رُويَ ان أحد الخوارج سأل عبد الله ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب، هل ينجّسه؟ فقال ابن عمر: "انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله (ص)"! لم يكن حينها صادماً هذا التزييف في الوعي، والتشبث بالهوامش على حساب وأد الأسئلة الكبرى والاستفهامات المصيرية، اذ بات مسلكاً انحرافياً وبائياً له امتداده المجتمعي، يفضي في أغلب الأحيان الى نتائج كارثية، تنوء من عواقبها الشعوب والأجيال، مثلما وصلتنا موجاته المدمرة، وأمسى واقعاً معاشاً بين ظهرانينا!
فلا السائل عن نجاسة دم البعوض يجهل ما اقترفه، أو يجهل تجرؤه على الدين والأحكام الشرعية في ممارساته، ولا من أشاع هذه المنهجية وحشّد لها وأراد أن يتعبّد بها الأتباع بغافل عن خطورتها! وحينما نصف هذا المسلك بأنه (وبائي) فهذا ليس تهويلاً البتة، إنما واقعاً عاشته الأمة وتجرعت ويلاته ومرارته، مثلما تعيشه اليوم بأوضح صوره.
لقد سطّر لنا التاريخ الاسلامي تناقضات مفزعة وجنونية، أبطالها من عيّنات ذلك الخارجي المذكور في الرواية، ونقل لنا هذا التاريخ عن (دواعش) أمويين قطّعوا الجسد المقدس للإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلاء، بينما كانوا قبل سويعات قد أتمّوا صلاتهم جماعة! فلا مجال للتوهم بأن ذلك الخارجي المتوجس من نقض وضوئه مثلاً بسبب دم البعوض هو منسلخ عن سياق حاضنته الفقهية، حينما أفتت له في أمور هي أهم وأخطر من نقض الوضوء، وتخوض في دماء المسلمين على أوسع نطاق، وبأفضع الوسائل، لمجرد انهم اختلفوا معهم! ولكن الوسيلة الأمضى التي هيمنت على منهجية الانحراف والانقلاب كانت عمليات غسيل الأدمغة، التي مورست بإتساع واحترافية قل نظيرها، وهي كبيرة الشبه بما يشهده العالم الاسلامي، وخصوصاً من جهة الحواضن التي وَفّرت البيئة والدعم المطلوبين لأنشطة خط الانحراف والفتنة، وهذا قد ساهم حينها في إعادة هيكلة مكعبات السلّم القيَمي للعقيدة الاسلامية الحقّة، بما يتماشى مع أهداف ومآرب تلك الجماعات، وعاثت فساداً في تلك القيم تمهيداً لإفساد الواقع العام برمّته مثلما نشهده اليوم، فتجعل المحرمات والكبائر ضرباً من (المسلّمات) التي يتلقاها الأتباع بسلاسة وطقس تعبّدي، فتنتج بدم بارد مجازر ومشاريع إبادة بحق المسلمين وغير المسلمين ممن يخالفون انحرافهم ومنطقهم التكفيري المنفصل تماماً عن الإسلام المحمدي الأصيل أولاً، وعن الواقع ثانياً، فيصبح اقتراف تلك المجازر والفضائع المؤطرة دينياً أمراً مقبولاً ومندوباً ومستحسناً بل و(جهاداً) يُثاب عليه من اقترفه!
وعليه، تكون هذه (المسلّمات) أمراً حياتياً معاشاً يسري في دماء الأتباع بما لا يستدعي من متبنيها الاضطرار الى الوقوع في نوع من (الإشكالات) الفقهية! وحينها يكون من غير المنطقي سؤال المشايخ عن (شك) فقهي في تطبيق تلك الأحكام المنحرفة والخطيرة! بينما تصبح نجاسة دم البعوض مسألة شرعية موضع ابتلاء الأتباع، تستدعي اللجوء الى الفقهاء لتبيان (الحكم الشرعي الصحيح)! بموازاة ذلك لا ضير في عقيدة الانحراف، ان يُشرّع فقههم مقتل سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (ص) الإمام الحسين (ع)، ويعتبره من (المسلّمات) الفقهية التي لا تحتاج الى (مراجعة) ولا تثير (إشكالية) عقائدية، ولإسباغ المشروعية على الجريمة، ينبري فقهاء الفتنة ووعاظ السلاطين الى (تكييف) الحكم الشرعي، لجعل الضحية هو المدان، وانه (قام على إمام زمانه)! ولمَ العجب، الم يستنكر ويستصرخ شيخ الفتنة يوسف القرضاوي المسلمين حينما تم إعدام الطاغية صدام، بزعم انه مسلم قد تم إعدامه يوم العيد، اذاً، هو يتحرج من دم البعوض، ولكنه لا يأبه لعشرات آلاف الضحايا الذين فتك بهم الطاغية؟ الم يكونوا مسلمين؟ أم أن عمى القرضاوي هو مصداق قوله تعالى: "فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"؟
هذا النوع من التزييف الممارس منذ تلك الحقبة ووصل الى خوارج العصر، من وهابيين تكفيريين، ودواعش سلفيين، كان مفتاحاً لأوسع عمليات مدروسة في غسل أدمغة الأتباع، والتي أذهلت كل من تابعها.
لقد استسهل خوارج العصر هؤلاء تحريف أولويات الأمة وبوصلة عقائدها وتطلعاتها في عالم محفوف بالتحديات والصراعات والاستحقاقات، كما استسهلوا إهالة التراب على كل المعطيات التي أفرزتها طبيعة التدافع البشري في هذه المرحلة، والتي كانت نتيجتها وقوع العالم الاسلامي تحت وطأة تكالب استكباري قل نظيره في تاريخ البشرية، فكان مصحوباً بتهديد وجودي، غذته نظرية (صراع الحضارات) الأميركية، والتي أنتجت فيما أنتجت نظرية (الفوضى الخلاقة) التي تجري فصولها في منطقتنا!
لقد أسهمت تلك الحقائق، بشكل أو بآخر في إذكاء الانحراف العقائدي والمنهجي، المدعوم بمخططات خارجية تستهدف العالم الاسلامي كياناً وعقيدة، وتم استدعاء نظرية (الضد النوعي) في الواقع الاسلامي المتأزم، لتكون أفضل من يسّهل تدمير خلايا الجسد الاسلامي من الداخل، بواسطة خلايا سرطانية، تعمل فتكاً وانتشاراً في بيئة محتقنة أساساً بعوامل الوهن الذاتي والمحمّل.
* * *
تعبّد السلفيون، وعلى رأسهم شيوخ الفتنة، بالخارجي (المتحرج) من دم البعوض، وكانوا نسخة محدّثة عنه، فطوّروا هذا الاستعراض (التقوائي) الذي نشهده، وجعلوه يتناسب -أو هكذا ظنهم- مع تفاصيل المرحلة، ولكن هذا النهج ما كان له أن يبقى قائماً الى اليوم لولا الإمكانيات المادية المهولة، بهوية بترودولارية ضختها وتضخها دول الخليج، والتي تم توظيفها في مجالات شتى لخدمة المشروع الوهابي السلفي، وكان أهمها الجانب الإعلامي، مصحوباً بشراء الذمم على أعلى المستويات، حيث تُدار بخيوط خفية من (رابطة العالم الاسلامي) السعودية، وكانت الحملة، ولا زالت قائمة على قدم وساق لطمس معالم الإسلام المحمدي الأصيل، واستبداله بإسلام موازٍ، تكرسه اليوم على أرض الواقع زمر المشيخة الوهابية ونبتهم الشيطاني المتمثل بالقاعدة وداعش.
دخل السلفيون التكفيريون منذ فترة مرحلة (التمكين)، التي سبقهم الى طرحها فكر الإخوان المسلمين، وشهد الجميع بعد هذا التمكين حجم الانحراف، وغسيل الأدمغة الممارس،مع الشحنات التدميرية للوباء السلفي الوهابي. وكان مثال (التحرج من دم البعوض) الواجهة التسويقية لـ (تقوائية والتزام) هؤلاء بالشرع الاسلامي، فالخارجي المستدعى من ثنايا تلك الرواية كان يُفاضل في التقصي عن الحكم الشرعي، اذ يهتم بأن يسأل عن نجاسة دم البعوض، ولكنه غير معني أو غير مهتم أساساً في التقصي عن (شرعية) إرواء سيفه بدماء المسلمين! وأضحى الخوارج الجدد يجاهرون اليوم بأن ذبح المسلم (وغير المسلم) المخالف للفكر السلفي التكفيري تقرباً الى الله، وتطبيقاً (مثالياً) لأحكام الشريعة، وإعلاءً لشأن الإسلام واستعادة عزته! كما ان تفجير الأبرياء من المدنيين -وفيهم الأطفال والنساء- هو ذروة (الجهاد) وتلبية لدعوة تناول الغداء أو العشاء مع الرسول (ص)!
لقد شهد العالم أجمع مدى وحشية السلفيين من دواعش ونظائرهم، حينما يبسطون سيطرتهم على المدن والقرى، وما تصاحبه من مجازر مروعة وممارسات فظيعة يندى لها جبين الإنسانية، والأنكى هو تأطير هذا السلوك الهمجي بإسم الإسلام (الضد النوعي حاضراً)، وهو نتاج النهج التكفيري وعلى مدى عقود طويلة، حيث دأب -ولا زال- على تقويض ثوابت الإسلام نهجاً وعقيدة، ويتجاوز بفهمه المنحرف على كل ما هو متجانس مع فطرة الإنسان وسماحة الدين الحنيف.
* * *
هل (التحرج) من دم البعوض يمكن إسقاطه على السلفيين التكفيريين فقط، أم يتعداهم الى مهندسي (الفوضى الخلاقة)؟
لم يمر يوم الاّ ونشهد ذلك التناقض المدوي للسلوك الأميركي في الساحة الدولية، وخصوصاً إزاء العالم الاسلامي، فحرق الأوطان والتكالب على الشعوب الآمنة بذريعة (مكافحة الارهاب) ونشر الديموقراطية، لا يهز شعرة لدى سادة القرار الأميركي، ومثالنا الحيّ ما يحدث في غزة بفعل العدوان الإسرائيلي الوحشي، وبدعم أميركي، فهل أسر جندي اسرائيلي معتدٍ سيحرك البيت الأبيض للسؤال من مجلس الأمن عن (نجاسة دم البعوض)؟
https://telegram.me/buratha