الشيخ علي الكوراني العاملي ـ شبكة هجر الثقافية
بسـم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينامحمد وآله الطيبين الطاهرين
وبعد ، فما زلت أشعر بمسؤوليتي في تصحيح أفكارٍ كنت أنا أو غيري من قيادة الدعوة نطرحها للدعاة ، ثم اكتشفت خطأها مبكراً ، أو متأخراً . وقد كتبت بعضها في كتاب الى طالب العلم ، وأقدم بعضها في هذا الكتاب .
وقد شاء الله تعالى أن أكون آخر من بقيَ من قيادة الدعوة ، فآخر من توفي منهم الدكتور جابر العطا ، وكان متحفظاً جداً في عمله ، فسلِمَ من بطش النظام ، فهو من جيل القيادة ، لكنه لم يكن فعالاً في مواكبة عملها .
وقد اتصل بي بعد سقوط صدام ، وقال لي: يا أبا ياسر، إن الدعوة منقسمة تعاني من الانشقاق كما تعلم ، والدعاة مختلفون ، وهذا أمر يضعفها . ولم يبق من القيادة إلا أنا وأنت ، فرأيت أن أدعوك لتأتي الى العراق لنعمل معاً في لمِّ الشمل والإصلاح بين الدعاة ، فهم جميعاً يحترموننا وقد يسمعون كلامنا ، وآمل أن نؤدي خدمة للدعوة والعراق ، في هذه المرحلة الحساسة .
فقلت له: أشكرك كثيراً يا أبا محمد ، لكني منذ مدة تغيرتُ عما تعرفني، وصرتُ أعتقد أن ذمة المكلف لا تبرأ في العمل الإسلامي إلا بفتوى المرجع ، فأنا أؤمن بالعمل في خط المرجعية ، ولا أرى مشـروعية العمل في تنظيم يطرح نفسه في مقابل المرجعية أو بدلها .
فقال متعجباً: ( هالشِّكْل خُويَا ) أي هكذا يا أخي ! فقلت له: (نعم هالشكل خويا ) وودعته ، وودعني على تعجب .كان اهتمامه بالإختلافات العملية بين الدعاة ، واهتمامي أكثر بالفكر الذي يتحركون به ، فهو متقدم رتبةً على الإختلاف العملي ، أو هو أساسه !وبعد سنوات قليلة ارتحل الدكتور جابر العطا الى ربه ، وبقيت وحدي .
(2)قال لي بعض الإخوة: والسيد طالب الرفاعي؟ فأجبته: أكرم به ، فقد واكب تأسيس الدعوة، وكان صديقاً لمؤسسها المرحوم أبي عصام ، وقادتها المرحومين: السيد الصدر ، والسبيتي ، والشيخ عارف ، وصديقاً لي ، لكنه لم يكن قيادياً في الدعوة .لأن القيادي الذي يُموِّن الدعوة بالفكر ، أو يدير خطاً من تنظيمها، ولم يكن السيد طالب في هذين المجالين فكيف يكون قيادياً ! عاش السيد طالب في العراق سنوات بعد تأسيس الدعوة ، لكنه لم يكن يعرف مواعيد جلسات قيادتها ، فقد كان أبو عصام يجلس مع السيد الصدر ومع السبيتي والشيخ عارف ، وأحياناً يدعون الدكتور جابر العطا .
ثم صاروا يجلسون وحدهم بدون الشهيد الصدر ، ثم قرروا ضمي اليهم ، وكنت ألتقي بهم فرادى في الكويت ، ومرات في بيت الشيخ عارف في بغداد وقد أرسل لي وصيته من السجن قبيل أن يحكموا عليه بالإعدام ، لكن الذي وصلت الى يده قال إنها ضاعت !
ولم يكن السيد طالب الرفاعي يعرف ماذا يجري في جلسات القيادة ، ولا في خطوط التنظيم ، وكذلك الأمر في السيد مرتضى العسكري ، والسيد مهدي الحكيم ، بل في السيد الصدر ، رحمهم الله جميعاً .
ومما يدل على ذلك أن السيد كاظم الحائري كان مسؤوله الشيخ عارف ، وكان يطيعه ولا يطيع السيد الصدر ، فعندما قامت الحكومة بتسفير الإيرانيين استشار السيد الحائري مسؤوله فأمره بالسفر ، بينما أمره السيد الصدر بالبقاء ، وأن يرتب وضع استثنائه من التسفير .فأطاع مسؤوله الشيخ عارف وخالف أستاذه ، وكان وقع ذلك شديداً على السيد الصدر ، لأنه هو الذي أقنعه بالتنظيم ، وطالت مناقشته في ذلك ، ففي زيارتي الى النجف من الكويت سنة 1969سألت السيد الصدر: هل اقتنع السيد كاظم بالتنظيم ، فقال وصلت معه الى بدايات اقتناع !
في ذلك الوقت لم يكن السيد الصدر في قيادة الدعوة ، لكنه كان مؤمناً بلزوم التنظيم كذراع للمرجعية يعمل بإرادتها ، فاكتشف أن الأمر ليس كما تصور.
ومما يدل على ما ذكرت أيضاً أن السيد سامي البدري ، وهو التلميذ المقرب من السيد العسكري ، اختلف مع الدعوة وانشق عنها ، فلم يعرف السيد العسكري ، ثم عرف ولم يستطع معالجة الأمر ، فعالجته أنا بتكليف القيادة .
ومما يدل على ذلك أنه بعد وفاة المرجع السيد الحكيم، طلب السيد الصدر من قائد الدعوة أبي عصام أن يجلسوا لبحث أمر المرجعية ، فجلس أبو عصام والسبيتي والشيخ عارف مع السيد الصدر في الكاظمية في بيت السيد إسماعيل الصدر جلسات مطولة ، ولم يتوصلوا الى صيغة لتبني مرجعية السيد الصدر . فأنهى أبو عصام الإجتماعات قائلاً للسيد الصدر:
على كل حال نحن لا نتركك ، وأنت لا تتركنا ! وذهب الى بيت أبي حسن وكتبوا النشرة التي هي بيان الدعوة التاريخي في المرجعية ، وهو أسوأ بياناتها ، وأعطى أبو عصام نسخة منه الى الشيخ عارف ليدرسه في حلقاته ، ونسخة الى السيد نوري طعمة ، ونسخة الى السيد حسين جلوخان . ليعمماه الى خطوط الدعوة ، فعمموه ودرسوه في كل خطوط الدعوة وانتهى الأمر ، ولا صلة للسيد الصدر بخطوط الدعوة ، ولا معرفة له بكثير منها ، وجاءني أبو عصام الى الكويت بنسخة فكانت مناقشتي معه .
فمن الذي يقود الدعوة ؟ الذي يكتب الموقف ويعممه على الخطوط والحلقات ، أم الذي يريد إقناعهم بموقف آخر ولا يستطيع ؟!
لكنك الى اليوم تجد الكُتَّاب المتحمسين المتحيزين يعدون من واكب التنظيم قيادياً فيه ، وهو لم يكتب للدعوة حرفاً ، ولا أدار فيها حلقة ، وإن واكب قيادتها ، أو تخيل نفسه ، أو تخيله غيره قيادياً .
(3)أما المسائل التي تحتاج الى بحث فهي كثيرة ومتنوعة، ومن أهمها: تقديس القائد وعصمته .وتقليد الدعوة للإخوان المسلمين في ثقافتهم .وتقليدها لحزب التحرير في تحليله السياسي .وتقليدها للحزب الشيوعي في شكله التنظيمي. وعلاقة الدعوة بالمرجعية ، واعتقادها بأن قيادة الأمة لقائد الدعوة ، لأنه المتصدي للقيادة ، وليس للمرجع القاعد بتعبيرهم .وعلاقة الدعوة بالتشيع ، وأن من الدعاة من هم شيعة مستوعبون للتشيع لكن بجهدهم ونشأتهم ، ومنهم متأثرون بفكر الإخوان قليلاً أو كثيراً ، ومنهم ابتعدوا عن التشيع فلم يبق منهم إلا الإسم ، وهم يشبهون السنيين لكن السنة لا يعترفون بهم ، فصاروا كالغراب ضيع المشيتين !
