عندما ينظر الفرد الى الدول من خلال أدوات المعرفة المتاحة لديه, أي من خلال زياراته الشخصية, او من خلال وسائل الإعلام المرئية, تنطبع في مخيلته الصور الإيجابية لتلك الدول التي تمر على أدوات تحليله العقلية, ومنها الى ذاكرته التصورية, وفي كثير من الأحيان, ولدى أغلب شعوب العالم يقوم هذا الفرد بمحاولة نقل ما يستطيعه من التجارب الناجحة لهذه الدول, الى بلده, في مساهمة فطرية منه لتطوير الواقع الحياتي المعاش في بلده, وقد تختلف أدوات نقل هذه التجارب, إلا أن المحاولة تبقى مستمرة, بدافع الحب الفطري الذي ذكرناه آنفا.
وإذا كان الحال هكذا, وكان أفراد الدول يحبون أن تنقل التجارب الجيدة والناجحة من الدول المتقدمة, الى دولهم, فكيف الحال بالقائمين على السلطة في هذه الدول التي تسعى للتطور؟ خاصة وأنهم يملكون الأدوات والقنوات والإمكانيات التي تمكنهم من نقل هذه التجارب .
في بلد كالعراق; وما مر به من حالات دمار وخراب متعمد, وسرقات وإنتهاك لحقوق الإنسان والحيوان والأرض والنبات, ومع وجود زمرة متهالكة على المناصب, مستقتلة بحب الكراسي, غير مهتمة لأنين الأرامل والثكالى والأيتام والجرحى والمعاقين والفقراء والمحبطين والعاطلين والخائفين والمهجرين والمظلومين والمسلوبة حقوقهم; أقول, مع وجود هذا الدمار في هذا الكم البشري الهائل, أتسائل : ماذا لو زارنا أحد أبناء الدول؟ بماذا سوف يتأثر وينبهر؟ وما هو التقدم الذي نملكه ليحاول أن يصدره لبلده ؟ الجواب ببساطة : لا شيء !
هذا الخراب والتدهور له أسباب عديدة, ولن من أهم هذه الأسباب المشخصة لدى المختصين, وعدد من المخلصين, هي غياب النظم الإدارية الحديثة, والتي بالضرورة تقود إلى سلوك المسارات التنموية الصحيحة, والنهوض بواقع هذا البلد . من أين تأتي هذه النظم الإدارية؟ وكيف يصار إلى تطبيقها تطبيقا وظيفيا صحيحا ؟
العامل الأهم الذي يجب توفره في إدارة الدول الحديثة, والذي يصار منه إلى تحقيق العدل في دولة عصرية عادلة; هو إتباع سبل التخطيط الإستراتيجي, المتأتي من رؤية إستراتيجية, تقود الى نمطيات إدارية صحيحة, ترفع عن كاهل الهيكلية الوظيفية, معرقلات عملها, والتي منها : الروتين, البيروقراطية, والفساد الإداري, والقوانين القديمة والفاسدة, والشمولية, مع وجود بنية مؤسساتية "كهله ومتهالكة " .
التخطيط الإستراتيجي, يقود بالنتيجة إلى تحقق مفهوم الإدارة الإستراتيجية الفاعلة في إقامة الدولة العصرية العادلة . الإدارة الإستراتيجية يعرفها أحد الخبراء بأنها : " مجموعة من القرارات, والممارسات الإدارية, والتي تحدد الأداء طويل الأجل للدولة, بكفاءة وفعالية, ويتضمن ذلك وضع أو صياغة الإستراتيجية وتطبيقها, وتقويمها, باعتبارها منهجية أو أسلوب عمل " .
بعد أن عرفنا مفهوم الإدارة الإستراتيجية; نتسائل هنا: هل للجهاز الإداري الحكومي في العراق, رؤية واضحة لهذه المفاهيم؟ لا أعتقد ذلك, خاصة وأن إدارة مؤسسات الدولة, تفتقر وبشكل واضح لعوامل الإدارة الإستراتيجية, والتي منها : توزيع الخبرات, الحيوية, المرونة, التجدد والانفتاح; إضافة لفقدانها الرؤية المستقبلية, وعدم إمتلاكها لهدف رسالي; مع ارتباك واضح في مخرجات ومدخلات توزيع كم الطاقات البشرية المتاحة, وما تحويه من كفاءات, على مقدار الاحتياجات الحقيقية لتطوير البنى الأساسية لهذا البلد . هذا هو الشق الأول في عملية الشرخ البنيوي الذي أصاب بنية الدولة العراقية الآن .
الشق الثاني, وهو تخريب بنية الدولة العراقية, من خلال سوء إدارة الملف الأمني, ويمكن حصر مفهوم سوء إدارته بمحورين, الأول : عدم توحيد الجبهة الداخلية لمواجهة الإرهاب الأعمى , مما مكنه من ضرب جنبات الوطن, محاولا بيأس, أن يخلط الدم العراقي الطاهر بأفكاره الظلامية التكفيرية المنحرفة, لكنه يدرك جيدا أن معركة العراقيين معه معركة وجود وسينتصرون عليه، وأن الحاجة إلى توحيد الجبهة الداخلية ضد الإرهاب دون السماح له أن يفصل مناطقيا أو مذهبيا أو قوميا, فالجميع أمام الإرهاب كتلة واحدة, والإرهاب أمام الجميع إرهاب ظلامي واحد, دون اختلاف في التوصيف أو التحليل .
هنا نحن بحاجة ماسة إلى تطوير الأساليب الأمنية، على أن تكون المؤسسة الأمنية هي صاحبة المبادرة, متقدمة على الإرهاب في أفكارها ووسائلها، لان المعركة الحقيقية مع الإرهاب هي معركة وسائل و أدوات وطريقة تفكير.
المحور الثاني الذي فشلت أجهزة السلطة الحاكمة في تنفيذه على صعيد الملف الأمني هو: بناء جسور الثقة بين الأطراف السياسية في العراق, حيث أن الثقة تعد مفتاح النجاح. كما إننا لم نجد دعوات صريحة من رجال السلطة الحكومية, والماسكين لزمام الأمر الإداري في الدولة, للسعي وبجدية لبناء جسور الثقة المتبادلة فيما بينهم لتسهل باقي البناءات الأخرى، فالثقة طريق القادة للتقارب واعتماد خطوات العمل المشتركة واحترام العهود والمواثيق .
هذين المحورين, هما من أهم المحاور التي تمكن العراق من النهوض بواقعه, وهما من أهم المسارات التقنية الصحيحة والمعاصرة, التي تمكننا من تحطيم عصى التخريب المتعمد, لعجلات التطور في هذا البلد, وهما الأساس الذي يمكن أن يصار منه, إلى بناء وعي جماهيري يرسخ مفهوم المواطنة الصالحة, فإدارة الدول في الوقت الراهن, أصبحت عبارة عن ملفات متداخلة فيما بينها, يسند بعضها بعضا, ويقوم بعضها على البعض الآخر . فهل نجد آذان صاغية لهذه الدعوات الشريفة للإصلاح ؟ والتي بدأت تصدر عن عدد من سياسيي الأسلوب المتحضر في العراق ..
محمد أبو النواعير- ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة
https://telegram.me/buratha