د. جواد كاظم البكري
تشكل أزمة الأنبار احدى الأزمات الكبيرة التي من الممكن أن تغير مجرى الأحداث في العراق إلى الأبد، نتيجة للتعقيد الكبير الذي يلف أحداثها فضلاً عن تداخل الأجندات الخارجية، وبخاصةً الخليجية، وتعدد قوى الأزمة، فهي تحتوي على أربعة قوى محلية كلاً تدفع باتجاه وهي جيش العشائر، تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، والجيش العراقي والشرطة المحلية، إضافة إلى الدول الإقليمية التي تدعم الأجندات السياسية في منطقة غرب العراق من بينها العربية السعودية.شكلت الاعتصامات التي انطلقت في أواخر شهر كانون الأول من العام 2012 في مدينة الأنبار أعقاب قيام قوة امنيه بمحاصرة منزل وزير المالية العراقي من القائمة العراقية رافع العيساوي واعتقال أفراد من حمايته، الشرارة الأولى لما آلت اليه الأحداث في العراق اليوم، فكان اعتقال أفراد حماية العيساوي ومداهمة منزله سبباً مباشراً للدعوة إلى التظاهر ضد الحكومة من قبل زعماء القائمة العراقية، إذ خرج بضعة الاف من المتظاهرين إلى شوارع الأنبار بعد صلاة الجمعة وقام المتظاهرين بإغلاق الطريق السريع في الفلوجة وطالب زعماء محليين بمحاسبة القوات التي قامت بمداهمة منزل العيساوي وإيقاف استهداف رموز مناطق غرب العراق.وفي 26 كانون الأول 2012 خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين متوجهين إلى الطريق الدولي بين العراق والأردن وسوريا وقاموا بإغلاقه وهم يهتفون بإسقاط النظام ويرفعون علم العراق السابق الذي يحتوي على النجمات الثلاثة والذي تم تغييره أعقاب سقوط نظام صدام حسين في 2003، وقد شارك في التظاهر مجموعة من الساسة بينهم رافع العيساوي وزير المالية الذي القى كلمة أثناء الاعتصام، وفي سامراء نظمت مجاميع قليلة اعتصاماً يؤيد التظاهرات في الأنبار في نفس اليوم اصدر السيد مقتدى الصدر بيانا عبر فيه عن دعمه للاحتجاجات وإنه يرفض سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي.وفي 15 شباط 2013 نادى بعض زعماء الاعتصامات في الأنبار والموصل وسامراء بتوجه المتظاهرين إلى بغداد للتظاهر فيها يوم الجمعة، التي سميت ( جمعة بغداد صبراً)، إلا انهم اعلنوا لاحقاً عدولهم عن الذهاب إلى بغداد درءاً للفتنة كما وصفوها، فيما واصل المحتجين تظاهرهم، وعلى خلفية قيام مسلحين مجهولين بإطلاق النار على دورية للجيش بالقرب من ساحة الاعتصام في مدينة الحويجة في كركوك وفرارهم إلى داخل مخيمات المعتصمين قامت القوات الأمنية بفرض حصار وطوق امني مشدد على ساحة التظاهر ومطالبة العشائر والمتظاهرين بتسليم مهاجمي دورية الجيش، بينما رفض المتظاهرين ذلك قامت قوات الأمن فجر يوم 23 نيسان 2013 بمهاجمة ساحة التظاهر والاشتباك مع المعتصمين ما أدى إلى مقتل 50 متظاهر كان بحوزتهم أسلحة، فيما قتل 6 جنود بنيران المسلحين داخل ساحة الاعتصام، بعد ساعات قليلة من الهجوم أعلنت وزارة الدفاع عن ضبطها كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد كانت مخبأة في خيام المعتصمين.جيش العشائرعلى خلفية أحداث الحويجة وفي 24 نيسان 2013 تم تشكيل ما يسمى بـ(جيش العشائر) الذي سيشكل البيت الأول من رباعية الأزمة، من قبل المعتصمين، وقام مسلحو هذا التشكيل بالكثير من العمليات المسلحة، بدأت في الحويجة وسلمان باك وامتدت إلى الأنبار والفلوجة.