(4)وأكبر العقبات أمام تصحيح الأفكار: أنه يوجب كشف أفكار أشخاص وسلوكهم ، ولهم أتباع يعصمونهم ، ولا يقبلون لهم نقداً ، ويطيرون بالكلمة المادحة لهم ويحملونها أكثر مما تحمل ، ويتعاملون بها كأنها وحي منزل يحتجون بها على خصومهم ، كما أنهم يطيرون بالكلمة التي يحسبون أنها ذمٌّ لصاحبهم ، ويحملونها أكثر مما تحمل ، فيعادون من قالها ويستحلون دمه !
أسأل الله تعالى أن يعطينا البصيرة ووضوح الرؤية ، في الحكم والموضوع ، ويرينا الحق حقاً فنتبعه ، والباطل باطلاً فنجتنبه ، بجاه محمد وآله الطيبين الطاهرين .
*أبو عصام هو الذي أسس الدعوة وصبها في قالبها الفعلي
شارك في مداولات تأسيس تنظيم الدعوة بضعة عشرة نفراً ، وكانت جلساتهم متباعدة ، وبدأت سنة (1960م- 1379هـ) واستمرت نحو سنة حتى تم اتفاق من بقي منهم في الجلسات ، فبدأ أبو عصام بتشكيل الحلقات ، وطلب من السيد الصدر أن يكتب الأسس .
وكانت الجلسات عديدة ومتباعدة أو متقاربة ، وبعضهم حضر جلسة واحدة ، أو جزءاً من جلسة . ولم يكن اهتمامهم بالأمر بدرجة واحدة ، ولا تفريغهم لوقتهم واحداً . وكان بعضهم في بغداد وبعضهم في النجف . وبعضهم له حضوره الفاعل وبعضهم مستمع ، وآخر يثق بشخص ويرى أن حضوره يكفي عنه ..الخ.
لكن المرحوم أبا عصام عبد الصاحب دْخَيِّل ، كان محوراً ثابتاً في الجلسات من أولها الى آخرها ، وكان هو الذي يطرح الفكرة ويدير النقاش ، ويدعو الأشخاص الى الحضور ، ويتابعهم عندما يتأخرون .
ولا ننس أنهم كانوا يتخوفون من البعثيين والقوميين الذين يعملون لانقلاب على عبد الكريم ، وبعضهم من أقاربهم وأصدقائهم ، وكان أولئك يراقبون السيد مهدي الحكيم أن ينافسهم على محاولة انقلاب!
كما كان أعضاء الجلسة يتخوفون من حواشي المرجعية أن يشتكوا عليهم للسيد الحكيم أو السيد عبد الهادي الشيرازي ، أو لكبار الحوزة ، بأن هؤلاء يريدون تأسيس حزب سياسي! ونقتصر على ذكر الأكثر تأثيراً منهم ، ونذكر أعمارهم ، لتعرف خطأ ما نسب الى بعضهم ، مما لا يتناسب مع عمره !
كنت يومها طالباً في نحو السابعة عشرة من عمري ، لكني كنت أدرس الكفاية ، وأدَرِّسُ النحو والمنطق والبيان . وكنت أحضر في مجلة الأضواء وأساعد في تصحيح ملازمها ، وأسمع بفكرة تأسيس تنظيم ، وأنها محل تداول بين عدد من الأساتذة والعلماء . وعندما تم الاتفاق أخبر السيد الصدر الشيخ مفيد الفقيه ، فأخبرني وانتظمت معهم .
وما أكتبه هنا سمعته من أستاذنا السيد الصدر ، أو من أبي عصام ، أو السبيتي ، أو السيد مهدي الحكيم رحمهم الله ، ممن حضروا تلك الجلسات ، وعايشوا الحدث .
كان أشد المهتمين بتأسيس حركة إسلامية عالمية الشهيد عبد الصاحب دْخَيِّل أبو عصام ، وكان عمره ثلاثون سنة (متولد1930م-1348هـ) .
وكان أبو حسن محمد هادي السبيتي صديقه وفي سنِّه تقريباً ، وكان في بغداد ، وكان رأيهما متقارباً فكان يكتفي بحضور أبي عصام وقلما يحضر الجلسات.
وكان عُمْر السيد محمد باقر الصدر 25سنة ، وكان السيد مهدي الحكيم في سِنِّه ، فهما أصغر من أبي عصام وأبي حسن بخمس سنين . وكان احترام السيد الصدر لأبي عصام كبيراً واضحاً ، وقد رأيته يتعارف معه في الدخول والخروج فيقدمه ، وربما تقدم عليه أبو عصام ، وكان يدعوه: أبا عصام !
وأبو عصام يدعوه: يا سيد محمد باقر ، وسمعته بعد مدة يدعوه: يا أبا مرام. وشبيهاً به كان احترام السيد مهدي لأبي عصام.
ولم يكن في تلك المجموعة أكبر سناً من أبي عصام إلا الشاعر محمد صادق القاموسي ، كان أكبر منه بنحو ثمان سنوات (متولد 1922-1341) لكنه لم يكن متصدياً للأمر بدرجة أبي عصام ، ثم إنه انسحب من الجلسات عندما رفضوا مقترحه المكتوب ، والذي هو مشروع نظام داخلي لحركة الدعوة ، ولم يشارك في بقية جلساتهم ، ولا في عمل الدعوة .
وربما كان السيد طالب الرفاعي أكبر سناً من أبي عصام ، لكن لا يقاس حضور أبي عصام بحضوره ، وكذا الحاج صالح الأديب ، مضافاً الى أنه كان في كربلاء، ولم يحضر إلا جلسة أو اثنتين وكان موافقاً لرأي أبي عصام . فالحضور القوي في تلك الجلسات كان لأبي عصام أولاً ، وللسيد مهدي الحكيم ثانياً ، وللسيد الصدر ثالثاً ، رحمهم الله .
أما السيد مرتضى العسكري فكان أكبر سناً منهم ، لكنه كان بعيداً عن هذا الجو ، مشغولاً بمشروع مدرسة وجمعية في بغداد ، وكان أبا عصام كان معنياً أكثر منه بالحركة وفكرها والتنظير لها . وكانت الجلسات في النجف ، ولم يحضرها السيد العسكري ، ولم تعقد جلسة حول الموضوع في غير النجف .
وقد حضرت بعد تأسيس الدعوة وانتظامنا فيها ، مجالس تطرح فيها أمور فكرية حركية ، فرأيت أبا عصام هو المتحدث الذي يطرح الفكرة والرأي ، ورأيت السيد العسكري والسيد الصدر يؤيدانه ، أو يناقشانه باحترام كبير.
لذلك يجب أن نشهد بأن الشخصية الأولى في تأسيس الدعوة هو أبو عصام ! فهو الذي بدأ طرح الفكرة على أبي حسن السبيتي ، والسيد مهدي الحكيم ، والسيد محمد باقر الصدر ، وغيرهم ، حتى لو كانت قبل ذلك في أذهانهم .وهو الذي كان يتابع الأمر ويجمع الشخصيات ، وينسق الوقت والمكان ، ويدير الحديث ويبتكر الحلول لتقريب وجهات النظر .
