دراسات

رؤية في الهوية


 

 

اعداد الدكتور فراس العتابي وحسن الربيعي

الباحثين في مركز تاج الحضارة الثقافي

 

        لقد صبت في بحر هذا المصطلح أنهار كثيرة، وأن نلم به من وجهة ثقافية لا تخل بطبيعة المصطلح المعرفية، ولا تعلو على طبيعة التلقي العام ربما هو التحدي الذي ينطلق من نقطة الزمن المعاصر، هذه النقطة التي بينت فيها استطلاعات الرأي أن الجمهور العام ينطوي على آراء عامة، وليس رأياً عاماً واحداً قابلاً للسبر وتحديد الاتجاهات كما هو المظنون سابقاً، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي برزت للعيان بشكل جلي طبيعة تعدد مفهوم الهوية من خلال دفق ثقافي يعرض خطاباً متعدداً ومتنوعاً من جهة، وكاسراً لطبيعة تسوير النخب الثقافية للمصطلحات، فإن كانت النخبة تقود الرعية الثقافية في أزمان سابقة فقد باتت الجماهير اليوم صائغة للمعاني في ظل عاصفة تواصلية تتجاوز الزمان والمكان كما تتجاوز قيود التحصين الأبوي، وهنا نتساءل:

- كيف أوصف نفسي، وكيف يراني الآخرون؟

أنا أشبه بعضكم وأختلف مع بعضكم، كما إني أختلف مع من أشبهه كذلك.

أما الآخرون فيرونني أشبه بعضهم وأختلف مع بعضهم، كما يرون إني أختلف عمن أشبهه كذلك.

        هذه ليست أحجية، بل إنها تكثيف شديد لمصطلح الهوية كما أظن، وللتمثيل عليه فلنفترض أن زيداً مواطن عراقي مسلم وهو فنان معروف في بلده، وعليه فإن زيداً ذو هوية جنسية يتشابه فيها مع بقية الذكور ويختلف من خلالها عن الإناث، ولكنه مع ذلك لا يتطابق مع بقية الذكور تطابقاً كاملاً، كما إن هويته العراقية يتشابه فيها مع العراقيين ويختلف بها عن غيرهم، كما إنه لا يتطابق مع العراقيين تطابقاً كاملاً، وكونه مسلماً تجعله متشابهاً مع المسلمين ومختلفاً عن غيرهم، كما إنه لا يتطابق مع المسلمين تطابقاً كاملاً،  كما إن كونه فناناً يجعله يتشابه مع الفنانين ويختلف عن غيرهم، كما إنه لا يتطابق مع الفنانين تطابقاً كاملاً، فزيد ليس نسخة لأحد، فهو هو، وهو غيره في الوقت نفسه، فكل منا (( يملك حسين متجاورين هما حس التفرد وحس التماثل وكل فرد منا يريد أن يتميز عن غيره كما يريد أن يكون مثل غيره، ويتبادل الشعوران الدور بينهما بين حال وحال، هذا معنى فطري في البشر كلما اختلف عن غيره جاءته رغبات في أن يندمج مع غيره، ولن تكتمل مشاعره البشرية إلّا حين يحقق درجات من الإندماج وأخرى من الاختلاف))، وعلى يمين الاندماج والاختلاف المميز للهوية، ويساره يقف ماردان طاغيان ناظران بعين الترقب لهذه الهوية، ففي أي لحظة ضعف، أو تهور تصيب الهوية يسيطران عليها ويحولانها عن علامتها الفاضلة إلى علامة مدمرة، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، وكذلك الهوية البشرية.

- هوية الوطنية، أم ثقافية؟

      إن الهوية وفق ما تقدم هي هي مجموعة من الخصائص والسمات التي تتشابه مع غيرها وهي كذلك مجموعة من الخصائص والسمات التي تتميز عن غيرها، أو هي ما يعرفها معجم أوكسفورد بأنها السمعة، والخصائص التي يعرفها بها الآخرون، فتكون السمعة بمثابة رأسمال معنوي وهذا التعريف يحيل الى الذهنية الربحية ويرتبط بصورة المنتج في أذهان المستهلكين، وهنا ينسحب الحديث أكثر ما ينسحب إلى الهوية الاقتصادية فمصطلح الهوية يتعدد كذلك من الناحية الدلالية بحسب القيد الذي يوصفه فمرة تكون الهوية ثقافية ومرة أخرى يكون قيد الهوية وصفتها الوطنية فتتمايز دلالة الهوية بحسب القيد الواصف لهذه الهوية والسؤال الذي نفتش عن إجابته هنا هو: ما المائز بين الهويتين الوطنية والثقافية؟

        إن مفهوم الهوية الوطنية هو مفهوم سياسي وبما إنه كذلك فإنه يتأثر بالأحداث والظروف المتغيرة بحسب الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالوطن هو ابن اليوم فنحن حين نتحدث عن العراق المعاصر فإننا نتصوره بحدوده السياسية التي نعيشها الآن في حين أن العراق في الحقب الزمنية الماضية لم تكن حدوده الحالية نفسها الموجودة الآن فقد كان ممتداً أكثر مما هو عليه الآن ومن جميع الجهات وعليه فالهوية الوطنية تدور مدار الخارطة السياسية والخارطة السياسية تتغير، فالهوية الوطنية العراقية الآن حددتها معاهدة سايكس بيكو وعليه فالهوية الوطنية متحركة وخاضعة لظروف ومؤثرات خارجية أكثر من خضوعها لظروف داخلية، ثم إن الانسان باستطاعته أن يغير هويته الوطنية من خلال طلبه الانتماء أو اللجوء إلى أي وطن يجد فيه ضالته فيحوز هوية ذلك البلد فيصبح بذلك مواطنا لذلك البلد يدافع عنه ويخدمه ويتمتع بمزاياه وعليه يصبح قيد الوطنية عند إضافته لمصطلح الهوية وجهاً قابلاً للكشط والتغيير أو ملامحاً متعددة التعبير بحسب الظروف الزمكانية، وهذا ليس خللاً في المصطلح أو في حامليه، فالمصطلح الذي نحن بصدده هو اختراع فلسفي وثقافي وفي علم الاجتماع وقد ذكر بومان أن مصطلح الهوية تحول إلى إجبار مصطلحي فهو في أساسه متخيل ذهني تحول إلى حقيقة معطاة، وأصبح أسطورية جديدة تجعل المرء والمرأة يشعران أن كلمة الهوية تشرح دلالات حياتهما.

        أما الهوية الثقافية فهي أكثر عمقاً فإن كانت الهوية الوطنية تمثل المعنى للبشر فإن الهوية الثقافية تمثل معنى المعنى فهي أكثر اندكاكاً في الذات، وأقل مرونة في التغيير، وهي في حالة تشكل وصيرورة دائمين وإن آلية تشكلها بطيئة جداً وتدريجي جداً وإقناعي جداً، وأوضح مثال على هذه الهوية هي الهوية الثقافية العراقية وقبل الخوض في هذا المثال الحي والحيوي علينا أن نمر على تعريف تايلور للثقافة إذ يقول إنها (( الكل المركب الذي يشمل المعرفة، والايمان، والعقائد، والفن، والأخلاق، والقوانين، والأعراف، وكلّ القدرات، والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع))، وعليه فإن كم التغير الذي يطرأ على مفردات هذا التعريف وخصائصه يحدث كماً متغيراً بالمقدار ذاته على الهوية  الثقافية ومثالنا على ذلك كما بينا هو الهوية الثقافية العراقية فالعراق هو صاحب قابلية التوافق الاحتوائي فقد وفدت عليه أقوام متعددة ولكن بطريقته في التوافق الاحتوائي توافق معها واحتواها كما إنه حلَّاها بألوانه بعد أن تمثل من ألوانهم ما تمثل فالبابليون ليسوا نسخة مطابقة بشكل تام للسومريين لكن أكثر ما تميز به البابليون والسومريون هو عامل الاشتراك أو الاتحاد بين عناصر مختلفة بنت بناءً جديداً ومتحداً، فالأسد خراف مهضومة مع العلم إن الخراف لا تشبه الأسد كما إن الأسد ليس هو تلك الخراف، ولكن كما قلنا سابقا هو هو، وهو غيره في الوقت نفسه وهذه هي طبيعة الهوية الثقافية، وهكذا صارت الهوية العراقية بابلية ثم آشورية بالطريقة نفسها، ومما نلفت إليه النظر في هذا المثال أن بين الحقبتين البابليتين الأولى والثانية كانت الحقبة الأكادية التي ما لبثت أن أُسقطت لتحل محلها الحقبة البابلية الثانية لأنها لم تعبر بشكلٍ وافٍ عن الهوية الثقافية العراقية بعد إحلالها القيم الدينية بالدرجة الثانية بينما كانت هذه القيم لها الدرجة الأولى عند السومريين والبابليين إذ كانت المراسيم الملكية تصدر باسم الآلهة بينما صدرها سرجون الأكدي باسم الملك وقد رأى الشعب العراقي في هذا تحولاً قيمياً كبيراً لم يرتضه لأنه مس هويته الثقافية ما فتح بوابة الصراعات المتتالية على الآكاديين حتى انتصرت البابلية الثانية وعاد الأمر إلهياً وليس ملكياً كما حاول الأكاديون، وهنا يتضح ثبات الهوية الثقافية العراقية التي تجعل في أعلى سلمها القيمي البعد الديني وهذا الأمر نفسه ما حصل مع الدين الإسلامي عند دخوله في مظان الهوية الثقافية العراقية ذات النزعة الدينية وصاحبة آلية التوافق الاحتوائي فالداخل الجديد ليس حاملاً لقيمة مناوئة بل ضمن السلم الثقافي العراقي لذلك احتوته هذه الهوية الثقافية وجعلت له الوجه ولها العروق الدافقة بالبعد الحضاري العميق فالهوية الثقافية العراقية ذات مميزات متعددة بناء على ما تقدم فهي تمتاز بقدرتها التعددية، وفعالتيها الاحتوائية، كما تتميز ببعدها الحضاري، وكذلك في رسوخ القيمة الدينية وتصدرها سلم الأوليات في هذه الهوية، كما وتتميز هذه الهوية الحضارية لاسيما في الحضارات الحية في إنه ممكن أن يضعف لكنه لا يفنى، فحتى الآن هنالك وجود للحضارة السومرية من خلال المفردات اللغوية والعادات الاجتماعية والأزياء وطبيعة الشخصية العراقية من الناحية القيمية وهذا دليل على حيوية الحضارة السومرية وفعاليتها وهذا القياس يسير بالدرجة نفسها مع الحضارة البابلية والآشورية والإسلامية فهي مكونات الشخصية الثقافية العراقية المؤسسة على هذه الأبعاد القيمية.

         وبناء على ما تقدم حين نأتي الآن إلى الهوية الثقافية العراقية المعاصرة نلحظ بشكل بارز القيمة الدينية الإسلامية بركنيها المذهبيين الشيعي والسني ثم يتبعها في السلم القيمي لهذه الهوية القيمة القبلية فنلحظ تعريفات الناس لأنفسهم بانتماءاتهم القبلية وأصولهم العشائرية كما ينفتح هذا الباب القبلي على نوافذ تعريفية قومية للمكونات الأخرى ومنهم التركمان والكلدواشوريين وغيرهم، وهذه اشارة الى الطبيعة التعددية في الهوية الثقافية العراقية مع مراعاة سلم الأولويات القيمية وكذلك فإن هذه التعددية هي تعددية إيجابية متعايشة ما يفرز غنى مجتمعيا توافرت عليه هذه البيئة بسبب طبيعة الانصهار والتداخل المجتمعي لحضارات متعددة ومن أعماق زمنية كبيرة وبذلك فإن الهوية الثقافية في هذه الطبيعة البشرية طبيعية ومنسجمة وولادة، ولكن! متى يمسي هذا الكل المركب المحتوى في الهوية الثقافية العراقية فاتكاً بطبيعة البنية الكلية المتراصة لهذا المجتمع؟

تأتي لحظة الكسوف الثقافية لهذه الهوية الغنية عند التدخلات الخارجية، ويخيم الظلام بعد ذلك الضياء الوهاج، فتختلط الهوية الوطنية بالثقافية وتختل الهويتان نتيجة التدخل الخارجي وحالة المصارعة المحركة من هذا الخارجي الذي يؤجج مكامن الوجع والمسكوت عنه والمحتوى لغرض التوافق والانسجام المجتمعي، فإن كانت طبيعة الهوية الثقافية منمازة بالبعد التفاوضي والاحتوائي، فإن طبيعة الهوية الوطنية صارمة وحادة، فإن كان المثقف يناقش مسألة امتداده الثقافي بأريحية وبتقبل للآراء المضادة وبمنطقية وعقلانية، فإن الوطني لا يتقبل ذلك ولا يرتضيه لأن أي تقبل يعني مساسا بالسيادة وعمالة للآخر الأجنبي.

        هذان موقفان يجب أن لا يختلطا فكل منهم صائب في حدود مفهومه الهوياتي ومتى ما حصل المزج بين الموقفين لتغليب أحدى الصيغتين على الأخرى لمصالح خارجية أو بشكل تعسفي حدث الخلل المعرفي فالهوية الثقافية يجب أن تستثمر امتيازها المعرفي والتفاوضي لكسب ما يحقق مصلحة الهوية الوطنية ويدعم توجهاتها بل وعلى الثقافية أن ترصن الوطنية من خلال سد الفراغات التي يحاول الخارجي ملأها بعبوات التوتر السياسي أو الديني أو الطائفي أو القومي أو العنصري أو غيرها كي يدمر طبيعة الهوية الراسخة وصولاً لتحقيق مبتغاه في السيادة على الثروات من خلال التفريق وتفتيت العرى المتواشجة بين أبناء البلد الواحد، هذا البلد الذي حين أسس عاصمة الحضارة الإسلامية بنى بغداد المستديرة، ففي اللحظة التي يروج الآخر إعلامياً لثقافة أسطورية غربية تعتمد الطاولة المستديرة كي لا يتمايز الأبطال وتتحقق العدالة، كانت بغداد الحقيقة والعاصمة والفعل لا القول الإعلامي دائرية تضم كل مكونات المجتمع الإسلامي وكان لكل مربع منها ناسه وطبقته في استثمار ثقافي مبهر لطبيعة الهوية الثقافية العراقية في ممارسة واقعية غير مأسطرة مازالت شواهدها قائمة ليومنا هذا، بل إن الديمقراطيات الحديثة أسست بنيانها على هذه الفكرة من الناحية المادية وتحاول أن تؤسس على غرار هويتنا الثقافية من الناحية المعنوية فقد ظهر في عام 1994 ملصق إعلاني كبير في شوارع برلين يخاطب الجمهور الألماني بهذه العبارات: ((مسيحك يهودي، وسيارتك يابانية، والبيتزا التي تأكلها إيطالية، وديمقراطيتك يونانية، وقهوتك برازيلية، وفسحتك تركية، وأرقامك عربية، وحروفك لاتينية، وجارك وحده هو الأجنبي)).

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك