وتبدو اميركا اكثر ارتباكاً وحيرة من اي وقت مضى في مواجهة هذا الوضع غير المألوف، منذ بدأت دعمها الجديد للمنظمات الدينية التي اعتادت على تسميتها بالمنظمات الارهابية. فقد انتصرت اميركا بانتصار هذه المنظمات في تونس وليبيا ومصر واليمن، ولكنها واجهت انتكاسة استراتيجية وسياسية في سوريا حيث يهمها ان تحقق انتصاراً يفوق في اهميته لها ولخططها كل الانتصارات السابقة. ذلك ان انتصار اميركيا في سوريا كان من شأنه ان يفتح الابواب لهيمنة اميركية كاملة على المنطقة العربية والشرق الاوسط، وكان من شأنه ان يفتح الممرات المغلقة بوجهها في طريق مهاجمة إيران، وبالتالي انهيار كل مقاومة قومية وإقليمية للنفوذ الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي على المنطقة والإقليم.
لم يكن ثمة مانع امام الولايات المتحدة ـ ومعها الاتحاد الاوروبي وتركيا وحلف شمال الاطلـسي ـ لأن تفتح عهداً جــديداً من الحــرب البــاردة شبيه بالبدايات القديمة للحرب الباردة التي اعقـبت الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما كان التحالف السوفياتي ـ الصيــني لا يزال قائــما. لقد اظهرت الولايات المتحــدة منذ بداية الصــراع على سوريا استـعدادا غير مسبوق، لأن تعيد صراع الحرب الباردة مع روسيــا والـصين، عن طريق الضغط على البلدين غير الغربيين، للرضوخ للخطط الاميركية الاطلسية الرامية الى استخدام مجلس الامن اداة لإخضاع العالم للنظام الجديد القائم على تحالف غير مألوف بين الغرب ـ والأطلسي أداته العسكرية الاكبر ـ والتنظيمات الارهابية مثل «القـاعدة» و«الجهاد الاسلامي» والتنظيمات شبه الارهابية. وأول وأكبر هذه التنظيــمات هو تنظيم «الاخوان المسلمين» بأجنحته الدولية الشاسـعة المنتــشرة في العالم ابتداءً من مصر، حيث كان التأسيس الاول، الى باقي الأقــطار العربية وامتداداً الى أندونيسيا وماليزيا وجنوب الفيلبين، وإن اختلفت الاسماء بين هذه البلدان. ويشمل هذا ايضا التنظيمات الاخوانية المسلحة في بلدان آسيا الوسطى وخاصة اوزبكستان وقرغيزستان قريبا من الاراضي الايرانية وقريبا ايضا من الاراضي الروسية وغير بعيد عن اراضي الصين.
وصحيح ان الحرب بين الغرب بزعامة اميركا على روسيا والصين بقيت حرباً باردة، ولكن لا يزال من الضروري مراقبة احداث هذا الصراع بعد نتيجة المواجهة في سوريا. فهل يصل الامر الى حدود حرب حقيقية تدافع فيها روسيا والصين عن مصالحهما الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الاوسط ضد خطط الغرب وأهدافه لتأسيس قواعد في صورة نظم حاكمة عربية وإسلامية تعمل على إغلاق البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر والخليج بوجه العبور الروسي والصيني؟
لعل اشد الاخطار لحدوث مثل هذا التحول في المواجهة بين الغرب بزعامة اميركا والشرق، اذا جاز القول تعبيراً عن روسيا والصين وايران والقوى التي تبدي استعداداً لمقاومة الهيمنة الغربية، يتمثل في اثارة اميركا وأوروبا وإسرائيل مشكلة الاسلحة الكيماوية السورية. لقد اعتبرت اميركا وإسرائيل ان هذه الاسلحة توفر الذريعة الكافية لتدخل اميركي او اسرائيلي ضد سوريا. وظلت التهديدات الاميركية ـ الاسرائيلية تتردد حتى عندما اعلنت سوريا تعهدا واضحا وقاطعا بأن مثل هذه الاسلحة لن تستخدم الا في حالة تعرض سوريا لهجمات عدوانية خارجية.
