بقلم ليلى الخفاجي
الشهيدة ام فاطمة ( اميرة )امرأة لها خصوصية تميزت بها عن كل الشهيدات اللواتي سبقنها في قافلة العروج الى الله - وهي انها وصلت السجن في وضع النفاس - نعم في (( وضع النفاس )) الله اكبر - كلما اتذكرها فان دموعي تسبق خيالاتي. فقد تم اعتقالها في محطة القطار وهي في طريق العودة من زيارتها لزوجها المعارض اسماعيل الهارب في الجبال من قبضة النظام البعثي وهو حسب ما اتذكر من الكرد الفيليين من خانقين - ذهبت الزوجة من بغداد لزيارته سرا , ويبدو ان عيون النظام كانت تتربصها , وقد رصدوا تحركاتها وكانوا لها بالمرصاد. تم اعتقالها في محطة القطار عند عودتها الى بغداد وتم تفتيشها ووجدوا في حقيبتها ورقة سلمها لها زوجها فيها بعض المعلومات , فتم اعتقالها واقتيادها الى اقبية التحقيق والتعذيب - ولانهم علموا بانها تحمل جنينا بين احشائها فانهم اطالوا فترة بقائها في مديرية الامن لحين ولادتها من اجل عدم شمولها بتخفيف الحكم عليها بسبب الحمل. انتظروها الى ان وضعت وليدتها الجميلة فاطمة وسراعا تم اخذ وليدتها وحرمانها منها وتسليمها الى اهلها وبعد ذلك بايام قلائل تم اقتيادها الى محكمة الثورة - وتم الحكم عليها بالاعدام شنقا حتى الموت. وبذلك وصلت اميرة الى سجن الرشاد منهكة خالية الوفاض لايؤلمها قسوة الحكم , او الام المخاض , بل وجع حليب رضيعتها المتخثر في احشائها - اذ مضىت ايام على اخر رضاع لها بعد ان فطمتها قسرا بامر من جلاديها. نعم وصلت الينا وقد تحول لبنها الى قيح ودمامل تسببت بارتفاع حرارتها واصبحت تئن من الالام اضافة الى وهن جسدها بسبب اعراض النفاس - وبسبب حكم الاعدام فلم يكن من الممكن ان يتم احالتها الى مستشفى او طبيب خارج السجن - وللتخفيف من معاناتها فقد لجأت احدى السجينات وهي من خريجات معهد التمريض الى المجازفة لمساعدتها بما تيسر من وسائل بسيطة الى فتح الدمامل واخراج القيح وسط الام ومعاناة قد تشقق جدران السجن الصماء لو كانت تبصر اشفاقا على هذه الام المفجوعة المألومة .. ورغم ذلك لم تستطع قسوتهم ان تنال من رقتها وشفافية روحها - فلم تشكو ولم تتذمر رغم الالام وقد تميزت بخصوصية تلمسها كل من كان قريبا منها وهي انها تعشق التحليق في رحاب الملكوت فقد كانت تناجي الله وتدعوه في اوقات السحر بصوت ملائكي حنون - كنا نستيقظ على انغام صوتها الشجي الخافت - ولطالما رايتها خلسة والدموع تخضب وجنتيها وهي في محراب صلواتها. لم تكن دموع اسى بل كان معنى التسليم لامر الله متجسدا فيها وفي سكون نفسها وهدوءها , كنت ابحث عن خوفا , ندما , لوما , اضطرابا , او قلقا في ملامحها , نظراتها ولو تلمسته لما استغربت ولكني بدل ذلك لم ارى الا السكينة والرضا والتسليم لامر الله - وسمعتها تقول مازحة وبنبرة فيها فخر واعتزاز بزوجها - لو كان اسماعيل يعلم بمكاني لجاء وهاجم السجن وحررني. . عدم اضطرابها هو ما لفت انتباه احدى السجينات الشيوعيات