ثم كان هو الذي يتابع تنفيذ المقررات ، فبعد أن أنهوا مداولاتهم واتفقوا على بدء العمل ، بدأ أبو عصام بالعمل، فكلف السيد الصدر بكتابة الأسس ، وبدأ بمفاتحة الأشخاص وتشكيل اللجان ، فأعطى مجموعة للشيخ عبد الهادي الفضلي ، ومجموعة للسيد محمد باقر الحكيم ، ومجموعة للسيد عدنان البكاء ، ومجموعة للحاج محمد صالح الأديب في كربلاء ، ومجموعة للشيخ عارف في البصرة .
وهو الذي هيأ (رونيو) وهو شبيه بجهاز التصوير ، وكان اقتناؤه يومها جريمة ! ثم اشترى أبو عصام طابعة ، وجعلها في بيت السيد عدنان البكاء ، ثم طلب السيد عدنان إعفاءه ، فتبرعت أنا ونقلناها الى بيتنا ، وكان يطبع عليها الأخ عبود مزهر . وكانت الطابعة ، وكل جهاز نسخ وتكثير ، مواد جرمية كالسلاح وأشد !
ويكفي أن تعرف أنك لكي ترسل رسالة بالبريد ، فعليك أن تعرضها على الرقيب العسكري مفتوحة فيقرؤها ويلصقها ويختمها ، ثم تلصق عليها طابعاً ، وتضعها في صندوق البريد !وكان أبو عصام يكلف السيد الصدر بمفاتحة بعض الأشخاص الذين يرى فيهم القابلية ، فيقوم بذلك ويحولهم عليه أو على الشخص الذي عينه له .
وبهذه الطريقة كلم السيد الصدر أستاذنا الشيخ مفيد الفقيه ، فكلمني بالموضوع وكلم أخاه الشيخ عبد الإله وابن عمه الشيخ سامي ، فقبلنا الأمر ، ورتب لنا أبو عصام مسؤولاً هو السيد محمد باقر الحكيم ، فكنا عنده حلقة ، رابعنا السيد عبد الكريم القزويني .
ثم درسنا في الحلقة: الأسس التي كتبها السيد الصدر ، حتى حرَّم المرجع السيد الحكيم التنظيم على أولاده ، فاعتذر مشرفنا السيد محمد باقر الحكيم وفاجأنا بأن التنظيم انتهى! فتعجبنا واتصلنا بالسيد الصدر ، فأخبر أبا عصام فعين لنا مشرفاً آخر ، هو الشيخ عبد الهادي الفضلي .
*أبو عصام شخصية عجيبة !
كان أبو عصام شخصية عجيبة ، فمع أنه لا يملك إلا شهادة ثانوية ، لكنه كان واسع الثقافة كثير المطالعة ، وكل ثقافته بجهده الشخصي! والأهم من ثقافته قوة شخصيته وفكره ، وقوة حضوره في أي مجلس أو عمل يقوم به ، وقدرته على الحوار ، والإقناع ، وطول نفسه على التجزئة والتحليل ، فكان الجميع يحسبون حساباً لآرائه وإشكالاته المنطقية .
وقد أخبرني أبو حسن السبيتي أنه كان يتردد عليه في بغداد ، أيام كان أبو حسن في حزب التحرير ، وأن أبا عصام التقى بالشيخ تقي النبهاني مؤسس حزب التحرير ، وجرى بينهما نقاش مقتضب ، فقد اعتقل النبهاني في العراق في زمن عبد الكريم ولم يعرفوه ، وغادر الى لبنان وبقي فيها متخفياً ، حتى توفي سنة 1977، ودفن في بيروت باسم آخر . ثم التقى أبو عصام مطولاً بخليفة النبهاني الشيخ عبد القديم زلوم .
ويظهر أن أبا عصام أثَّر على أبي حسن السبيتي ، فترك حزب التحرير واتجها الى تأسيس تنظيم الدعوة ، وكان أبو حسن يثق بفكره ورأيه الى حد كبير، ويسميه صاحب النجف! فكان أبو عصام زميله ، وبمنزلة أستاذه .
وعندما كتب الشيخ تقي النبهاني كتابه «الخلافة» الذي سموه فيما بعد «نظام الحكم في الإسلام» أرسله الى النجف ، فرآه السيد الصدر وأبدى عليه ملاحظات شفهية ، ورأيته كتيباً في نحو مئة صفحة بالقطع العادي ، وتعجبت من أنه لا يتضمن آلية لنصب خليفة في عصرنا ، وأنه ليس فيه رأس سطر ولا نقطة ولا فاصلة ! فقلت: هذا كتابٌ كله سطر واحد ! فأعجبت كلمتي السيد الصدر ، وكان يعيدها ويتبسم !
وأراد زلُّوم وبعض جماعته أن يأتوا الى النجف ليبحثوا إشكالات علمائها على الكتاب ، فقرر أبو حسن والسيد الصدر أن يجلس معهم أبو عصام ، ورأيته قبل الجلسة وقد دون ملاحظاته على عدد من صفحات الكتاب . وجلس معهم تلك الليلة وناقشهم حتى تعبوا ، وكان أبو حسن يقول: ناقشهم أبو عصام حتى أعجزهم ، وتعب بعضهم وغلب عليه النوم !
كان السيد الصدر يحترم أبا عصام كثيراً ويعامله كأخ أكبر، وإذا دخل عليه فرَّغ له وقته وسمعه ، فكان يعرف أن وقته ملئ وأنه جاء لعمل مهم ، ولم أرَ السيد الصدر اعترض عليه يوماً ، بل كان يُرجع اليه في المسائل الحركية .وقد كنت أراجع السيد الصدر في بعض القضايا ، وأعتبر أن رأيه كافٍ لأنه في القيادة ، لكنه كثيراً ما كان يقول لي: أنظر ماذا يقول أبو عصام ، فأنت تعرف أنا لانؤمن بالقيادة الفردية بل بالقيادة الجماعية ، وأننا إذا قال أبو عصام نقبل قوله ! لكن السيد الصدر تغير رأيه في القيادة الفردية والجماعية بعد ذلك . وكان حيوي الذهن لماحاً ، متطور الفكر ، وليس كالذين يجمدون على رأي ، والكلام عن فكره والتطورات التي مر بها يحتاج الى حديث مستقل ، لكن حديثنا هنا عن مؤسس الدعوة أبي عصام .
*إعجابنا جميعاً بالإخوان المسلمين !
كان أبو عصام معجباً بالإخوان المسلمين وفكرهم أكثر من حزب التحرير ، وكان يميل أكثر الى منهج حزب التحرير في التحليل السياسي . أما في الفكر التنظيمي فكان يرى أن الشيوعيين متقدمون فيه أكثر من غيرهم ، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف ، ثم في عهد الدكتور عبد الكريم زيدان ، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني ، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم .
ولذلك حرص على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء جميعاً ، وأن تتجنب نقاط ضعفهم ، فأشبهت ثقافتها ثقافة الإخوان بل تبنت عدداً من كتب الإخوان للتدريس في حلقاتها ، مثل شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب .
وقد كتبت يومها إشكالات على كتاب معالم في الطريق خاصة على عنوان «الانحراف» وناقشت بعضهم فيه.. فلم يرض بذلك أبو عصام وأبو حسن السبيتي وقال: نحن بحاجة الى نقد الفكر الجامد لا نقد الفكر الحركي.. ولا مجال هنا للإفاضة في هذا الحديث..
ولإعجاب أبي عصام بالمستوى التنظيمي للحزب الشيوعي ، أخذ أحسن ما يراه منه للدعوة ، فكان شكل تنظيمها يشبه تنظيم الحزب الشيوعي، فالحلقة تتكون من خمسة أعضاء يرأسها مشرف ، واللجان المحلية وبقية اللجان الهرمية ، تشبه التنظيم في الحزب الشيوعي .
أما التحليل السياسي ، فكان أبا عصام ينتقد تحليل الشيوعين المملوء بتعبيرات الإقطاع والطبقية والبرجوازية والرأسمالية والبروليتاريا ..الى آخر منظومتهم ، ولا يعجبه تحليل الإخوان الذي يصفه بأنه يغلب عليه السطحية والعاطفية ، ويعجبه تحليل حزب التحرير الذي يتناول القضايا من زاوية الصراع بين المسلمين والمستعمرين خاصة الإنكليز الذين حكموا المنطقة وما زالوا يحركونها ، وهم يورثون نفوذهم طواعية ، أو يضطرون للتخلي عنه للاستعمار الأمريكي الجديد . وقد صار ذلك الطابع للتحليل السياسي في حزب الدعوة .
وكان أبو عصام معجباً بسيد قطب ، لكنه معجب أكثر بشخصية حسن البنا ، فكان يقول: سيد قطب لا يصل الى مستواه أبداً ! وكان يوماً يتحدث عن حسن البنا ، ويتعجب من أنه ركب الطائرة ست ساعات وبقي مستيقظاً يفكر ، ولم ينم ! فقلت له: مالك معجب به الى هذا الحد ؟! أنت أقوى منه شخصية وأعصاباً !
وهذه عقيدتي في شخصية أبي عصام ، وأشهد أنه أقوى شخصية من الشيخ حسن البنا وسيد قطب والشيخ تقي النبهاني وغيرهم ، بل هو من الشخصيات التاريخية النادرة ، في قوة فكرها وطموحها . ومع مقاومتي للتعب والنوم ، فقد كان أبو عصام أقوى مقاومة مني ، وقد تواعدنا يوماً في منزلنا بعد الظهر لنرتب مواضيع ، فجاءني أبو عصام بعد الظهر في صيف النجف، ففتحت الباب ورأى أني كنت نائماً فقال مستنكراً: أنا تصورت أنك لا تنام بعد الظهر ، أنت قلت: أنا موجود بعد الظهر في أي ساعة ، فتفضل! فقلت له: نعم قلت إني موجود فتفضل ، ولم أقل إني مستيقظ حتى تأتي!
*كفاءة قياديةوقد ظهرت كفاءة أبي عصام القيادية والإدارية بدرجة عالية ، فكان يدير كل تنظيم الدعوة ويوجهه ، من أكبر شخص الى أصغرهم ، في النجف ، وبغداد ، وبقية مناطق العراق ، وخارج العراق ، وكان يأتينا الى الكويت . كان وحده يمسك كل خطوط التنظيم ويتابع أموره الداخلية والخارجية، ومع ذلك يعمل في التجارة ، فيشتري ويبيع داخل العراق وقد يستورد . وكان يهتم بأمر المناطق والوكلاء ، وهو الذي كان رتب أمر الشيخ عارف البصري ، فجاء به من البصرة الى النجف ، وبعد إكماله كلية الفقه ، أخذ له وكالة من السيد الحكيم عالماً في منطقة الزوية بالكرادة . وكتب السيد مهدي الحكيم في مذكراته/36 ، أنه كان في الخمسينات قبل ثورة تموز يفكر في إنشاء تنظيم ، وأنه تحدث في ذلك مع أبي عصام والسيد طالب الرفاعي فوجدهما يؤمنان بهذه الفكرة ، فاتصلوا بالسيد الصدر لهذا الغرض ، فتجاوب معهم .
وذكر أن السيد طالب الرفاعي كان على علاقة بالشيخ عارف البصري والسبيتي وهما في حزب التحرير ، وأن الشيخ عارف جاء الى النجف ليفتح فرعاً لحزب التحرير ، فناقشه السيد مهدي ليثنيه عن ذلك . وذكر السيد مهدي أنه التقى في الكاظمية بفلان ويقصد أبا حسن السبيتي ، وكان متخرجاً يومها من الجامعة (هندسة كهرباء) وناقش معه إنشاء تنظيم بدل عمله مع حزب التحرير ، فوجد منه تجاوباً .
وكل ذلك صحيح ، لكن ينبغي التنبيه الى أن هذه المفردات كانت بعد ثورة 14تموز وبدء موجة الشيوعيين ، وأن المحرك الأساسي لهؤلاء كان أبو عصام ! ويكفي أن نعرف أن كبيرهم السبيتي كان يعامل أبا عصام كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة .
أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمثابة مسؤوله . وأقدر أن أبا عصام هو الذي أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير، فقد سمعت الشيخ عارف يقول: أنا خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم . ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة الى النجف .
فقد كان الشيخ عارف يومها في البصرة ، ثم جاء الى النجف ، وانتسب الى كلية الفقه ولبس العمامة ، ولما أكملها ذهب الى بغداد عالماً في منطقة الزوية وكان أبو عصام مهتماً بأموره .
ومن صفات أبي عصام أنه لا يتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد . وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر ، والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه الى العمل ، ولم يقل إنه منه .
*قوي الفراسة
*وكان أبو عصام قوي الفراسة نافذ النظرة في تقييم الأشخاص ، وقد لمست ذلك عدة مرات ، وثبت لي أنه صَرَّاف شخصيات . فقد كنتُ أعطيت مسؤولية الى شخص مثقف ذكي ، عملي ، من عائلة معروفة ، فقال لي أبو عصام: هذا لا ينفع ، إنه لِعْبِي ! فلم أقبل منه وقلت في نفسي: لعل انطباعه عنه خاطئ لأنه يناقشه كثيراً .
لكني بعد مدة اكتشفت صدق تقييمه ، وأن ذلك الشخص أهل لعب وليس أهل عمل ، فهو يهتم بالإشكال على الآخرين وعلى عملهم ، وينقدهم شخصياً لا ليصحح عملهم ، ويُقَيِّمُ الشخص والأمر بنقطة ضعف فيه ويترك مجموع جوانب قوته ! وكأن هدفه من عمله أن يثبت للآخرين أنه مصيب وغيره مخطئ ! وهذا هو اللعب والغرق في الذات !
*كاتب ومنظر
وقد ظهرت قدرة أبي عصام على الكتابة ، فكتب موضوعات عديدة للنشرة الداخلية «صوت الدعوة» أولها عن المرحلية وأهمية المرحلة التغييرية ، وهي نظريته . وكان يراجع ما يكتبه أبو حسن السبيتي، والشيخ عارف ، وكاتب هذه السطور ، وكذا ما يكتبه السيد الصدر .وينبغي أن نسجل هنا أن المجلدات الثلاثة التي هي ثقافة الدعوة ، كتب قليلاً منها السيد الصدر ، وأكثر منه أبو عصام ، وأكثر منه الشيخ عارف ، وأكثر منه كاتب هذه السطور، وأكثر من الجميع أبو حسن السبيتي ، وأن بقية القياديين من أصدقاء القيادة ، أو من الصفوف الأخرى لم يكتبوا سطراً واحداً من ثقافة الدعوة .
*رجل علاقات اجتماعية
كان أبو عصام يقوم بأعمال كبيرة بعلاقته بالسيد مهدي الحكيم ، وكانت علاقتهما مميزة ، فهم جيران في النجف ، وعائلة دْخَيِّل لها علاقات مع العلماء والمراجع ، وهي من عوائل الوجاهة المحترمة في النجف . وكان السيد مهدي حيوياً نشيطاً ، مبرزاً في أبناء السيد الحكيم شجاعاً ناشطاً في مواجهة الموجة الشيوعية .
وعندما أرسل البعثيون حسين الصافي الى المرجع السيد الحكيم بأسلوب تهديدي خبيث ، وحرَّم على أولاده دخول الأحزاب ، لتبقى المرجعية ومن يتعلق بها في موقع الاستقلال والأبوة لكل الناس ، وترك السيد مهدي والسيد باقر الدعوة.. يومها بقي أبو عصام على علاقته الحميمة معهما ، وقدر ظرفهما ، وكأنه لم يتغير شيء !
وعندما انتقل السيد مهدي الى بغداد كان أبو عصام يزوره باستمرار ، ويتداول معه في الأمور ، وقد يكلفه بأمر فلا يرد له طلباً ، ولو طلب منه مالاً لأعطاه ، فقد كان السيد مهدي سخياً ، أميراً من أمراء بني هاشم ، لكن أبا عصام كان وقوراً عالي النفس كزعماء بني شيبان. وقد يكون طلب منه مساعدة لبعض الأعمال ، مثل مواكب طلبة الجامعات الى كربلاء ، الذي نظمه أبو عصام من مختلف المحافظات .
*مثال في الصلابة والصمود
وكان أبو عصام في معتقله وشهادته ، نموذجاً لصمود المؤمنين ، ثابت الجنان قوي الأعصاب ، عالي النفس ، وكان خبيراً بأمر أعدائه ، يستصغرهم ويحتقرهم !
ومن الثابت عنه أنه كان في السجن يتحدى مدير الأمن المجرم ناظم كزار ، وأنه أمر بتعذيبه تعذيباً وحشياً في حضوره ، وهو يقول له: إعترف ! فقال له أبو عصام: شوف يا ناظم كزار: كل أسرار الدعوة بصدري ، وشْما تسوِّي ما راح تعرف منها ولا حرف ! وعندما عجز ناظم كزار عن إجباره على الإعتراف بحرف ، اغتاظ من صموده وشموخه ، وأمر به فألقي في حوض (أسيد التيزاب) ! وهذا الفصل من حياته يستحق أن يكتب بالتفصيل ، ويصنع بفيلم .
كما ينبغي للباحث عن مقالع الشخصيات النادرة المؤثرة في تاريخ العراق والشيعة، أن يتعرف على عائلة أبي عصام آل دْخَيِّل ، وهم كما ذكروا من بني سلامة ، من بني شيبان من بكر بن وائل . وقد اشتهر منهم الصحابي القائد المثنى بن حارثة الشيباني في معركة ذي قار مع كسرى ، ثم كان قائد فتح العراق . وقد كتبنا عنهم في (سلسلة القبائل العربية في العراق)
أبو عصام هو الدعوة تأسيساً وقيادةنسب بعضهم تأسيس الدعوة وقيادتها الى غير أبي عصام ، وهذا من سيئات التنظيم السري الذي يسهل فيه الادعاء والتسلق ، خاصة إذا استشهد عدد من قادته. ومما يكشف حقيقة الأمر: الكتابة للتنظيم ، وإدارة حلقاته ، وكسب الدعاة . فهذه الثلاثة مقياس لأولئك الذين ادعوا أو ادُّعِيَ لهم أنهم كانوا في قيادة الدعوة .
فإذا قيل فلان كان قيادياً ، فاسأل عن كتابته في النشرة الداخلية صوت الدعوة ، التي كانت تُدَرَّس في الحلقات ، واسأل عن الحلقات التي كانت بيده ، واسأل عن الذين كسبهم ونظمهم في الدعوة ! فإن لم يكتب سطراً ، ولم يُدر حلقة ، ولم يكسب شخصاً ، فلا يكون قيادياً نعم قد يكون صديقاً لقيادي ، أو يكون القيادي منفتحاً عليه ، أو يكون في جو تأسيس الدعوة ، أو في حلقاتها الأولى ، ثم لم يواصل العمل ، بسبب الخوف أو غيره .. الخ.
وينبغي أن نحسن الظن فنقول إن الأمر اختلط على بعض من كتب في الموضوع ، فجعلوا من القيادة أشخاصاً من الصف الثاني والثالث والخامس! أو حسبوا أصدقاء أبي عصام أو السبيتي من القيادة ، كالشاعر القاموسي ، والسيد العسكري ، والسيد مهدي ، والسيد طالب ، والسيد عدنان ، مع أنهم لم يكونوا في التنظيم ، ولم يكتبوا للدعوة سطراً ، ولا كان بيدهم داعية واحد ، وكان القيادي إذا جلس مع أحدهم لا يناقش أوضاع التنظيم الداخلية ، لأنه أمر لا يخصهم ولا يعرفون عنه ، بل يناقش بعض الأمور والأعمال الأخرى التي ترتبط بالدعوة .
أما السيد الصدر فكان أبو عصام أو غيره يلتقون به بصفته صديقاً، ولم يكن في تنظيم الدعوة ، ولم أكن أعرف ذلك ، فقد كنت أجلس معه وأراجعه على أنه في قيادتها فلا يقول لا ، حتى عرفت أنه ليس معهم ، فتفاجأت واستنكرت ، وأشكلت على أبي عصام وناقشته طويلاً ! وكان يطمئنني بقوله إنا لا نترك السيد الصدر ولا يتركنا ، فنحن معه وهو معنا ! واستقصيت منه سبب خروجه . وليس هذا محل الكلام فيه .
وينبغي التنبيه الى أن جميع خطوط الدعوة كانت بيد أبي عصام منذ تأسيسها الى شهادته ، فكان هو الذي يعطي المسؤوليات ويشكل اللجان ، وينصب المسؤولين ، وكان يتشاور مع السبيتي والشيخ عارف ، بصفتهما عضوي قيادة ولم يكن معه أحد غيرهما . ثم أبلغوني بأنهم قرروا ضمي اليهم ، فكنت أجلس معهم جلسات متباعدة ، أو ثنائية مع أحدهم ، ويبلغني رأي الآخرين .وبعد شهادة أبي عصام صارت القيادة ثلاثة ، وانتقلت خطوط الدعوة التي كانت بيد أبي عصام الى الشيخ عارف .
أما السبيتي فلم يكن من مزاجه إدارة حلقات ، وكان يتابع أوضاع الدعوة ويكتب لها، فكانت خطوط التنظيم بيد اثنين الشيخ عارف وأنا ، حتى استشهد الشيخ عارف فتقاسمتُ خطوط التنظيم مع أبي حسن السبيتي . وكتب الشيخ عارف من سجنه رسالة الى الدعاة ، يؤكد فيها عليَّ ، فوصلت الرسالة الى يد شخص لا أحب تسميته ليوصلها اليَّ ، فأخبرني بمضمونها وزعم أنها ضاعت بين أوراقه ! وأما اللجنة التي شكلناها مع الشيخ عارف والسبيتي ، وكان فيها السيد العسكري ، والشيخ شمس الدين ، والسيد فضل الله ، والسيد الحائري ، وغيرهم ، فكانت هيئة تجتمع سنوياً ، ولم يكن بيد أحد منها شيء من التنظيم ، ولها حديث آخر . *يحترمه السيد الصدر ويسمع منه ولا يخالفه
كان السيد الصدر يستمع اليه باحترام ، ويعتبره عالماً خبيراً بالمجتمع والتنظيم والحركات الإسلامية ، وكان يقدمه أمامه إذا دخل الى مجلس. وكان السيد الصدر أصغر من أبي عصام بخمس سنين ، وكنت أنا أصغر من السيد الصدر بثلاث عشرة سنة . وكان السبيتي يعامله كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة ، وقد دفعه أبو عصام الى ترك حزب التحرير ، ليؤسس معه حزب الدعوة . أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمنزلة مسؤوله .
وأقدر أن أبا عصام أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير ، فقد سمعت الشيخ عارف يقول: خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم .
ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة إلى النجف ، يوم كان في البصرة . ثم جاء إلى النجف بعد تركه حزب التحرير وانتسب إلى كلية الفقه ولبس العمامة ، ثم ذهب إلى بغداد عالماً في منطقة الزوية ، وكان ذلك بتدبير أبي عصام، فهو الذي حرك بعض أعضاء الحسينية ليطلبوه من المرجع. وأظن أن أبا عصام اقترح أن يسكن السيد مهدي الحكيم في بغداد ، ليكون للمرجعية حضور في العاصمة وأحداثها . ومن صفات أبي عصام أنه لا يتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد ، وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه إلى العمل ، ولم يقل إنه منه .لذلك لا يعرف الكثيرون أنه وراء تأسيس حركة الدعوة ، والتي سماها السبيتي بعد وفاة أبي عصام (حزب الدعوة) . وقد فسح هذا التكتم المجال لمدعين أن يدعوا أنهم أسسوا وقادوا ، بينما يعرف المؤسس والقائد بأن له اختيار المادة التي تدرس في حلقات الدعوة ، وبالإمساك بخطوطها التنظيمية ، وقد كان ذلك كله بيد المرحوم أبي عصام ، لا يشاركه فيه غيره ، حتى السيد الصدر رحمهما الله . فقد استكتب السيد الصدر فكتب النشرة المعروفة باسم الأسس ، ثم كان يختار كتب الإخوان للتدريس في الحلقات ، ثم كتب واستكتب السبيتي ، ثم استكتبني .
أما التنظيم فكان كله بيده ، فبه يرتبط مسؤولوا الحلقات ، وهو الذي شكل اللجان المحلية وربط مسؤوليها به ، ثم اتخذ معاونين من أبرزهم الشيخ عارف البصري والسيد نوري طعمة والسيد حسين جلوخان ، وسلمهم أكثر خطوط التنظيم في بغداد وبقية المحافظات . فمن يكون القائد غيره ؟وقد ظهرت كفاءة أبي عصام القيادية والإدارية بدرجة عالية ، فكان يدير كل تنظيم الدعوة ويوجهه ، من أكبر شخص إلى أصغرهم ، في النجف ، وبغداد وبقية مناطق العراق ، وخارج العراق ، وكان يأتينا إلى الكويت .
كان وحده يمسك كل خطوط التنظيم ويتابع أموره الداخلية والخارجية ، ومع ذلك يعمل في التجارة ، فيشتري ويبيع داخل العراق وقد يستورد . وقد سكن في بغداد ، وكان يهتم بأمر المناطق والوكلاء ويزور البصرة كثيراً .كان يقوم بأعمال كبيرة بعلاقته بالسيد مهدي الحكيم وكانت علاقتهما مميزة ، فهم جيران في النجف ، وعائلة دْخَيِّل لها علاقات مع العلماء والمراجع وهي من عوائل الوجاهة المحترمة في النجف .وكان السيد مهدي حيوياً نشيطاً ، مبرزاً في أبناء السيد الحكيم شجاعاً ناشطاً في مواجهة الموجة الشيوعية .
وعندما أرسل البعثيون حسين الصافي إلى المرجع السيد الحكيم بأسلوب تهديدي خبيث ، وحرَّم المرجع على أولاده دخول الأحزاب ، لتبقى المرجعية في موقع الأبوة لكل الناس ، وترك السيد مهدي والسيد باقر الدعوة . يومها بقي أبو عصام على علاقته الحميمة بهما ، وقدر ظرفهما ، وكأنه لم يتغير شئ !وعندما انتقل السيد مهدي إلى بغداد كان أبو عصام يزوره باستمرار ويتداول معه في الأمور ، وقد يكلفه بأمر فلا يرد له طلباً ، ولو طلب منه مالاً لأعطاه ، فقد كان السيد مهدي سخياً ، أميراً من أمراء بني هاشم ، لكن أبا عصام كان وقوراً عالي النفس ، كزعماء بني شيبان .وقد يكون طلب منه مساعدة لبعض الأعمال ، مثل مواكب طلبة الجامعات إلى كربلاء ، الذي نظمه أبو عصام من مختلف المحافظات .*الإسم كبير والمزرعة خربانة أول ما رأيت الإخوان الذين أعجبنا بهم في سنة 1976، فقد أردت أن أذهب الى مصر فقلت لأصدقائي قادة حركة الإخوان في لبنان: الشيخ فيصل المولوي ، والشيخ إبراهيم المصري: أنا ذاهب الى مصر، هل عندكم وصية ، وكان أنور السادات اتفق مع الإخوان ، وأخرجهم من السجون .
فقالوا: سلم عليهم ، أي على قادة الإخوان . وبعد أيام من وصولنا الى القاهرة ذهبنا بدون موعد ، الى مركز مجلة الدعوة ، وهو شقة صغيرة في الطابق الثاني قرب حرم السيدة زينب÷، فوجدنا الدكتور عمر التلمساني وكان جالساً وراء مكتبه ، وفي جانبٍ القيادي صلاح أبو شادي ، وآخرون من كبار الإخوان ، نسيت أسماءهم .
سألونا: من أين الإخوان؟ فقلتُ لهم من لبنان ، وقال صاحبي الدكتور حسين الحكيم: من صيدا ، وصدق ، لأنا كنا نسكن يومها في صيدا ، وأبلغناهم سلام الشيخ فيصل وابراهيم المصري وماهر حمود ، فرحبوا بنا .
بادر صلاح شادي بالقول: قولوا للأخ ابراهيم إنا لم ننس العمل لتمويل جريدة الإيمان ، وقد وَعَدَنَا الإخوة في السعودية ، ولكنهم أكدوا على ضرورة نشر موضوعات عن فضائل الصحابة ، في كل عدد .
فقلت في نفسي: كم هو ساذج ، يكلمنا كأنا مسؤولان في تنظيم الإخوان بلبنان ، وقد كشف أن تمويلهم من السعودية ، وكشف تعصبه للصحابة مقابل الشيعة ، ولم ينتبه الى أنه يتكلم مع شيعي ، يلبس عمامة شيعية !
وسألني التلمساني: كيف رأيت الجو ، يقصد جو الإخوان في مصر ، وكانوا يحُضـرون في وقتها لإقامة احتفالات بالمولد النبوي ، ولم يقل لهم ممولوهم السعوديون هذا حرام وبدعة !وكانوا يمدحون أنور السادات لأنه أخرجهم من السجون ، وسموه الرئيس المؤمن ، وكتبوا له رسالة يطلبون منه أن يطبق الشـريعة الإسلامية ، ليكون الحاكم الإسلامي والخليفة الشرعي!
فقلت للتلمساني: أرى أنكم كعصافير محبوسة ، فتحوا لها باب القفص فخرجت منه وأخذت تحوم ، ولا تعرف أين توكر وتحط !
قال: لماذا ؟ قلت له: لأنكم تطلبون المحال وتفكرون في الخيال ، تطلبون من أنور السادات الذي جاء به الأمريكان ، أن يطبق الشريعة ! فسكت التلمساني ولم يتكلم بشيء ، فخففت عليه وأخذت في لحديث آخر.
ورأيته بسيط الشخصية والإمكانات الذهنية . وبعد رجوعي سألني عنه الإخوان في لبنان فقلت لهم: رأيته يصلح أن يكون مديراً لمعمل لكن معمل صغير لا كبير! فلم يعجبهم كلامي ، لأن المرشد عندهم كبير ! كتب الإخوان المسلمين تغزو السوق العراقية
نشأنا في حركة الدعوة على عشق الإخوان المسلمين مع الأسف ، فقد كان أساتذتنا معجبين بهم ، وكانت كتبهم تملأ مكتبات النجف ، فقد فسح عبد الكريم قاسم بدخولها الى العراق ، لأن الإخوان كانوا ضد عبد الناصر ، وكان عبد الكريم ضده .
كان الكتاب الإخواني يطبع في مصر وقد يشحن كله الى بغداد ، وكان المستورد قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى ، ربما شحن أكثر الكتاب الى النجف ، ليكون غذاء طلبة الحوزة (الواعين) في مقابل غير الواعين ، الذين يسميهم السيد الصدر: الجامدين ، ويسمي أساتذتهم بالخط المجمد !
كانت سياسة عبد الكريم قاسم تقوية الخط المناهض لجمال عبد الناصر ، حتى لا يفرض عليه الدخول في الوحدة العربية ، ويتحول من زعيم العراق الأوحد الى رقم شكلي كالرئيس السوري القوتلي الذي قبل بالوحدة !
ولم تنجح خطة عبد الكريم إلا فينا فجاء لنا بكتب الإخوان وأمعنا فيها أكلاً وشرباً ، وفي أولها كتب حسن البنا كلها ، وكتب سيد قطب وأخيه محمد !
فلو قيل لك إن السيد الصدر أو أبا عصام ، أو فلان من البارزين في ذلك الوقت ، لم يقرؤوا كتب الإخوان ، ولم يتأثروا بها ، فلا تصدقه !
قال لي أبو عصام ذات مرة وهو يبدي إعجابه بحسن البنا: لقد سافر بالطائرة ست ساعات ، وبقي مستيقظاً ولم ينم ، فانظر كم كانت أعصابه قوية !
فقلت له: أنت معجب بحسن البنا وتغالي فيه كثيراً ، وأنت أقوى منه ، وأعصابك أقوى من أعصابه !
وأسوأ ما ورثنا من كتب الإخوان: التغني الأعمى بأمجاد الخلافة ، وأمجاد الأمة ، ووجوب العمل لإعادة الخلافة ، والإغماض عن مظالمها لأئمتنا^ ولأجيالنا الشيعية المضطهدة طول العصور ! فكان مثلنا كالمسيحيين الذين سامحوا اليهود بدم المسيح، وأعلنوا العمل مع اليهود لإقامة دولة إسرائيل!
حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب
كانت هذه الشخصيات الثلاث أكثر الشخصيات المحبوبة عند قيادة الدعوة وأوساط الدعاة . فحسن البنا قائد أعجبنا فيه قوة شخصيته ، وقدرته الفكرية والقيادية ، وأنه بدأ مشروعه من الصفر ، وأوصله الى قرب الحكم .
وسيد قطب وأخوه محمد ، أعجبنا فيهما أنهما منظران للإسلام في مشـروع سياسي نتبنى شبيهاً له ، فقد قرأنا كل مؤلفاتهما وأعجبنا بها أيما إعجاب .
في أوائل إنشاء تنظيم الدعوة أوكلوا اليَّ إدارة حلقتين في النجف ، في كل حلقة أربعة أعضاء، وعندما أكملت تدريس الأسس التي كتبها السيد الصدر سألتهم ماذا أدرسهم؟ فقال المسؤول: إختر أنت موضوعات ، أو درسهم كتاب شبهات حول الإسلام لمحمد قطب .
كنا ندرِّس ذلك الكتاب في الحلقات ، وبعد مدة كتب السيد الصدر كتابه المدرسة الإسلامية ، فكنا ندرسه الى جانب مختارات من كتب الإخوان المسلمين . ثم بدأت تصدر نشرات الدعوة الداخلية لتدريسها في الحلقات . لكن بقيت كتب الإخوان محترمة عندنا احتراماً كبيراً.
وعندما أصدر جمال عبد الناصر حكم الإعدام على سيد قطب سنة 1963، كنا نحن في حزب الدعوة ، أهل العزاء كالإخوان في مصر!
وكان السيد الصدر شديد الانفعال فقد أغمي عليه مرات في تشييع أخيه السيد اسماعيل+، وكان تأثره في إعدام سيد قطب مشابهاً ، وقال هو والسيد العسكري والسيد طالب الرفاعي وغيرهم ، إنهم لم يناموا ليلة أعلنوا حكم إعدام سيد قطب ، وكنت أنا من أقلهم تأثراً !
وكان السيد الصدر أقنع خاله الشيخ مرتضى آل ياسين بأن يرسل برقية باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف الى جمال عبد الناصر ، يستنكر فيها حكم الإعدام ويطالب بإلغائه .
وعندما أعدم أقيمت له الفاتحة في مسجد الهندي حيث تقام الفواتح المهمة .
وقال السيد طالب الرفاعي ( برنامج إضاءات - قناة العربية) إنه الذي اقترح على المرجع الراحل السيد محسن الحكيم إرسال برقية استنكار الى جمال عبد الناصر ، فقال له السيد محمد جمال الهاشمي: تريد من السيد أن يستنكر إعدام شخص يتهم أمير المؤمنين ع بأنه كان يشرب الخمر؟
قال الرفاعي: فخفت أن يمتنع السيد ، فقلت له: هل أنت متأكد ، هل هو الذي قال ذلك ، أو أخوه محمد قطب . قال: لا أدري، فقلت إنه أخوه محمد .
وقال الرفاعي إنه استعمل الخباثة وكَذَب ، ولكنها بتعبيره كذبة بيضاء !
لكن الذي قال ذلك هو سيد قطب وليس أخاه محمداً ، قال في ظلاله (2/664): (ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث ، وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثال هذا الطراز من الرجال.. ثم قال: وفي سبب نزول هذه الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ، ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف ..).
وقد اتَّبع سيد قطب في ذلك مفسري الخلافة ، وأكثرهم من رواة بني أمية . ولايرى السيد الصدر بأساً في تولي سيد قطب رغم هذه الأخطاء ، لأنه برأيه معذور فيها ، فقد قلت له يوماً إني قرأت في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب كلامه عن جيل الصحابة الفريد ، وفيه موضوع بعنوان: خط الإنحراف ، وقد وصل الى المؤامرة والإنحراف الذي وقع بعد النبي‘، ومعناه أنه فهمه ، فكيف يحاسبه الله تعالى على ولاية أمير المؤمنين ع؟!
فأجاب السيد الصدر بأن الأمر الذي لا يخطر ببال الإنسان حتى بنحو الاحتمال لا يحاسب عليه ، وقد كان سيد قطب معجباً بعمر بن الخطاب الى حد لا يخطر في باله أنه صاحب مشروع السقيفة ، بل كان يرى أن التشكيك في عمر يساوي التشكيك في الإسلام كله ، ولهذا يسقط عنه التكليف بولاية أهل البيت ع بالمعنى الذي نؤمن به ، لأن احتماله في ذهنه غير وارد .
ثم قال : إن حالته شبيهة بحالة بنت سافرة تعيش في مدينة نائية من كندا ولايخطر في بالها أن الحجاب واجب ، وأن الله تعالى يأمرها به ، فالتكليف بالحجاب ساقط عنها، وإن بقيت مكلفة بأن تبحث عن الإسلام .
وأضاف الشهيد الصدر: أما إذا كانت في جو لم تسمع فيه بالإسلام، أو سمعت بأنه يوجد دين اسمه الإسلام في مناطق من العالم ، أشبه بأديان قبائل إفريقيا الوثنية ، فلا بد من القول إنها غير مكلفة بالبحث حتى عن الإسلام ، وأن الله تعالى يكتفي منها يوم القيامة بمحاسبتها على ما وصل اليه عقلها من وجود الله تعالى وحلال وحرام ،وهذا معنى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا.
يومها ، قبلت هذا التحليل والفتوى من السيد الصدر ، لكني رأيت بعد ذلك أن قياس حالة سيد قطب بالبنت الكندية لا يصح ، لأن تقصيره في المقدمات الإرادية هو الذي سبب النتائج ، وإن كانت غير إرادية .
فعندما يختلف ابني مع غيره وأرى الحق مع ابني ، مع أنه الظالم والحق عليه ، فلا يصح القول إني معذور في الحكم لابني وموقفي الى جنبه ، لأني مقصـر في تزريق حب ابني في نفسي ، حتى صرت أرى أسوده أبيض وباطله حقاً !
ومن يرى شخصاً مقياساً للإسلام بدون نص بَيِّنٍ من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم مقصر في مقدمات رؤيته لأنه زرَّق في نفسه حبه فأنتج هذه النتيجة.