في 29 من نيسان 2013 فشل السيد أسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي في مسعاه التي جاء كمبادرة لحل الأزمة الحالية ومنع دخول البلاد في حرب أهلية، دعا فيها إلى استقالة الحكومة العراقية الحالية التي يتراسها السيد نوري المالكي وحل البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.استجابة لمطالب المتظاهرين أعلنت الحكومة العراقية إفراجها عن 12 معتقلة في سجونها وكذلك أصدرت قرار بانه يمكن للمعتقلات غير المفرج عنهن قضاء فترة الحكم المتبقية في محافظاتهن الأصلية، وجاء ذلك بعد مطالبات بالإفراج عن المعتقلات في السجون العراقية من قبل المتظاهرين فيما أعلنت قيادة شرطة الأنبار في 15 فبراير 2013 عن اطلاق سبع نساء معتقلات من أهالي المحافظة من سجن الرمادي المركزي وفق امر قضائي تم تنفيذه وتسليم المفرج عنهن إلى ذويهم.دولة العراق والشام الإسلاميةتشكل دولة العراق والشام الإسلامية البيت الثاني من أزمة الأنبار اليوم، ودولة العراق والشام الإسلامية أو ما تسمى اختصاراً بـ(داعش) هو تنظيم مسلح يُوصف بالإرهاب يتبنى الفكر السلفي الجهادي يهدف أعضاؤه إلى إعادة ما يسموه بالخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة"، يتخذ من العراق وسوريا مسرحا لعملياته وزعيم هذا التنظيم هو "أبو بكر البغدادي".بعد تشكيل جماعة التوحيد والجهاد بزعامة أبي مصعب الزرقاوي في عام 2004 وتلى ذلك مبايعته لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، ليصبح تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، كثف التنظيم من عملياته إلى أن اصبح واحد من اقوى التنظيمات في الساحة العراقية، وبدأ يبسط نفوذه على مناطق واسعة من العراق إلى أن جاء في عام 2006 ليخرج الزرقاوي على الملا في شريط مصور معلنا عن تشكيل مجلس شورى المجاهدين بزعامة عبدالله رشيد البغدادي, بعد مقتل الزرقاوي في نفس الشهر جرى انتخاب أبي حمزة المهاجر زعيما للتنظيم, وفي نهاية السنة تم تشكيل دولة العراق الإسلامية بزعامة أبي عمر البغدادي، وهو التاريخ الذي بدأ به تكوين الدولة الإسلامية في العراق، ففي 15 تشرين الأول 2006 إثر اجتماع مجموعة من الفصائل المسلحة ضمن معاهدة (حلف المطيبين) تم اختيار "أبو عمر البغدادي" زعيما له، وبعدها تبنى التنظيم العديد من العمليات النوعية داخل العراق آنذاك, وبعد مقتل أبو عمر البغدادي في يوم 19/4/2010 أصبح أبو بكر البغدادي زعيما لهذا التنظيم، وشهد عهد أبي بكر توسعاً في العمليات النوعية المتزامنة (كعملية البنك المركزي، ووزارة العدل، واقتحام سجني أبو غريب والحوت).وبعد اندلاع الأزمة السورية بدأ تكوين الفصائل والجماعات المسلحة، ففي أواخر العام 2011 تم تكوين جبهة النصرة بقيادة أبي محمد الجولاني حيث اصبح الأمين العام ووردت تقارير استخباراتية تشير إلى علاقتها الفكرية والتنظيمية بفرع دولة العراق الإسلامية، بعد ذلك أدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية على لائحة المنظمات الإرهابية, وبتاريخ التاسع من نيسان 2012 ظهر تسجيل صوتي منسوب لابي بكر البغدادي يعلن فيها أن جبهة النصرة هي امتداد لدولة العراق الإسلامية واعلن فيها إلغاء اسمي جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية تحت مسمى واحد وهو الدولة الإسلامية في العراق والشام.بعد ذلك بفترة قصيرة ظهر تسجيل صوتي لابي محمد الجولاني يعلن فيه عن علاقته مع دولة العراق الإسلامية لكنه نفى شخصيا أو مجلس شورى الجبهة أن يكونوا على علم بهذا الإعلان فرفض فكرة الاندماج واعلن مبايعة تنظيم القاعدة في أفغانستان، وعلى الرغم من ذلك فإن للدولة الإسلامية و جبهة النصرة العديد من العمليات العسكرية المشتركة.ثم أعلن زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري إلغاء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام واستمرار العمل بدولة العراق الإسلامية ضمن حدود العراق، وجبهة النصرة لأهل الشام في حدودها بسوريا.وانتقد الظواهري في تسجيل صوتي بتاريخ 23 أيار2012 إعلان زعيم دولة العراق الإسلامية أبو بكر البغدادي عن إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من دون استشارة قيادة تنظيم القاعدة أو إخطارها، وانتقد أيضا قائد جبهة النصرة لأهل الشام أبو محمد الجولاني لرفضه التنظيم المستحدث وإعلانه الولاء لتنظيم القاعدة من دون استشارة قيادة التنظيم أو إعلامها.وأوضح الظواهري أن جبهة النصرة فرع مستقل لتنظيم القاعدة وولايته المكانية سوريا، وقرر اختيار أبو محمد الجولاني قائدا للجبهة لمدة عام على أن يرفع مجلس شورى الجبهة تقريرا إلى قيادة القاعدة لاتخاذ قراره بشأن استمراره أو اختيار قائد بديل، وسمى الظواهري أيضا البغدادي أميراً لدولة العراق الإسلامية لمدة عام على أن تتخذ قيادة التنظيم قرارا باستمراره أو إعفائه بعد تلقي تقرير من مجلس شورى التنظيم العراقي، وطلب الظواهري من البغدادي والجولاني تبادل المساعدة والحرص على وقف المواجهات بينهما.اليوم تشمل سيطرة (داعش) على مساحات محدودة في المحافظات العراقية، بينما تغطى الهجمات التي تشنها كل الأراضي العراقية، ولكن تعتبر المحافظات الغربية الست مراكز تواجد دولة العراق والشام الإسلامية.أما في سوريا فتتواجد (داعش) وتسيطر على مناطق في محافظات الرقة وحلب وريف اللاذقية وريف دمشق ودير الزور وحمص وحماة والحسكة وإدلب، ويتفاوت التواجد والسيطرة العسكرية من محافظة لأخرى فمثلا لديها نفوذ قوي في محافظة الرقة وفي بعض أجزاء محافظة حلب ولديها نفوذ أقل في حمص واللاذقية.وتمتلك (داعش) العديد من الدبابات و الصواريخ والسيارات المصفحة والسيارات رباعية الدفع والأسلحة المتنوعة التي حصلت عليها من الجيش العراقي والجيش السوري وغيرهم.وفيما يخصّ جنسيات مقاتلي "داعش"، فأن معظم المقاتلين على الأرض في سوريا هم سوريون لكن قادة التنظيم غالباً ما يأتون من الخارج، وسبق أن قاتلوا في العراق والشيشان وأفغانستان وعلى جبهات أخرى، وفي العراق معظم مقاتلي داعش هم عراقيون وعرب، وان عدداً من قادة التنظيم العسكريين عراقيون أو ليبيون في حين أن قادته الدينيين من السعودية أو تونس.الجيش العراقيفي 22 كانون الأول 2013 اعلن القائد العام للقوات المسلحة السيد نوري المالكي عن بدء عمليات أمنية واسعة في صحراء الأنبار بمختلف صنوف الأجهزة الأمنية لملاحقة أعضاء تنظيم (داعش)، اطلق عليها تسمية ثأر قائد الفرقة السابعة محمد الكروي الذي قتل ومعه مجموعة من الضباط والجنود أثناء مطاردته عدداً من عناصر التنظيم في المناطق الصحراوية من الأنبار امتدادا للحدود السورية والأردنية.وقد حقق الجيش العراقي انتصاراً واضحاً على تلك التنظيمات حظى بدعم شعبي واسع حتى من عشائر المحافظات الغربية بعد توغله في وادي حوران المأوى الأكبر لتنظيمات داعش والذي كان عصياً على قوات الجيش منذ زمن لما يتمتع به هذا الوادي من ظروف جغرافية وتضاريس وعره ساهمت بشكل كبير على جعله ملاذاً آمناً ليس للتنظيمات الإرهابية فقط، وإنما للكثير من المهربين والخارجين على القانون حتى في زمن النظام السابق.ولكن حدثان في غاية الأهمية قلبا صورة ذلك الانتصار فيما بعد، الأول كان اعتقال النائب احمد العلواني ومقتل شقيقة بتاريخ 28 كانون الأول 2013، والثاني فض اعتصامات الأنبار من قبل قوات الأمن العراقية بعد يومين من اعتقال العلواني، أدى ذلك إلى نشوء أزمة الأنبار التي تفاعلت فيما بعد ليدخل جيش العشائر الذي تم تشكيله قبل ذلك بثمانية أشهر كطرفاً في الأزمة. الشرطة المحليةأندلع في نفس يوم فض الاعتصامات قتال بين جيش العشائر والجيش العراقي، الأمر الذي أدى إلى انسحاب الجيش العراقي من مدينة الرمادي، تاركاً خلفة فراغاً أمنياً استثمره تنظيم (داعش) المطارد من قبل الجيش في الصحراء ليلجأ إلى المدن ويسيطر على أجزاء كبيرة من مدينة الرمادي ومن ثم مدينة الفلوجة، وليسيطر على 90% من مراكز الشرطة في المدينة بعد تركها من قبل الشرطة المحلية.هذا الأمر دعى العشائر إلى مساندة الشرطة المحلية ومن ثم استعادة اغلب المراكز في الرمادي، ولكن الأمر في مدينة الفلوجة مختلف تماماً، فأغلب العشائر هناك وقفت إلى جانب تنظيم (داعش) مدعية أنه لا يتواجد مقاتلي التنظيم المذكور في المدينة.أزمة مركبةتتفاعل الأزمة في ظل تعدد القوى الدافعة لها، وتنحسر الحلول أزاءها، وبخاصةً اذا كانت تلك الأزمة وليدة مشكلات سابقة تراكمت لتولد أزمة مركبة، وجانب التعقيد في ازمه الأنبار اليوم هو تعدد مسبباتها بين مسببات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتعدد نتائجها أيضاً، فضلاً عن دفع أطراف خارجية باتجاه تأجيجها لمصالح خاصة بتلك الأطراف.فالوضع اليوم في الأنبار هو وضعاً شاذاً بكل ما تعنية الكلمة، فلا الحكومة لديها القدرة العسكرية الكافية لحل الأزمة، ولا العشائر في المحافظات الغربية ترغب بتدخل القوات الحكومية، إضافة إلى توزع الولاء العشائري هناك بين مؤيد ومعارض لتنظيم (داعش)، أما مجالس الصحوة فأثبتت عدم فاعليتها عندما تتعدد القوى الازموية في المحافظات الغربية.أما إذا رغبت الأطراف السياسية في الاستمرار باللعب على أوتار هذه الأزمة لأغراض انتخابية، فأن أغلب الظن أن الأزمة ستكون نتيجتها حرب استنزاف أطرافها الجيش العراقي وتنظيم (داعش) وجيش العشائر، وستكون عشائر المحافظات الغربية منقسمة على نفسها بين مؤيد ومعارض للتنظيمات الإرهابية، لذا من غير المستبعد أن تكون هناك حرب أهلية داخل المنطقة الغربية طرفاها العشائر المؤيدة والمعارضة لتلك التنظيمات الإرهابية، وهذا يزيد من قوة تلك التنظيمات فهي عادةً ما تعتاش على الفوضى، وكما اثبتتها التجارب السابقة.وتبقى الأحداث التي تلي تصاعد الأزمة مكفولة بالأطراف السياسية الرئيسة على الساحة العراقية، فهناك اطراف تصر على الحلول الأمنية والعسكرية للأزمة، وهناك أطراف ترغب بحلول سياسية -اقتصادية -اجتماعية، وهناك قسم آخر ينادي بالتقسيم باعتبار أن آخر الدواء الكي.
https://telegram.me/buratha