يبحث العقلاء في أوج الأزمات عن الأسباب قبل الحلول، ثم يجهدون ويجتهدون في تشريحها وتقصّي جزئياتها وبيئاتها، حتى لا تفضي الى توليد أزمات أخرى، أما غير العقلاء، أو المتقاعدون عقلياً فيرتكسون في النتائج فقط، دون أي مرور على الأسباب!
نحتاج في الأزمات الكارثية من عيار (نكبة) الموصل الى إعمال العقل، واستدعاء مفاتيحه، لفتح مغاليق الأسباب و(الأحجيات) والمقدمات التي مهّدت لتلك النكبة!
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل تلك الأسباب، والتي تتفاوت في وطأتها و(كارثيتها)، يمكن إدراج سبب مغيّب كان محركاً لكل الأزمات التي صاحبت العملية السياسية في العراق بعد 2003، وتقدم هذا السبب الصف الأمامي في طابور الأسباب تلك، وأعني به (المال السياسي) الذي أبتلينا به بعد السقوط، حيث أطلّ منذ اليوم الأول وحشاً مستدعى من أروقة الفساد السياسي الذي أبتليت به من قبل دولاً كثيرة، خاصة تلك التي تحبو نحو الديمقراطية، أما الدول (العريقة) ديمقراطياً، فهي الأخرى ليست بمنأى -بشكل أو بآخر- عن هذا الوحش، ولكنه يكون (ناعماً) في أدائه، وعكسه يكون عندنا، شرساً، نهماً، دموياً ينشب مخالبه في كل صغيرة وكبيرة.
ثمة عدم اتفاق على تعريف (المال السياسي) في الأدبيات السياسية، ولكن المجمع عليه، انه مصطلح يُطلق على الأموال التي تُضّخ في أنشطة ومشاريع وواجهات سياسية، وأبرزها الانتخابات النيابية والمحلية والرئاسية، بهدف التأثير في السياسات والنتائج، ومن ثم إخراجها عن سياقها الطبيعي، وجعل المستخدمين للمال السياسي يؤثرون في الواقع السياسي بما لا يتناسب وتمثيلهم الحقيقي أو أوزانهم في العملية الديمقراطية.
كما تتنوع مصادر تلك الأموال، فمن (الإسهامات المالية) لكبار الرأسماليين والمحازبين والمؤسسات الاقتصادية ذات المصالح المتشعبة، وكذلك اللّوبيات التي تهدف الى الاستفادة من العمل السياسي، الى الأموال التي تضخها مافيا الجريمة المنظمة في بعض البلدان، او تلك الأموال التي تعرضت الى الغسيل أو التبييض، مثلما يندرج ضمن المصادر الدعم المالي الخارجي لإسناد جماعات سياسية بعينها تحقق مصالح الدول أو المؤسسات الداعمة، وتتعداها الى إنشاء مؤسسات مجتمع مدني تكمّل منظومة الأهداف.
اختلفت تلك التعريفات أيضا في تبيان المجالات التي تغطيها حركة وأنشطة (المال السياسي)، اذ تختلف من بلد لآخر، ومن مرحلة لأخرى، حسب ظروف كل بلد، وفي المجمل تشرّع تلك الدول قوانين تجرّم أنشطة (المال السياسي) أو تحاصره وتقيّده في أسوأ الاحتمالات.
* * *
تتنامى باطراد أهمية المال السياسي في البيئات المبتلية بالفساد السياسي المزمن، اذ يتحول ذلك المال الى نوع من الأسلحة الثقيلة غير المرئية، فتهدم وتفتك وتعرقل وتؤزّم بصمت! كما تفوح رائحته النتنة في المواسم الانتخابية عادةً، وهذا يسري في أغلب الانظمة المأزومة، ويتعداها الى البلدان المتقدمة في بعض الأحيان، ويمكن للجميع أن يشم تلك الرائحة، عبر الميزانيات المهولة التي تتداول في تلك المواسم.
يرتدي المال السياسي -عادة- بزة عسكرية للقتال من أجل حماية الجزر والحواضن السياسية التي يغذيها، مع خزائن المصالح الأخطبوطية المتشعبة، إضافة الى مهام أخرى، منها تلميع الوجوه الصدئة، تسويق البرامج السياسية المنسجمة مع طروحات الدوائر المتحكمة به، تسقيط الخصوم، وتشكيل الرأي العام عبر المؤسسات الإعلامية التي يمتلكها، وبالتالي جعل البلاد والعباد لقمة سائغة لمنظومة المصالح الشخصية والفئوية، والتي تتماشى مع الأطماع والمآرب للجهات الخارجية التي تسهم في ضخ ذلك المال السياسي.
