أنا من جيل خوفوه من كل شيء، ولقد كانت حياتنا مستقيمة جدا بالخوف من أشياء كثيرة، من "الطناطل" و"الكَرطة" والغرباء الأجانب..
خوفونا من أحلامنا وأمنياتنا..ومن كائنات سرية أسموها "الطناطل"، التي قالوا لنا أنها منتشرة في كل مكان، خارج قريتنا الجنوبية..
خارج القرية كل مكان كان يحكمه طنطل له أسم معلوم..كانت أسماءا غريبة لا أعرف لغاية اليوم معناها، حتروش وكاووش، كانا طنطلين قرب مضخة الماء التي كانت ملكا للشيخ!..وفرغص وماهوش؛ كانا طنطلين في "ذنايب" النهر الذي يتحكم به السركال عمران..وفي غرب القرية طناطل أخرى لأناس من الرجال والنساء ماتوا قتلى في حوادث. وكنا نسمع قصصا تجعلنا نموت في جلدنا.
خوفونا من أي غريب يدخل القرية، حتى إذا كان عابر سبيل..كانوا يقولون إن للغرباء عيون تريد أن تخترق العشيرة وتكشف أسرارها..ولم أكتشف ما هي أسرار العشيرة التي كان "الكبار" يحرصون عليها، إلا بعد أن صار عمري ستين عاما، فقد عرفت أن سر وجود العشيرة وقوتها، يكمن في إجتماعها كل ليلة في مضيف الشيخ، على قهوة مازالت رائحتها في أنفي نافذة!
وكانوا أيضا يقولون لنا أن الغرباء لصوص يسرقون الأطفال..ومنذ كنت صغيرا عرفت معنى محددا للأجنبي، فزوج عمتي كان أجنبيا، لأنه فقط من عشيرة أخرى، تبعد مساكنها عن مساكن عشيرتنا كيلو متر واحد فقط! وخوفونا من حيوانات خرافية، تهاجم الأطفال الذين يأكلون مع الكبار، والذين لا يقبلون أيادي أجدادهم..كان إسم هذه الحيوان "الكَرطة"، وكان عندي عشرات الأجداد، هم جدي لأبي وجدي لأمي, وإخوان أجدادي من الطرفين وباقي (شياب) العشيرة!
تعلمنا أن نسمع الكلام حتى إذا كان كلاما فارغا..نسمع فقط حتى لا تهاجمنا المخلوقات الخرافية..وتعلمنا ألا نشكو من يضربنا، لأنه دائماً أكبر منا، ومن العيب أن نشكو الأكبر منا، وحتى عندما كبرنا وأنتقلنا الى المدينة، كنا نقبل أن يضربنا المدرس حتى يدمينا!
مرة ضربني المعلم بلا وجه حق، وشكوت لكبير أسرتنا عمي الأمر، فما كان منه إلا أن أخذني مقتادا من يدي إلى المدرسة، وأكمل ضربي أمام المعلم وهو يقول له: "آنت يا أستاذ لك اللحم ولي العظم، خذه أنت تجرح وأنا أداوي..وحتى العظم أنت تكسره وأنا أجبره".
أنا من أولئك الذين حفظوا عن ظهر قلب المثلين العاميين الشهيرين:"أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة".."واللي ماله كبير يشتري له كبير"..ومازلنا نبحث عن كبير لنشتريه، ومازلنا نبحث عن الأكبر منا بيوم الذي يعرف أكثر منا بسنة.
كلام قبل السلام: عندما كبرنا مازلنا مصممين على قبول فكرة الطنطل، على أن يكون "طنطلا" كبيرا نخاف منه حتى تستقيم حياتنا؟!
سلام...
https://telegram.me/buratha