يترقب المحللين السياسيين والمهتمين بالشأن السوري بدقة وحذر التداعيات المحتملة للقرارات الأخيرة التي إتخذتها تركيا تجاه العديد من الملفات الرئيسة التي تعد طهران قاسماً مشتركاً فيها، فقد إقتربت بشكل كبير من مواقف إيران بشأن الأزمة في سورية، وأصبح يسود إعتقاد لدى صناع القرار في أنقرة بأن الأزمة في سوريا باتت حرباً بالوكالة، إقليمية ودولية، التي تلعبها القوى الإقليمية على الساحة السورية، من خلال دعم وتأييد أطراف معينة في ساحات القتال وميادين السياسة، على حساب الأطراف الأخرى، في نسخة مكررة من المشهدين، اللبناني والعراقي، فتركيا على الرغم من قوتها المحورية كدولة إقليمية شعرت بضعفها إزاء الأزمة السورية وعدم إستطاعتها من لعب الدور الريادي في حسمها، وكذلك عدم استطاعتها من إقناع حلفائها في ذلك.
عندما بدأت الأزمة السورية وقفت كل من تركيا وإيران على النقيض منها، كل طرف له أسبابه ودوافعه وإستراتيجيته المختلفة، فطهران أعلنت دعمها الكامل للنظام السوري، وهذا طبيعي وخاصة في ظل التحالف القائم بين الجانبين منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعلى العكس تماماً تحركت أنقرة في كل الإتجاهات لإسقاط هذا النظام، وإنتهجت القيادة التركية لهجة غير مسبوقة في رفع اللاءات وإعطاء المهل والفرص، فكل طرف رأى أن ما يجري في سوريا يمس أمنه القومي والوطني، وبذلك تحولت الأزمة السورية إلى صراع إرادات بين أنقرة وطهران وسط حرص شديد من الجانبين على عدم الصدام بينهما نظراً لحجم المصالح والقضايا المشتركة بينهما،
واليوم يرى المهتمين بالسياسة التركية بأن أنقرة ضبطت ساعتها على توقيت الغرب مع طهران، بعد توقيع إتفاق جنيف النووي في نوفمبر 2013، بما يمنح آنقرة القدرة على التقليل من حدة الخلافات التي باتت تربطها بأغلب جوارها الجغرافي، ويدعم التوجهات الخاصة بإعادة ضبط وتيرة علاقاتها الإقليمية، خصوصا مع طهران، وبالتالي مع دمشق.
وبموازاة ذلك كشفت القيادة الإيرانية بأن الحكومة التركية قد بدأت في مساعي إعادة علاقاتها مع الحكومة السورية مستعينة بوساطة إيرانية وعراقية، إلى جانب رسائل مباشرة صدرت عن مسؤولين كبار في أنقرة، تتحدث عن رغبة تركية بالتراجع عن مواقفها السابقة اتجاه سوريا، لكن هذا التوجه مازال بحاجة إلى خطوات عملية تعزز القناعة بالتحول السياسي والحد من التدخل في الأزمة السورية.
فالتطورات التي حدثت اليوم هامة على مستوى المنطقة، كونها غيرت المعادلة السابقة، فما جرى في مصر يوم 30 يونيو الماضي شكل ضربة للمشروع الإقليمي التركي، وصدع العلاقات التركية بمعظم الدول الخليجية على خلفية الموقف من أحداث مصر، بالإضافة الى الموقف الأميركي من الأزمة السورية والذي إنتهى بالتوافق مع روسيا على حل الأزمة السورية سياسياً، هذا مما شكل خيبة أمل تركية إزاء قضية إسقاط النظام السوري، فضلاً عن التقارب الأميركي الإيراني خاصة بعد إتفاق جنيف النووي ليغير الكثير من المعادلات، فمجمل ما سبق إنعكس على الدبلوماسية التركية على شكل التوجه نحو إيران متطلعة إلى إستثمار مرحلة ما بعد إتفاق جنيف النووي.
أسفر الحراك السياسي التركي الجديد عن سلسلة من اللقاءات والزيارات للعديد من عواصم دول المنطقة والعالم، قام بها كل من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو، في محاولة لتوطيد العلاقات وإعادة الثقة مع إيران، وذلك بعد أن خلطت الأزمة السورية الأوراق والإصطفافات في المنطقة، وأثرت على العلاقات المتبادلة بين الدول، وقد ظهرت مؤشرات ذلك من خلال زيارة رئيس الوزراء التركي و وزير خارجيته الأخيرة إلى طهران، تمثل في الدعوة المشتركة مع الساسة الإيرانيين، إلى وقف إطلاق النار في سوريا، حيث يمكن إعتباره من أوضح المؤشرات على التحول الذي بدأ يلمس في مواقف الأطراف، وتراجع في موقف تركيا حيال سوريا، يضاف إلى ذلك، المساعي الأمريكية الروسية، المتجهة نحو إقناع إيران والسعودية، باعتبارهما جبهتين متقابلتين في سوريا، للجلوس إلى مائدة الحوار، بغية الوصول إلى توافق لحل الأزمة السورية.
وفي سياق متصل بات الساسة الأتراك يرون ان الحل يكمن من خلال الحوار الإقليمي، وهذا ما أكده أردوغان بالتوجه نحو روسيا وإيران، أثناء لقاءه الرئيس الايراني في طهران مع العلم إن تركيا كانت ترفض أي حوار أو حلول مع الدول الإقليمية وخاصة روسيا وإيران بسبب دعمهما المفرط للنظام السوري، وهذا يعد مؤشراً آخر على عودة الدبلوماسية التركية الى تطبيق نظرية داود احمد أغلو القائمة على “صفر مشاكل”، مع دول الجوار التي إنتهت فور إندلاع الأزمة السورية وتوتر العلاقات السياسية والأمنية والدبلوماسية والإعلامية بين البلدين، والتي ترى نفسها غير قادرة على الإستغناء عن دول الجوار بسبب الملفات الداخلية والخارجية المرتبطة بالأزمة السورية والتي تؤثر فيها وفي سياستها الخارجية.
وبينما كان أردوغان يقول لمضيفيه في طهران إنها بلده الثاني، مشيداً بموقفها والموقف الروسي من الأزمة السورية ومعلناً الإتفاق على محاربة “الإرهاب”، كان الرئيس التركي عبد الله غول يصرح للصحفيين المرافقين له في زيارته التي بدأها (أثناء مفاوضات أردوغان في طهران) الى روما، كاشفاً عن الهدف من زيارة روحاني الى أنقرة وقال إنها ستتم في 28 فبراير الحالي، مؤكداً “إن على إيران وتركيا التعاون وبذل الجهود لتسوية الأزمة السورية”، وأشار إلى وجود فرص متاحة لحل الأزمة السورية، قائلاً، ” إننا إذا تعاونا بجدية وإخلاص يمكننا طرح مبادرة على المجتمع الدولي للحل في سوريا، فنحن يمكننا جر الغرب (للموافقة)، وإيران يمكنها إقناع الطرف الآخر”.
وبذلك يمكنني القول أن موقف أردوغان في سورية سمح له بالحصول على صداقة العديد من الحلفاء الأقوياء في بداية الأزمة السورية، ولكن هؤلاء تخلّو عنه واحداً تلو الآخر، فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تراجعا عن سياسة المواجهة مع إيران وسورية النظام، وإعادة النظر في مواقفهما السابقة، والتقرب من إيران وإعادة بناء تحالفات جديدة في المنطقة بأسرها، في ضوء هذه المعطيات ليس غريباً أن تتراجع أنقرة عن مواقفها السابقة التي إتخذتها في بداية الأزمة السورية، وتبحث عن تحالفات جديدة، هذا مما أثار إستغراب حلفائها القدامى في قطر والمملكة العربية السعودية خاصة، وجاء هذا التحول بعد إعلان المسؤولين الأتراك أن الحل السياسي هو الأساس لحل الأزمة، وهو موقف باتت تعبر عنه المواقف الإيرانية، على الرغم من عدم دعوة طهران لمؤتمر جنيف2 الذي يبحث حلاً سياسياً في سوريا.
وفي السياق نفسه هناك فرصة جديدة تدعو إلى عمل وجهد مشترك بين كل من إيران وتركيا بشأن الأزمة السورية حيث بإمكانهما الإشتراك بتعاون صادق تقديم اقتراحات للمجتمع الدولي تؤخذ بالحسبان لحل هذه الأزمة، ولا شك هذا أن التقارب، سيدفع الأطراف، الإقليمية والدولية، الفاعلة في الملف السوري، لممارسة مزيد من الضغط على المعارضة السورية، لإقناعها بإبداء ليونة في الملف السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفشل في التوصل إلى حل في الأزمة السورية، سيعيق أي مشروع إقليمي يتعلق بالقضايا العالقة في المنطقة، الأمر الذي تعتبره أنقرة من صميم إهتمامات تغيير مسار السياسة الخارجية التركية.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول إن تركيا تحاول التطلع إلى إيران وروسيا من أجل التوصل إلى حل سلمي ينهي المشكلة السورية العالقة وقطع إمتداد لهيب الأزمة إلى داخل تركيا وجوارها بالرغم من توتر العلاقات الروسية التركية عقب حادث تفتيش الطائرة السورية ومصادرة العديد من الأجهزة الخاصة بوزارة الدفاع السورية، وبالتالي فإن الإضطرابات في سوريا لا تسبب قلقاً لإيران وتركيا فقط بل للمنطقة بأسرها والعالم الإسلامي أيضاً، بمعنى إن حل الأزمة السورية ليس مهماً للطرفين فحسب بل إنه يسعى إلى إرساء السلام والأمن وإنهاء النزاعات العسكرية في سوريا والمنطقة بوجه عام.
تحرير علي عبد سلمان 4/5/140206
https://telegram.me/buratha