حميد الموسوي
يتسع مفهوم الفساد الإداري، أو فساد الدولة، ويتشعب ويتنوع فلا ينحصر في سرقة المال العام، بل يتعداه ليشمل المحسوبية والمنسوبية، وعدم الشعور بالمسؤولية، واللاأبالية في التعامل مع ممتلكات الدولة، والتهاون في أداء العمل، وشيوع وتعاطي الرشوة، والتسيب في العمل، وتغليب المنفعة الشخصية، وانعدام الشعور الوطني والسكوت عن الممارسات الخاطئة.. وغيرها.دبت هذه الأمراض وترسخت في جسد الدولة العراقية مع بداية تسلط عناصر النظام الدكتاتوري السابق على مقاليد الحكم بعد انقلابهم الأسود في العراق وتفشت مع استلام هدام رئاسة السلطة، حين باشر بانشاء فئات متسلطة فوق سلطة القانون وأوجد حاشية كبيرة من رعاة وقرويي عشيرته بعدما منحهم الرتب والشهادات والمناصب وخاصة في الأمن والمخابرات والحرس الخاص والأمن الخاص والحماية الخاصة وتم توجيه عقليتهم المتخلفة لخدمة النظام حصرا بعد اعطائهم السلطات المطلقة ولم تكن صلاحيات وسلطات الرفاق في الصفوف المتقدمة في حزب البعث أقل شأنا، فقد منحوا امتيازات وسلطات واسعة بل إن عوائلهم كانت مصونة غير مسؤولة، فالأفضلية لأولادهم وبناتهم في الكليات والسفر والتعيينات والنفوذ ولا تطبق بحقهم القوانين مهما فعلوا، وأمتدت الهبات لتشمل العشائر المتفانية في خدمة النظام فمنح أفرادها السيارات الحديثة والأسلحة المتنوعة وسمح لهم ببناء القصور والعمارات في بغداد وتبوؤا المناصب والوظائف واعفوا من الخدمة العسكرية. فترك أغلب القرويين الزراعة وانتقلوا الى المدن لينغمسوا في ممارسات شاذة نتيجة تراكم الثروات المالية التي أغدقتها عليهم السلطة وانبهارهم بأوضاع المدينة وتحللهم من كل التزام قانوني واخلاقي كونهم فوق القانون لأن أبناءهم وإخوانهم من المقربين للسلطة أو ضباطا كبارا في أجهزتها القمعية أو كونهم ينتمون للمدينة الفلانية أو العشيرة الفلانية.وبالمقابل حاولت تلك السلطة المتخلفة تدمير الطبقة المثقفة والمتعلمة ترسيخا لبقاء الحاكم المستبد أطول فترة. وهذا المطلب لا يتم إلا بافقار المجتمع وتجهيل أفراده واسقاطهم خلقيا. وهكذا اندفع النظام المقبور بكل همجية ليسوق الموظفين والخريجين الى الخدمة العسكرية أو الجيش الشعبي ثم زجهم في حروب طاحنة أكلت خيرة شباب العراق بدأت عام 1980 ولم تنته إلا بعد سقوط الصنم، ولم يسلم طلبة الكليات والاعداديات من تلك المطحنة التي لا تبقي ولا تذر بل تجاوز الأمر فوصل الى تلاميذ المدارس الابتدائية فسيقوا الى معسكرات صيفية "كأشبال وطلائع" ناهيك عن "جيش القدس، وجيش النخوة، ونواطير الشعب" وفي الوقت الذي أغدق النظام المقبور فيه على الطبقات المقربة بالأموال والهبات والمناصب وتركها تسرف في الملذات والتجاوزات، وتنفرد بالسلطة والمناصب حرم الطبقة المتوسطة من أبسط معوقات العيش الكريم بعد أن دمر مستقبل أبنائها في حروبه العبثية وتركها يتامى وأرامل لا حول لها ولا قوة ليجبرها على الانحراف والسقوط في الرذيلة.