظهار الإمتنان، تجاه المواقف الإيجابية للطرف المقابل.
• تشكيل فريق مُتجانس، كفوء ومُتكيف بشكل مستمر، يؤدي كل فردِ فيه المهام المُكلف بها وفق ماتم الإعداد والتحضير له.
في ظل ما ذُكر أعلاه، فهناك حاجة للتعرف على عدد من المواصفات والخصائص التي من الضروري أن يتحلى بها من يأخذ على عاتقه الإضطلاع بهذه المسؤولية. " يجب على المفاوض أن يراقب كل شيء. فعليه أن يكون المحقق العالمي شارلوك هولمز في مواقف معينة، وعالم التحليل النفسي سيكمن فرويد في مواقف أخرى" " Victor Kiam
ومن هذه المواصفات:
• مهارات الإنصات، من حيث الإستماع الجيد ومراقبة سلوك الآخرين و فهم ما يقولونه وما يودون إيصاله من رسائل بشكل مباشر وغير مباشر.
• مهارات التحليل، والتي تتعلق بقدرة المفاوض على تحليل المشاكل وتقدير المواقف واقتراح الحلول.
• السيطرة على النفس والهدوء وعدم التسرع في طرح المواقف وردود الأفعال.
• السمعة الحسنة وتطوير مهارات التواصل الفعال وبناء الثقة وحسن المظهر والإخلاص والكفاءة.
• إحترام الطرف المقابل وتفهم مواقفه، والتركيز على المشتركات في بداية عملية التفاوض، مع التأكيد على ضرورة التمتع بمهارات الإقناع و المناورة. كما وتلعب العلاقات الشخصية الإيجابية التي يتمتع بها المفاوض دوراً كبيراً في الوصول إلى اتفاقات وتفاهمات مُشتركة، لذا من الأهمية بمكان أن يتم اختيار المفاوض الذي يتمتع بعلاقات شخصية واسعة ومقبولية وسط الأطراف المختلفة.
هناك أيضا متطلبات أخرى لابد من الإشارة إليها تتعلق بعملية التفاوض، كأجندة اللقاء وطريقة الجلوس والشخصيات الحاضرة في الاجتماع و وقت الاستراحة - التي من الممكن استثمارها بشكل إيجابي لفسح المجال أمام الحوارات غير الرسمية للمساهمة في الوصول الى اتفاقات- فضلاً عن فهم واسع للغة، وثقافة الفريق المقابل في حال لم تكن اللغة مشتركة – ويمكن الإستفادة من المختصين للتعرف على ثقافات الطرف الأخر والطرق المناسبة للتواصل المباشر الفعال.
لايسعنا في هذا المقال ذكر أمثلة مُحددة عن أسباب نجاح أو فشل المفاوضات، فالأمثلة كثيرة بهذا الصدد، وليس ببعيد عنا ملف التفاوض النووي الأيراني، ومفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومفاوضات سد النهضة بين مصر وأثيوبيا ومفاوضات إيقاف النزاعات المسلحة في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها. ولكن في خضم ذلك كله، فعلى المفاوض أن يتذكر دائما بأنه في الوقت الذي تُحدد فيه النقطة التي ستكون السبب في توقف المفاوضات، سيتحتم عليه أن يُقرر خطواته اللاحقة والبدائل المتوفرة وما سيترتب عليها من تداعيات، فقد يكون من الصعب أحياناً العودة الى قاعة المفاوضات بعد مُغادرتها.
*باحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي.
https://telegram.me/buratha