التي سبقت اميرة في وصولها الى السجن وهي محكومة وشقيقتها بالاعدام - كانت ( ام زينب ) تقطع الممر ذهابا وايابا وهي مصفرة قلقة ومضطربة وخائفة وتنظر من الشباك الى ام فاطمة وهي تارة تصلي واخرى تقرأ القرآن وثالثة تقرأ الادعية بصوت رخيم - فانحذبت اليها واصبحت تقترب منها خلسة خوفا من ان تراها اختها التي تتبنى الفكر الالحادي الماركسي ولا تؤمن بالله وتخشى عليها من ان تتأثر باميرة في اواخر ايام حياتها قبل تنفيذ الحكم بها. . كان لاميرة موقف لا انساه ماحييت فقد علق في ذاكرتي وانطبع على شغاف الروح عن- فعندما فوجئنا في احد الايام باشد السجانات قسوة وغلظة , وهي تنادي بصوتها الجهوري البغيض الينا لانه لاينبئنا الا بمكروه وسوء - اين اميرة ؟ اين اميرة ؟؟ تعالي تعالي !! - تصورنا في بادئ الامر ان حان وقت تنفيذ الحكم بها - ولكن انتبهنا ان ابتهال تحمل طفلة بين يديها - واذا بها عندما اقتربت من اميرة تقول لها هذه ابنتك انها - فاطمة - نعم لقد جاء بها اهلها الى السجن لتراها قبل ان يحين موعد تنفيذ الحكم. كانت اميرة وقتها على سجادة تصلي وتدعو فأخذت ابنتها , احتضنتها وقبلتها وشمتها واطالت النظر اليها والدموع تسيل مدرارا وكأني بها تريد ان تسقيها من سنخ لبنها الجاف شيئا فلم تجد الا الدموع , لقد فتحت قماط طفلتها البرئية الجميلة التي ما زلت اتذكر جمال عينيها وملامحها الملائكية - ثم اعادت تقميطها بعناية فائقة وحملتها بكلتا يديها ورفعتها نحو السماء الى ما فوق راسها وهي مازالت تقف على سجادتها . وعندما سالناها لماذا فعلت ذلك ؟ ؟ قالت لاني لم استمتع بالقيام بواجباتي كأم تجاهها ولم اقم بتقميطها مذ ولدت فاحببت ان اقوم بذلك ولو لمرة واحدة في حياتي - ثم رفعتها الى السماء عسى ان يتقبل الله مني ما انا فيه وان يرعاها ويحفظها - لقد ابكتنا جميعا- لقد تجسد امامي موقف الرباب مع عبد الله الرضيع - لقد ابكى موقفها حتى تلك السجانة الفظة القاسية القلب - والسيئة الخلق والتي كانت تتعمد ايذاء كل السجينات وتتلذ بمعاناتهم - لاول مرة اراها تبكي عندما اخذت الطفلة من امها بدون اي مقاومة لترجعها الى اهلها بعد انتهاء الوقت المحدد للزيارة. وقد كان لاميرة موقف اخر بعد ايام قليلة وفي نفس المكان وعلى سجادتها تلك حيث جاءوا لاقتيادها هذه المرة الى سجن ابو غريب لتنفيذ حكم الاعدام - فاسرعت للغسل ولبست اكفانها وصلت ركعتين وقرأت دعاء العديلة وزيارة الحسين بصوتها الشجي الحزين - وبدأت بعدها بالنظر في عيوننا واحدة واحدة - كانت تطيل النظر وتحدق في العيون , شعرت بانها تريد ان تتملى منا - اشعرتني طريقتها في التوديع بانها تودع الاهل وبالاخص تودع غيابيا طفلتها التي تركتها وديعة في رعاية الله وتحت ظل رحمته. سارت بخطى واثقة مطمئنة مسلمة امرها الى الله فسلام عليك اميرة يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثين حية.
https://telegram.me/buratha