وإزاء هذا التمايز الطبقي الفاحش من البديهي أن يتولد شعور بالغبن والضياع لدى أفراد الطبقة التي سحقت عمدا، وطبيعي أن تتفشى الرشوة في دوائر الدولة وحتى أجهزة الجيش والشرطة أمام ارتفاع الأسعار وقلة الرواتب، لينتشر بعد ذلك الفساد بشكل علني حين أمرت السلطة المقبورة كافة الوزارات والدوائر الرسمية بنهب وسلب كل ما تقع عليه اليد في الكويت بعدما دخلها الجيش العراقي!، حيث اختل توازن أفراد المجتمع وهم يرون الدولة تسرق. فيرتفع المستوى المعاشي بشكل مهول لطبقات معينة، وتدفع طبقات أخرى أرواح أبنائها ثمنا لهذه السرقات، ثم لتقع نفس هذه الطبقة تحت طائلة الحصار وتزداد الأولى نعيما ورفاها. ويوما بعد يوم، وتحت هذه الضغوط وهذا التمايز، صارت الوطنية ترفا، وصار الفساد والإفساد أمرا مألوفا، بعدما قامت السلطة الدكتاتورية بشكل مقصود بتخريب الأخلاق، وتفتيت النسيج الاجتماعي، وهدم الإنسان وقتل روح المواطنة في داخله، وتحويله الى كائن مسلوب الإرادة، مشلول التفكير يجري بنهم لتوفير لقمة العيش لأسرته، وهو ينظر بنقمة وحسد لمن حققوا الإثراء السريع سواء عن طريق النهب والسلب والرشى أو عن طريق احتضان السلطة.وبالتالي فهو لم يعد عابها بوطن لا يملك فيه شبرا وتمتهن كرامته فيه ولا يحصل على رغيفه إلا بشق الأنفس، فكان لابد أن يتجه ولاءه لرجل الدين أو لشيخ العشيرة في عملية تعويضية وضمانا للحرية. وأن يسعى ليل نهار لتحقيق الثراء وتغيير مستواه المعاشي بغض النظر عن الوسيلة والطريقة مدفوعا بالحاح الحاجة واهمال الحكومة واختصارها على المقربين وتأكيدها على أن الذي يريد استلام السلطة بدلا عن البعثيين سيستلمها ترابا وخرابا بلا بشر!.وفق هذا النهج.. وتأسيسا على هذا البناء دأبت سلطة البعث على تخريب نفوس هذا المجتمع طيلة السنين الأربعين السود من حكمها، وحرصت على تجذير طباع الفساد والشر والرذيلة حتى احالتها ثوابت استمرت حتى بعد سقوط تلك السلطة لتشيع حالة النهب والسلب وتخريب دوائر الدولة مستغلة ضعف الدولة وغياب القانون. بدلا من استثمار الحرية واستغلال الديمقراطية في إعادة تأهيل النفوس، والاستفادة من الثروات الوطنية في بناء العراق الجديد.ما يحز في النفس، ويملأ القلب غيضا، ويشحن الصدر غما، استمرار حالة الفساد والافساد لا بل واتساعها ووصولها الى بعض المسؤولين الكبار والذين تسللوا بشكل أو بآخر الى صفوف الحركات الوطنية التي ساهمت في عملية التغيير، وما هم من معارضي السلطة المقبورة بل من الذين لم ترضى عن أدائهم فخفضت امتيازاتهم ولذلك "زعلوا" ليحسبوا أنفسهم فيما بعد مع صفوف المعارضة.ونتيجة لحجم الفساد، والأموال التي نهبها هؤلاء [غير المسؤولين] الجدد اضطرت الحكومة المنتخبة لتشكيل [هيئة النزاهة] لغرض مكافحة الفساد، ومتابعة المفسدين في كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية، ومساءلتهم واحالتهم الى السلطة القضائية بغض النظر عن مناصبهم ومراكزهم الوظيفية، لكنها لم تحقق النتائج المرجوة، ولم تقم بتفعيل الاجراءات القانونية ضد المفسدين ولأسباب متعددة ما ادى الى نتائج عكسية في أغلب الأحيان، فقد صار الفساد أمرا عاديا مألوفا، واتسعت حلقاته، وتنوعت صفقاته المشبوهة في عمليات مفضوحة لهدر المال العام وتعطيل المشاريع الهامة، ولم ترق قرارات الإدانة التي صدرت بحق المفسدين الى ما يتناسب وعدد وحجم القضايا التي اكتشفتها وحددتها "هيئة النزاهة" ما أثار حالة من الاستياء العام، وولد احباطا وخيبة أمل في نفوس المواطنين، واحراجا للحركات والقوى السياسية وللحكومة والبرلمان بنفس الوقت، ويظل المراقب والمتتبع في حيرة من امره على من يلقي المسؤولية، ويحمل من تبعات هذا الداء؟!، فحسب رأي أحد مسؤولي هيئة النزاهة: "إن مجلس الوزراء لا يشكل فريق عمل متجانس خاضع لإدارة رئيس مجلس الوزراء بل إن اختيار الوزراء جاء حسب تنسيب كياناتهم وعليه فرئيس الوزراء لا يملك إقالة أو محاسبة الوزير غير الفعال". أما الجمعية الوطنية فإن الكتل المكونة لها ستنبري للدفاع عن الوزير المقصر لهذه الكتلة أو تلك وحمايته. كما إن بعض الأطراف فيها تعيق تنفيذ القانون واتخاذ الاجراءات بحق بعض المتورطين في قضايا الفساد وامتنعت عن رفع الحصانة عنهم. كذلك فإن ديوان الرقابة المالية يتبنى آلية التدقيق اللاحق للصرف وذلك بعد سنة على حصول الصرف ومتابعة الديوان تقوم على تكليف الدوائر بتصفية حساباتها والتي لا يضمن أن تكون دقيقة واكثرها تأتي كاجراءات شكلية. أما هيئة النزاهة فقد اعتمدت اسلوب التلويح والتهديد بدل الانقضاض المفاجئ وبهذا منحت المطلوبين فرصة للاختفاء أو الفرار خارج العراق. ووفق آخر الأرقام المعلنة عن هيئة النزاهة بلغ عدد القضايا المحالة الى المحكمة المركزية "310" قضية بينما لم يصدر لحد الآن سوى "12" قرارا عن تلك المحكمة المختصة كذلك فإن عددا كبيرا من المفتشين العاملين غير فعالين أما بسبب عدم توفر المواصفات المهنية أو الشخصية أو لأن بعضهم يسعى الى الحرص على الوظيفة والموقع ويتجنبون الوقوع في خلاف مع رؤسائهم.إن مشكلة الفساد الإداري، كارثة بحجم معضلة الإرهاب وفقدان الأمن فكلتاهما تنخران في جسد هذا الوطن الجريح، وتخربان بناه التحتية وتبددان ثرواته وتدمران اقتصاده وتحيلان حياة شعبه بؤسا وجحيما وعليه فلابد من تفعيل قانون مكافحة الفساد الإداري، والتصدي الحازم من قبل مجلس النواب ومجلس الوزراء لكل من تثبت إدانته ورفع الحصانة البرلمانية عن المتورطين الكبار وفضح الكتل والجهات المادفعة عنهم ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية والدينة والأخلاقية والقانونية.كما أن لمنظمات المجتمع المدني، ورجال الدين، والصحافة دور مهم وفعال في التوجيه والمتابعة والرقابة، فإن مشكلة الفساد الإداري من السعة والخطورة بحيث لايمكن حصر معالجتها بجهة من الجهات، أو احتوائها بأقل التدابير. أو تعليق تبعاتها على إحدى الشماعات!!.
https://telegram.me/buratha