يتضح بشكل جلي ان اميركا وقعت في خطأ التقدير في ما يتعلق بإمكان إضافة سوريا الى جدول البلدان التي سقطت ضحية للتنظيمات الارهابية. مع ذلك لا بد من القول صراحة ان اميركا بقيت واعية بصعوبة التدخل في سوريا عسكرياً، فيما يتجاوز حدود التمويل والتسليح للجماعات والتنظيمات الارهابية. لقد ابقت اميركا على ادوار السعـودية وقطر والامارات في تمويل الصراع داخل سوريا لمصلحة التنظيمات الارهابية، الامر الذي ساعد على اطالة زمن هذا الصراع. وفي الوقت نفسه فإن الشكوك في مدى جدية اميركا بالنسبة لهذا الصراع في سوريا بالذات قد راودت السعوديين ومساعديهم الخليجيين. بل إن هذه الشكوك راودت اسرائيل التي اعتبرت دائماً ان الصراع على سوريا وداخل سوريا هو مسألة وجود بالنسبة اليها بالنظر الى اعتبار الصراع في سوريا مسألة يمـكن اعتبارها من المنظور الاسرائيلي الرسمي فرصة مواتية لمهاجمة ايران. وفي هــذا الصدد فإن اسرائيل فشلت في الحصول على نتائج من اي نــوع من وراء إطلاق حملة اتهامات زائفة ضد ايران بأنها تشارك في الصراع السوري بمقاتلين من الحرس الثوري الايراني او من المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله.
مع هذا كله فانه لا يمكن الادّعاء أن اميركا، وفي ذيلها اسرائيل، قد خرجتا خاويتي الوفاض تماما من الصراع السوري بعد كل الدلائل الواضحة على ان سوريا تملك فرصة اعلى كثيرا للانتصار في هذا الصراع، وأن اميركا وبالتالي اسرائيل لقيتا هزيمة. لقد كسبتا ولاء وضمانات النظم التي استولت على الحكم في ليبيا وفي مصر وفي تونس واليمن والسودان بشطريه، بأن لا عداء تجاه اسرائيل، وبالتالي فلا نيات معادية عسكرية او سياسية من جانب هذه النظم التي اقامتها تنظيمات ذات طابع ديني متطرف. وتجيء هذه الالتزامات والتطمينات نتيجة للسلام مع اسرائيل الذي اقامته دول عربية وإسلامية لها ثقلها الاقتصادي والسياسي في المنطقة مثل السعودية وتركيا وقطر والامارات. هذا اذا لم نشر الى الوزن الروحي الذي تتمتع به السعودية في العالم الاسلامي ككل.
وبالنسبة للموقف الاميركي فان الكاتب الاميركي بول كريغ روبرتس يقول في مقال نشر له في موقع «كاونتربنش» (27-29 تموز/يوليو 2012) ان (الرئيس الاميركي باراك ) «اوباما لم يقل لماذا تستميت حكومته من اجل إسقاط الحكومة السورية». ويجيب على ذلك السؤال بأن «الاول بين الدوافع هو التخلص من القاعدة البحرية الروسية وبالتالي حرمان روسيا من قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. وثمة دافع ثان هو إزالة سوريا كمصدر اسلحة ودعم لـ«حزب الله» من اجل ان تتمكن اسرائيل من ان تنجح في محاولاتها لاحتلال جنوب لبنان والاستيلاء على مصادره المائية. وقد ألحق مقاتلو «حزب الله» الهزيمة مرتين بمحاولات اسرائيل العسكرية لغزو الجنوب اللبناني واحتلاله. وثمة دافع ثالث هو تدمير وحدة سوريا بصراع ديني على النحو الذي دمرت به واشنطن ليبيا والعراق، وترك سوريا للفصائل المتحاربة من اجل تمزيق البلد وبالتالي إزالة عقبة اخرى امام هيمنة واشنطن».
ولا يكتفي الكاتب الاميركي بهذا التحليل الدقيق لأهداف واشنطن في الصراع السوري. انه يضيف إشارة بالغة الأهمية الى الغطاء الاخلاقي الذي تقدمه واشنطن لاستخدامها العنف في إسقاط حكومات اخرى، اذ تتحدث عن «جلب الحرية والديموقراطية وعن اسقاط دكتاتوريات فظة وحماية حقوق المرأة».
والامر الذي لا شك فيه ان الادارة الاميركية وأجهزتها المخابراتية قد انغمست في التفكير وفي الإعداد للخطوات التي يتعين عليها اتخاذها عندما تنجح القوى التي تحارب باسمها داخل سوريا في تحقيق الانتصار على الحكومة السورية. ولكنها لم تفكر ـ او بالاحرى هي اخفت عن العالم، التفكير في ما يمكن ان تفعله حينما ينتهي الصراع السوري الى انتصار النظام على معارضيه، على الرغم من كل ما يحظون به من دعم في صورة اسلحة ومقاتلين واموال من مصادر تدعم الخطة الاميركية. فهناك دائما افكار اميركية بشأن ما يحدث بعد إسقاط النظام السوري، ولا شيء عما يحدث بعد انتصار النظام السوري (…)هذا هو الموقف الحرج الذي تواجهه ادارة اوباما الآن بعد ان اصـبح بادياً لكل مراقب خارجي او داخلي ان سوريا تحقق انتصاراً على خصومها وبالتالي على الولايات المتحدة والسعودية وقطر والامـارات …الخ.وربما يحق لنا ان نعتبر ان النظم العربية – الاسلامية التي بذلت اقصـى جهــودها من اجل إنجاح خطط واشنــطن في ســوريا كانت اكثر واقعية في نظرتها الى نتائج هذا الصراع. فهي من ناحــية لم تكف عن مطالبة اميركا بالتدخل المباشر في سوريا عسكرياً على النحو الذي تم في السيناريو الليبي باستخدام قوات حلف شمال الاطلسي، تدعمهـا قوات «عربية» من قطر والامارات. وهي من ناحيــة اخــرى، توقــعت ان يطول الصراع السوري زمنياً. فضلاً عن توقعها ان تربط اسرائيل حربها ضد سوريا و«حـزب الله» بما تهدد به الدولة الصهيونية باستمرار من توجــيه ضربات جوية واسعة النطاق ضد ايران مستهدفة منشآتها النووية. ولم يعد خافياً ان المملكة السعودية تعتبر ان ايران هي مصدر ازعاج لها اكثر خطورة من اي مصدر آخر، وبالتالي انها تفضل ان تتولى اسرائيل الشأن الايـراني عسكرياً اذا كان التدخل في الصراع السوري مستبعداً، وبصرف النظر عن الاسباب. ولكن هذا لا يمنع السعودية من اعطاء كل المبررات للولايات المتحدة لمواصلة الصراع السوري عن طريق توفير المقاتلين من اي بلد كان واستمرار امدادهم بالمال وبالأسلحة.
ما تعنيه هذه الهزيمة لاسرائيل فإنه يتمثل في استمرار النخبة الحاكمة الاسرائيلية في تحريض الجانـب الاميركي على أداء دور اكثر هجومية لحماية اسرائيل وباقي الحلفاء العرب وأنظمتهم. ولهذا فإن اول التوقعات من سلوك اسرائيل ازاء مثل هذا التطور في الصراع السوري سيظهر في صورة اشتداد حدة التحريض الاسرائيلي للولايات المتحدة على مهاجمة ايران. وهو ما ثبت حتى الان ان اسرائيل لا تملك القرار بشأنه وتترك القرار للولايات المتحدة. مع ذلك فان اسرائيل تستغل فترة الاشهر الثلاثة الباقية على موعد انتخابات الرئاسة الاميركية في الثلاثاء الاول من شهر تشرين الثاني / نوفمبر القادم لممارسة اقصى ما يمكنها من ضغط انتخابي على المرشحين في هذه الانتخابات اوباما الديموقراطي ورومني الجمهوري. والاخير قد ابدى اقصى درجات الاستعداد لإظهار ولائه لإسرائيل، ولكن اوباما لم يترك الساحة الاسرائيلية خالية لمنافسه.ستكون هزيمة اميركا في الصراع السوري جزءاً أساسياً في حملة انتخابات الرئاسة الاميركية بمضمونها الاميركي والاسرائيلي على حد سواء طوال الاشهر الباقية على موعدها. يتقدم على كل الموضوعات في هذه الحملة ما اذا كانت اميركا واسرائيل تستطيعان الرد على هذه الهزيمة بهجمة عسكرية على ايران.
34/5/131220/ تحرير علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha