فارس حامد عبد الكريم*
يدور الجدل بين المهتمين بالشأن القانوني ورجال السياسة، حول اشكالية مشروع قانون التقاعد الموحد، واساس الجدل القانوني الممزوج بالسياسة حيناً وبالدعاية الانتخابية حيناً آخر، مما اوقع عموم المواطنين في حيرة من امر هذا القانون، هو ان مجلس النواب قد عدل وأضاف على مشروع ذلك القانون مما حدا البعض للمطالبة بنقض القانون امام المحكمة الاتحادية بداعي ان ليس من حق مجلس النواب فعل ذلك؟ والتساؤلات المثارة في مثل هذه الاحوال هي:اذا كان مجلس النواب لا يستطيع اعداد مشاريع القوانين، وهذا صحيح دستوريا، ولا يستطيع ان يعدل على مشاريع القوانين ولا ان يضيف عليها مواد تعبر عن كونه ممثل الشعب، والشعب مصدر السلطات كما هو مستقر في الانظمة الديمقراطية منذ الثورة الفرنسية، وان مجلس الوزراء هو من يقترح القوانين، ويعد مشاريعها وهو من يعدل ويضيف عليها فقط ، اذاً ما هو دور مجلس النواب، وماذا تبقى له من سلطاته التشريعية؟ هل الموافقة او الرفض فقط هو من حق مجلس النواب التشريعي؟ وهل مثل هذا الرأي المجرد يتسم بالمعقولية والمنطقية التي هي اساس جوهر القانون وقوام الأحكام القضائية؟وهل من المعقول والمقبول منطقياً ان السلطة التشريعية لا تشرع ولا تعدل ولا تضيف؟؟؟؟، وان من الممكن ان ينقض لقانون امام المحكمة الاتحادية رغم مروره بكل الاجراءات الشكلية والموضوعية الدستورية وتصويت اغلبية ممثلي الشعب عليه بحجة ان مجلس النواب اضاف له مواد جديدة !!!ان اقرار مثل هذا الحكم المتقدم كما نرى لو اقر من قبل المحكمة الاتحادية انما يسلب حقيقة وواقعاً من مجلس النواب اهم سلطاته، ويجعل منه اشبه بهيئة محلفين لا تملك من التشريع سوى اسمه أو مجرد صورة خلفية لنظام يراد له ان يكون ديمقراطي ومبني على اساس من دولة المؤسسات، وهذا لا يمكن ان يقول أو يعتقد به احد.. وان مثل هذا الاقرار سيكون حجة على مجلس النواب الان ومستقبلاً كلما حاول ان يمس مشاريع القوانين المعدة من مجلس الوزراء.والغريب ان عدد من مجلس النواب هم من يطالب بسلب مجلس النواب هذا الحق الوحيد المتبقي له في اطار سلطاته التشريعية من خلال الطعن بقانون صوتوا لصالحه بأغلبية كبيرة.والحل الامثل بدل الطعن هو ان يعد قانون خاص بالهيئات القيادية في الدولة كما هو حال جميع القوانين المقارنة في العالم يكون متوازنا ومعقولاً ولا يثير السخط العام، ومن جانب أخر يحفظ لمن خدم بلده كرامته وامنه الشخصي بما يعزز هيبة الدولة ورجالها.فمن المستقر في أدبيات الفقه القانوني إن العمل التشريعي ينطوي من حيث مضمونه وشكل صياغته فكريا على عنصرين ينبغي التمييز بينهما:أولهما: عنصر العلم وهو عنصر موضوعي يقوم على جملة معطيات تُعبر في مضمونها عن الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية والمُثل والقيم العليا التي تسود في مجتمع واحد معين، ومن هذه المُعطيات يستمد المشرع مادته الأولية أو الجوهر الذي يصوغ منه قانونه، وهذا يعني إن العنصر الموضوعي يتصل بالملائمة وحسن التدبير.ثانيهما: عنصر الصياغة وهو عنصر خارجي ذو طابع فني يتعلق بصياغة أو بناء النصوص القانونية بناءا على المعطيات العلمية الموضوعية، ويقوم به أشخاص متخصصون في مختلف فروع القانون وفلسفته. ويرجع أساس كلا العنصرين إلى السياسة القانونية المتبناة في مجتمع ما، فالعنصر الموضوعي يتعلق بشؤون وحاجات وأماني وتطلعات ذلك المجتمع، ويستهدف العدالة كمثل أعلى لتنظيم ذلك على أفضل الوجوه وأكثرها ملائمة. أما الصياغة فتمثل الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب أدوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والأهداف الاجتماعية.