ولتقريب الصورة، شهد المتابعون للمواسم الانتخابية كيف تستنفر قرون الاستشعار لوحش المال السياسي، لتحسسه أهمية هذه المواسم في إضفاء الشرعية على الخطط والبرامج، وعلى الأفراد والجماعات الذي يديرون تلك الأموال، وبذلك تمارس تلك الجماعات أنشطتها بغطاء قانوني كامل الدسم، اذ يتمتع فيها رجالاتهم بالحصانات النيابية!
وشهدنا أيضاً كيف يجلب المال السياسي النكرات والإمّعات والمشبوهين وذوي الملفات المتفحمة، اضافة الى الملاحقين بتهم جنائية كبرى، أو الملاحقين قضائياً والملطخة أيديهم بدماء الأبرياء، والمشمولين بإجراءات المساءلة والعدالة، والمرتبطين بدوائر استخبارات عواصم الارهاب، أو الذين ينوبون عن القتلة والهاربين، كل أولئك يُفصّل لهم ذلك المال السياسي أزيائهم الرسمية والوطنية، ويطليهم بالمساحيق التي تجعلهم فرسان المرحلة ورموز العملية السياسية، والأنكى حينما يضفي عليهم صفة (القادة) بمجانية تزكم الأنوف!
لقد خبر العراقيون جميعاً مدى فداحة الابتلاء الذي اجتاحهم في مواسم الانتخابات، ووضوح البصمات لوطأة المال السياسي، المشبوه والمشبع برائحة العمالة، وكان توحشه أشدّ في محاولة فرض وجوه عُرفت بإفلاسها السياسي والوطني، ممن قفزت الى الواجهة فيما مضى بفعل رافعات مشبوهة هي الاخرى بعد 2003.
فمثلاً، كانت مخالب المال السياسي ظاهرة في حالات كثيرة، ومنها حالة المرشح إياد جمال الدين في الانتخابات النيابية لعام 2010، اذ كان يتبجح بأنه أنفق 85 مليون دولار على حملته الانتخابية، وهو المعمم الذي لم تعرف له أية عضوية في نادي الأثرياء، ولم يتحرج حينها من هذا الإجهار، ولم ننتظر منه طبعا أن يُفصح عن مصدر هذه الملايين، لأن بصمات المخابرات السعودية كانت واضحة في (برنامجه الانتخابي)، فهل تبذخ تلك المخابرات من أجل سواد عيون هذا المرشح، أم عليه أن يتكامل مع المشروع السعودي في العراق عبر بوابة المقعد النيابي؟ وكم من العشرات -ان لم نقل المئات- من الحالات المماثلة قد جرّبت حظها وفق المرسوم لها؟! ولم يكن المرشح المذكور بدعاً بين المرشحين، انما سبقه رؤساء كتل وقوائم، لهم باع طويل في التعامل مع المال السياسي، إدارة وتعبئة وتوظيفاً، كالسيد إياد علاوي، الذي جاهر في عدة مناسبات بإنفاقه مئات الملايين من الدولارات على الحملة الانتخابية، مثلما جاهر ذات مرة في مقابلة صحفية بُعيد السقوط بأنه تعاون مع 14 مخابرات دولية إبان نشاطه في المعارضة العراقية، طبعاً من أجل (إنقاذ العراق)!
لم تشذّ انتخابات 2014 عن هذا المنحى، وأستدل هنا بخميس الخنجر (بدون لقب الشيخ الذي انتحله)، والذي برز اسمه قبل الانتخابات كأحد بارونات المال السياسي في العراق، والذي بدوره لا يتحرج من استعراضه لهذا المال و(إنجازاته) في مناسبة أو بدونه، وكان يجيب بزهو وانتشاء حينما يسأله أي إعلامي عن دور أمواله في دعم القائمة العراقية في الدورة السابقة (شهر العسل المشترك)، أو دعم (المقاومين) من إرهابيي البعث وباقي الفصائل، فلم يكن ينكر ذلك، بل وفي الشق الثاني كان يتباهى بفعلته تلك.
بالطبع، لا يسع هذه السطور التفصيل في سيرة هذا الخنجر المشبوهة وغير المشرّفة، وعن الامبراطورية المالية التي شيّدها، ولكني أعتقد أنه يصلح كعيّنة (معملية) لمن يريد أن يتقصى تأثير المال السياسي في تخريب وتقويض العملية السياسية، عبر الزج بعينات الخناجر في تلافيف تلك العملية، خصوصاً وان خميس كان على مشارف الفوز في الانتخابات الأخيرة متزعماً كتلة (كرامة)، وما رافقه من تسويق تكفلت به ملايينه في الحملات الدعائية والانتخابية، وقناتيه الفضائيتين، وباقي الواجهات التي يدفع لها بانتظام، وبعد فشله في اقتحام مجلس النواب، أدار الدفة إثر نكبة الموصل، وابتدع له صفة أخرى، هي الناطق بإسم (ثوار العشائر)، وأسفر عن كل وضاعته وعمالته ومتاجرته بالوطن من الدوحة، ومرة أخرى واجه المال السياسي إخفاقاً في التسويق، فلفظته أغلب الفصائل الارهابية (للثوار) واستنكرت عليه هذا التطفل والإقحام! ولكنه متشبث حتى الساعة بهذه التسمية علّه يبقى في الواجهة قبل أن يبتلعه النسيان!
أما عن ارتباطاته التي توضح بعض خيوط المال السياسي الذي يديره، فهو لا يتحرج أيضا من تنسيقه مع القطريين والسعوديين والاردنيين، وبالطبع لا نعني هنا الدوائر الرياضية أو الخيرية، بل دوائر المخابرات!
* * *
يمكن تشبيه المال السياسي بالسرطان، اذ الأخير يصعب تشخيصه في بداياته غالباً، وهذا ما يضفي منتهى الخطورة على الداء، ومن هنا وُصف بالخبيث، لأنه يفتك بصمت. وكذلك المال السياسي، يفتك بصمت هو الآخر، ولا يشعر المستهدَفون بفتكه وتوسعه.
المال السياسي كالإرهاب لا دين له، ولا مبادئ ولا وطن، كما لا يخضع لقانون أو دستور، وكلما زادت رقعة انتشاره كلما قرّب لنا الكارثة، ولم نكن بعيدين كعراقيين عن دوره التخريبي في العراق الناهض من ركام الديكتاتورية، وشهدنا كيف تسلل من بوابته الى العملية السياسية كل من هو دون الشبهات، وكان من المتسللين أيضا من يجرجرون ذيول إيغالهم في الجريمة في العهد السابق، ومن الطائفيين والمفروضين بقوة الاملاءات الأميركية ومعها عواصم الارهاب، وممن كانوا ولا زالوا الطابور الخامس لتلك العواصم، ممن يتمتعون بحصاناتهم النيابية والرسمية الأخرى، وكل هؤلاء أضحوا القوة المعرقلة (العلنية) لكل مشروع أو برنامج حكومي يهدف الى إخراج العراق من وطأة أزماته، ويعافيه من وباء الارهاب والتدخلات الخارجية، وكانوا ولا زالوا يستنجدون بعواصم الارهاب وبقوات الناتو والبيت الابيض كلما عجز المال السياسي عن (تحصينهم) من مآلهم الأسود، أو حينما يشارفون على انتهاء صلاحيتهم!
انه المال السياسي الذي يتحرك في الحواضن الارهابية والجيوب السياسية الداعمة له داخليا، حتى يضمن الاستمرارية لما تحتاجه تلك الأنشطة من ميزانيات ضخمة لا تلبيها بالطبع تبرعات الباعة والكسبة وقطاع الطرق المنتمين لتلك الحواضن، وهو المال السياسي الذي يؤمن الرواتب المنتظمة لكل الملتحقين بركب الارهاب من الوقود البشري المحلي!
وثمة مال سياسي اشترى الذمم التي تباع في نينوى وصلاح الدين والأنبار، وبدورها أنتجت تلك الذمم نكبة الموصل وجلبت الدواعش وآكلي لحوم البشر من أصقاع الأرض، لتشكل حلفاً إرهابيا بامتياز مع فصائل البعث والنقشبندية ومجاميع (الثوار)! وهو المال الذي يتدفق من مساجد السلفية في الخليج، و(الجمعيات الخيرية) التي تتباكى على أهل السنّة، وتكبّر كلما شاهدت رؤوساً تدحرجها سيوف الدواعش في العراق وسوريا!
وهو ذات المال السياسي المسؤول عن الإعلام الفضائي (العراقي) الملثم، الذي يسمم الحقائق، ويضخ الأحقاد الطائفية، ويضفي صفة (المقاومة) على كل جهد إرهابي، ويعيد انتاج القتلة والذبّاحين، وينظف أدوات جرائمهم، ويمسح بصماتهم عن الضحايا، كما يجهد في غسل وحل العار والعمالة عن بعض رموز حواضن الارهاب المندسين في العملية السياسية، ليعيد انتاجهم كـ(شركاء) فيها، بينما هي في غرفة الإنعاش!
* * *
لن يكون الخلاص من سرطان المال السياسي بأدعية الشفاء، أو أحراز وتمائم تعلق في الرقبة، بل هي عملية مضنية ومعقدة، وتحتاج الى تضافر جهود الشرفاء والمخلصين في شتى المجالات، وأن تكون البداية في كشف خطورة المال السياسي للمواطنين، ومجالاته التي يتغلغل بها في الحياة السياسية من جهة، والعامة من جهة أخرى، ويتحمل الإعلام الملتزم والوطني عبء هذه المهمة.
وفي غير هذه الحالة، يخشى المرء أن تصل الأمور الى نقطة اللاعودة لا سمح الله!
https://telegram.me/buratha