علي محمد البهالي
التشريع الإسلامي ينطوي على حكم ومصالح غايتها إعداد أفراد يتسمون بأعلى درجات النزاهة والإخلاص والتقوى، فالصلاة مثلاً على الرغم من وجود حركات وأذكار معينة فيها، فإقامتها لا تنحسر بهذه الطقوس البدنية، وإنما وراءها ما هو أهم وهو السمو الروحي والعروج والاتصال بالباري عز وجل، وهي في الوقت نفسه رادع يردع الفرد عن الفحشاء والمنكر والبغي.وبما أننا في شهر رمضان لا بد لنا من وقفة في عبادة وتشريع مهم ألا وهو الصيام، فالصيام كما يعرفه الفقهاء هو الإمساك عن المفطرات المذكورة في كتب الفقه مع وجود النية، لكن الحكمة من تشريعه لا تتوقف عند هذه الصورة الظاهرية، فقد روي عن السيدة فاطمة الزهراء(ع) قولها : (( فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص)) إذاً فالصيام إحدى حكم تشريعه تثبيت الإخلاص، وربما يكون ذلك لما للصوم من خاصية يمتاز بها عن الصلاة وعن بعض فروع الدين الأخرى، فهي عبادات علنية ومن الصعوبة سترها، أما الصيام ، فإن الفرد يمكنه أن يخفيه عن الآخرين؛ تجنباً للرياء والسمعة وتحصيناً لخلوص النية لله سبحانه وتعالى، ومن الحكم التي وردت في أحاديث أهل البيت في تشريع الصوم تلمُّس الغني الجوع مما يجعله يحس بجوع الفقراء وفاقتهم، مما يستدعي أن ينفق من أمواله وبالتالي تفعيل التكافل الاجتماعي، يروى أن الإمام العسكري لما سُئل عن علة وجوب الصوم قال: ليجد الغني مسَّ الجوع فيمنّ على الفقير.وعن الإمام علي عليه السلام: (( صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام)) يريد منه أن تصوم جوانحه وجنانه أي أن يكون تفكيره ومشاعره وأحاسيسه وملكاته النفسية كلها داخلة في إطار الصوم ، فهو ـ أي الفرد ـ يتوقف أو يمسك عن الحقد والكره والحسد والتعالي على الآخرين وحب الذات والبخل والطمع والجشع ، لذا قال الله سبحانه وتعالى في آية الصيام : (( يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) فالغاية الأساسية من الصيام ليس هو الجوع والعطش ،وإنما الإحساس بالجوع والعطش يقود الإنسان إلى التفكير في عطش الآخرين وجوعهم وهو ما ينهاه عن الأسباب التي تؤدي إلى جمع المال لهذه الأغراض بغض النظر عن مصدر جمعها ؛ لأنه سيصل إلى منطقة التقوى وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بـ( لعلكم تتقون ) فالتقوى في اللغة هي الحذر والحفظ ، فحذر الإنسان من الأمور التي تسبب له الغفلة وتدخله في عالم المادة وعدم استشعار آلام الآخرين ، سيحقق له الحفظ والأمان من الوقوع في محارم الله ونواهيه ، وسيكون زاهداً في هذه الدنيا.إذاً لم يشرع الصيام من أجل سمو الفرد وتكامله الفردي فقط، وإنما هو في الوقت نفسه ذو جنبة اجتماعية كما لا يخفى، فلماذا لا يدرك الذين يعتلون السلطة في العراق اليوم هذه الحقيقة لا سيما أنهم يتقمصون رداء الدين ويتكلمون بلسانه، أم انهم يعون ذلك، لكن ما لا يقع ضمن مصالحهم الدنيوية وفيه تفريغ ولو قليل من جيوبهم المملوءة بالأوراق الخضراء فإنهم يغضون الطرف عنه ويصمون أسماعهم، وينطبق قوله تعالى على مثل هؤلاء L(( أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)). إن الإنسان الذي يدعي الانتماء إلى هذه الشريعة التي سنت هذه العبادات والشرائع حري به أن يكون سلوكه في البيت والوظيفة العامة وفي الشارع عاكساً لمضامين هذه العبادات، وأن لا يقتصر على إظهار الانتماء الظاهري للشريعة الإسلامية من ملابس تقليدية أو زي ديني أو تطويل اللحى وإطلاقها، فما قيمة هذه المظاهر عند الله إذا كان المتقمص لها يسرق أموال الفقراء ويتلكأ في تقديم الخدمات لهم ويرتكب جريمة الرشوة ويتعمد في عرقلة معاملات المراجعين، ويغش الناس في تعامله معهم في السوق أو المتجر، فكما هو واضح إن الله يستهدف أكثر من هدف في تشريعه للعبادة، فهي من جانب تحرر الإنسان من الأغلال والطواغيت وتلغي ارتباطاته بسوى المولى (جل وعلا) وهي من الجانب الآخر تعطي بعداً اجتماعياً لا ينفك بالنتيجة عن الهدف الأول بل هو نتيجة له وثمرة من ثمراته، وحتى الكفارة التي فرضت على من يتعمد الإفطار في يوم من أيام هذا الشهر قد جعلت بين عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ربما لحظ فيها المنحى الاجتماعي، فالإنسان الذي يفطر متعمداً يفرض الله عليه كفارة إعتاق رقبة مؤمنة أو إطعام ستين مسكيناً وهو ما يشكل تركيزاً قوياً على البعد الاجتماعي إضافة إلى البعد الروحي للصوم، وأما من يفطر غير متعمد لعلة ما كالشيخ والشيخة وذوو العطاش والحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن إذا أضر بها الصوم أو بالولد فعلى كل أولئك تجب الفدية وهي مد من الطعام والمد من الطعام مقداره ثلاثة أرباع الكيلو، نستنتج أن الشريعة المقدسة كانت لها وراء تشريعها الكثير من العبادات هدف نبيل وسامٍ وهو تقويم سلوك الفرد وتعديله لينسجم والهدف الأعلى المخلوق من أجله ، وهو ما يؤدي تلقائياً إلى خلق مجتمع عادل تسوده قيم الخير والعدالة والصلاح ،وتنهزم فيه الإرادة الشريرة في النهاية .
https://telegram.me/buratha