سألت الشهيد الصدر رضوان الله عليه يوماً عن الشخصيات التي أثرت فيه في أوائل نشأته وشبابه، وكنت أكثر تلامذته أسئلة له عن القضايا الفكرية بما فيها مكونات شخصيته ، فذكر لي إعجابه بالخطيب الشيخ كاظم آل نوح ، وأن مجالسه في صحن الحرم الكاظمي قد أثرت فيه كثيراً ، وأن صداها ما زال يرن في أذنه وهو يتحدث عن أمجاد تاريخ الإسلام ودولته وحضارته . وكيف شملت أكثر العالم ، وحققت أعظم الانجازات .
سألته هل كان يقرأ في ذلك الوقت الكتب المصـرية ، فلم يجبني بوضوح.
لكنه عاد ومدح الشيخ كاظم آل نوح وكيف كان يصور أمجاد الإسلام وأمته وحضارته ودولته التي كانت أكبر دولة في العالم، وكيف خسرها المسلمون لما ابتعدوا عن الإسلام ، وكيف يجب علينا العمل لإعادة أمجادنا .
وبحثت عن الشيخ كاظم آل نوح فوجدت أنه كان خطيباً بارزاً ، وله مؤلفات منها: طرق حديث الأئمة من قريش من الصحاح وغيرها. في نحو مئة صفحة .
وترجم له الزركلي في الأعلام فقال: (كاظم آل نوح ( 1302 - 1379): أديب ، من شعراء العراق ، من أهل الكاظمية . له ديوان شعر، وديوان في أهل البيت ومحمد والقرآن ،وملاحظات تاريخية حول كتاب تاريخ الأمة العربية للمقدادي ) .
ومثل هذا الشخص لا يتغنى بأمجاد الخلافة ويدعو الى إعادتها كما نفعل نحن أعضاء الدعوة ، بل يذكر أمجاد الإسلام باعتبار أنها أمجاد حققها المسلمون ، فيما بقي عندهم من الإسلام ، رغم انحراف الخلافة عنه ، فكيف لو لم تنحرف !
وقد فكرت في أعجاب السيد الصدر بمجلسه في صحن الكاظمية ، فقلت في نفسي إن ما سمعه منه السيد عندما كان عمره بضع عشـرة سنة قبل أن يأتي الى النجف ، لا بد أن يكون من هذا النوع ، فهو التزامن بين الأفكار التي تأثر بها من كتب الإخوان ، وبين مجالس هذا الخطيب التي ضربت على وترها .
إعجاب أبي عصام بالإخوان المسلمين
كان مؤسس الدعوة أبو عصام أكثر الأعضاء القياديين تأثيراً في الدعوة ، في الجانب الفكري والعملي . وكان أكثرهم إعجاباً بفكر الإخوان المسلمين وثقافتهم ، بينما كان أبو حسن محمد هادي السبيتي ، والشيخ عارف البصري معجبين أكثر بحزب التحرير ، لأنهما كانا عضوين فيه مدة ، ووصلا الى عضوية ولاية العراق ، كما يسميها حزب التحرير .
كان أبو عصام يرى أن حزب التحرير أنضج من الإخوان في التحليل السياسي ، فكان يميل الى طريقته . أما في التنظيم فيرى أن الشيوعيين متقدمون على غيرهم ، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف ، ثم في عهد عبد الكريم زيدان ، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني ، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم .
ولذلك حرص على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء ، وأن يجنبها نقاط ضعفهم ، فتبنى ثقافة الإخوان ، ودرَّسَ في حلقات الدعوة كتاب شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب .
وأذكر أني يومها كتبت ملاحظات نقدية على كتاب معالم في الطريق ، فقد ألفتني فيه عنوان فصل: الانحراف التاريخي ، ورأيت أن سيد قطب أدرك الانحراف الذي وقع بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، خاصة بملاحظة قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. (البقرة:253).
وطرحت ذلك مع أستاذنا السيد الصدر فأجاب بأن سيد قطب ليس مكلفاً بالبحث عن ولاية أمير المؤمنين ع لأنه لا يحتمل في حق فلان وفلان أن يكونوا خالفوا النبي‘!
وأما أبو عصام و السبيتي ، فلم يرضيا بنقد كتاب سيد قطب وقالا: نحن بحاجة إلى نقد الفكر الجامد ، لا نقد الفكر الحركي !
أقول: طبعوا كتاب معالم في الطريق، وحذفوا منه هذا الفصل ! ويظهر أن الهوى الوهابي لفح الإخوان ، فحرفوا بعض كتبهم ليوافقوا هوى الوهابية .
كما أن جواب السيد الصدر يعني تطبيق قاعدة حسن الظن والحمل على الصحة لكن هل يطبقها على من يرى أن حزب الدعوة حزب ضلال ، ويرى أن مؤسسيه ضالون ، يجب البراءة منهم ومعاداتهم وحربهم ؟!
وكذلك أمر جواب أبي عصام وأبي حسن ، فمتى كانت حركية الكتاب فوق صحته الفكرية ، وبأي دليل يجب علينا السكوت على أخطائه لأنه حركي ؟
لكني يومها لم أجب السيد الصدر والأخوين ، لأني لم أنتبه الى وجه الحق في المسألة.
كان أبو عصام معجباً بسيد قطب، لكنه معجب أكثر بشخصية حسن البنا فكان يقول: سيد قطب لا يصل إلى مستواه أبداً !
وفي عقيدتي أن شخصية أبي عصام أقوى من شخصية حسن البنا وسيد قطب والشيخ تقي النبهاني وغيرهم ، بل هو من الشخصيات التاريخية النادرة ، في قوة فكرها وطموحها .
كان أصدقائي يقولون إني أقاوم التعب والنوم ، لكن أبا عصام كان أقوى مقاومة مني، وقد تواعدنا يوماً في منزلنا بعد الظهر لنرتب مواضيع ، فجاءني بعد الظهر في صيف النجف، ففتحت الباب ورأى أني كنت نائماً فقال مستنكراً: أنا تصورت أنك لا تنام بعد الظهر ،قلتَ: أنا موجود في أي ساعة ، فتفضل! فقلت له: نعم قلت إني موجود ، ولم أقل إني مستيقظ حتى تأتي !
كان أبو عصام معجباً بالمستوى التنظيمي للحزب الشيوعي ، فأخذ منه ما يراه حسناً للدعوة ، فجاء شكلها يشبه تنظيم الحزب الشيوعي ، فالحلقة خمسة أعضاء يرأسها مشرف ، واللجان المحلية وبقية اللجان الهرمية ، تشبه التنظيم في الحزب الشيوعي .
أما التحليل السياسي، فكان ينتقد تحليل الشيوعين المملوء بتعابير الإقطاع والطبقية والبرجوازية والرأسمالية . إلى آخر منظومتهم .
ولا يعجبه تحليل الإخوان ويقول: يغلب عليه السطحية والعاطفية ، ويعجبه تحليل حزب التحرير ، الذي يتناول القضايا من زاوية الصراع بين المسلمين والمستعمرين خاصة الإنكليز الذين حكموا المنطقة وما زالوا يحركونها ، وهم يُوَرِّثُون نفوذهم طواعية للاستعمار الأمريكي الجديد. أو يضطرون للخضوع لهم ، وقد صار ذلك طابع التحليل في حزب الدعوة .
وبعد مدة اكتشفت ما فعله بنا أبو عصام ، وأن تنظيمنا شكله التنظيمي من الشيوعية ، وثقافته من الإخوان المسلمين ، وتحليله السياسي من حزب التحرير، ونحن شيعة !
فاعجب لهذه الطبخة، التي تعودنا عليها وأحببناها !
هذه الطبخة التي كثر طباخوها بعد أبي عصام ، فشاطت !
https://telegram.me/buratha