وبمطابقة هذه المعطيات العلمية مع نص المادة (60 ) من دستور جمهورية العراق لسنة2005 وكذلك حكمي المحكمة الاتحادية العليا ( 43 و44 / اتحادية / 2010 ) الصادرين بتاريخ 12 / 7 / 2010، لتبين لنا ما يلي:1ـ إن حكم المحكمة الاتحادية جاء صائباً وموافقاً للدستور من حيث النتيجة.ولم يسلب من مجلس النواب حقه الدستوري في سن التشريعات، ودليل ذلك ما يأتي:أ ـ بالنسبة لمقترحات القوانين المقدمة من عدد الأعضاء أو اللجان: فان الفكرة التي يقوم عليها المقترح تمثل عنصر العلم المشار أليه في مقدمة مقالنا ويجب في هذه الحالة أن تتضمن الفكرة المقترحة المعطيات الأساسية التي يراد من التشريع تحقيقها، وبعد التصويت عليه وإقراره كمقترح من قبل مجلس النواب حسب نص المادة (59/2) من الدستور فانه يرسل إلى مجلس الوزراء، وفي هذه الحالة يطبق مجلس الوزراء القانون النافذ بشأن مقترحات القوانين ومشاريعها والتي تنص على إرساله إلى الجهة المختصة بإعداد الصياغة الفنية وهي في العراق مجلس شورى الدولة الذي خوله القانون تدقيق المشاريع والمقترحات من الناحية الموضوعية والشكلية وحسب ما جاء في قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل (1)، وإبداء ملاحظاته وعلى النحو التالي:أ ـ مدى مطابقة المقترح للدستور.ب ـ مدى تعارضه أو عدم تعارضه مع القوانين النافذة.ج ـ إعداد الصياغة الفنية للمقترح وضمان سلامته اللغوية.أي ان مجلس شورى الدولة يتولى صياغة المقترح فنيا وفق المعطيات الموضوعية الواردة فيه وترجمة تلك المعطيات إلى نصوص قانونية مع بيان ملاحظاته الموضوعية والشكلية ومن ثم يعيد إرساله الى مجلس الوزراء الذي يتولى دراسته ومن ثم يبدي ملاحظاته واعتراضاته المسببة عليه ومن ثم يعيد إرساله إلى مجلس النواب دون تعديل احتراما للإرادة التشريعية، ويتولى مجلس النواب دراسة الملاحظات والاعتراضات ليبت بشأنها عند قراءة المشروع وفقا للمصلحة العليا للبلاد. ثانيا: تدقيق جميع مشروعات التشريعات المعدة من الوزارات أو الجهات غير المرتبطة بوزارة، من حيث الشكل والموضوعب ـ بالنسبة لمشاريع القوانين التي تقدم من السلطة التنفيذية والتي تأخذ طريقها الى مجلس شورى الدولة أولاً ثم ترسل إلى مجلس النواب، فإن للمجلس عدة خيارات بشأنها، وهي أما أن يرفضها أو أن يقبلها أو أن يعدل عليها، وفي كل الأحوال فانه يبقى هو المشرع لا السلطة التنفيذية. سواء وافق ذلك سياسة الدولة أو لم يوافقها وليس للسلطة التنفيذية أن تعترض على ذلك لأنه ليس له أو للمحكمة الاتحادية أن تجبر مجلس النواب على سن قانون لا يريد سنه.يتضح مما تقدم انه لا يوجد عيب في نص المادة 60 من الدستور من حيث الموضوع بحيث يقال ان الدستور المعيب هو الذي قاد إلى هذا التفسير، إلا انه كان يفترض بالمشرع الدستوري من الناحية الشكلية أن يقدم الفقرة (ب) من المادة أعلاه التي تنص على ان (مقترحات القوانين تقدم من عشرة من أعضاء مجلس النواب، أو من إحدى لجانه المختصة) ويجعلها هي الفقرة (أ) إبرازاً للدور التشريعي لمجلس النواب بدلاً من إبراز دور السلطة التنفيذية في المقدمة في مجال التشريع، لما للتقديم والتأخير من أهمية في التفسير، وهذا ما معروف في نطاق علم التفسير كما هو الحال عند تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ومختلف النصوص.2ـ مادام إن عمل السلطة التنفيذية في مجال التشريع هو عمل فني يتعلق بالصياغة في مجال اقتراحات القوانين وانه عمل موضوعي مقترح وفني في مجال المشاريع المعدة من قبله، فانه لا فرق أن يكون المشروع أو المقترح المراد صياغته متعلقاً بالسلطة التشريعية ذاتها او بالسلطة القضائية أو بالهيئات المستقلة مادام إن التشريع من الناحية الموضوعية لن يمر إلا بموافقة وإقرار مجلس النواب فضلاً عن حقه في تعديله والإضافة عليه.-----* استاذ جامعي ـ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة
https://telegram.me/buratha