لا نريد من المحكمة الاتحادية العليا أن تأتي بالمعجزات والخوارق، أو تحيل العراق الى فردوس، انما ننتظر منها أن تكون حاضرة، مواكبة، متأهبة لوضع النقاط على الحروف، والنطق بكلمتها الفصل في المنعطفات الحرجة والخطيرة والحساسة، وأن لا تركن الى النفَس البيروقراطي الذي يزيد من وطأة الأمور! وهل هناك ظرف أشد خطورة من الذي يمرّ به العراق والعراقيون هذه الأيام، حيث البلد منتهك بفعل العدوان الإرهابي، وتكالب عليه (الأشقاء) قبل الأعداء، واستحقاقات داخلية جمة غير محسومة، وعلى رأسها تكليف رئيس الوزراء وتعيين فريقه الوزاري، بينما أُرتُهِنت العملية الديموقراطية ومعها مصير العملية السياسية في (تفسير) مادة دستورية رقمها (76)!
ما نشهده اليوم مآل محتوم لذلك التراخي والترقيع وترحيل الاستحقاقات، وتتحمل المحكمة الاتحادية قسطاً من ذلك، وكنا نأمل منها كعراقيين -لا كسياسيين- أن ترتفع الى مستوى التحدي، وأن تنهض بمسؤولياتها بمنتهى الوضوح، وبسرعة تلائم خطورة الملفات، بيد ان ما شهدناه -للأسف- تباطؤاً وتكاسلاً ومسلكاً بيروقراطياً لا يتناسب وحجم المسؤوليات المنوطة بها في هذه المنعطفات، وكان يصدمنا ويحزننا ويقلقنا هذا الفراغ الذي تملؤه -غالباً- التقولات والتفسيرات الشخصية والفئوية، والتي كانت ولا زالت تزيد بدورها التعقيد تعقيداً، والالتباس التباساً!
لقد اجتزنا الانتخابات البرلمانية منذ أكثر من 100 يوم، ومرّ 44 يوماً على انعقاد الجلسة النيابية الأولى، ولا زلنا لم نحسم مسألة تكليف رئيس وزراء بطريقة لا تُصعّد من الاختلافات والانقسامات القائمة أصلاً، او تفتح الباب لمأزق لا يتحمله كاهل العراق والعراقيين أكثر مما ينوء بحمله!
ونتساءل جميعا، لماذا لم تفسّر المحكمة الاتحادية المادة 76 بطريقة لا تفتح أبواباً واسعة لـ(الاجتهادات والتأويلات) من هنا وهناك، ولا تزيد الغموض غموضاً؟ ولو سلمنا انها (تعتقد) بأنها قد فعلت ذلك، لماذا اذن كل هذا التخبط في فهم التفسير، والذي أفضى اليوم الى نزاع سياسي محوره تفسير تلك المادة؟ الم يكن الأجدر تعضيد هذا التفسير بـ(توضيحات) أكثر شفافية، فتضع النقاط على الحروف وتقطع نزاع القوم؟ لقد رشحَت تصريحات من المحكمة الاتحادية بأنها غير معنية بتسمية الكتلة النيابية الأكثر عدداً، في الوقت الذي لمّح خبراء قانونيون -من خارج المحكمة- الى أن التفسير ربما يكون (حمّال أوجه)!
بغض النظر عن كل التعقيدات التي سبقت ورافقت عملية تكليف السيد حيدر العبادي من قبل رئيس الجمهورية، وبعيداً عن السجالات والاستقطابات والتأويلات والاصطفافات، لدينا -بكل وضوح- رئيس وزراء مكلّف وفق تفسيرات دستورية (مختلف عليها)، ورئيس وزراء منتهية ولايته لا يعترف بهذا التكليف ويعتبره (خرقاً دستورياً)، وتقدم الأخير بشكوى مرفوعة للمحكمة الاتحادية العليا (تأكد الخبر العاجل من موقع "المسلة" اثناء كتابة هذه السطور)، ولدينا شارع منقسم ومستقطب، وبلد يجثم على أجزاء منه وحش إرهابي تكفيري لا يعترف سوى بمنطق الإلغاء والابادة، ولدينا قوات مسلحة مضحية تقارع العدوان الإرهابي في الثغور الملتهبة، ومعها رجال الحشد الشعبي الشرفاء كمشروع تضحوي مقاتل و(يتوسمون) جميعاً استقراراً سياسياً يسندهم ويؤازرهم، ولدينا أعداء متربصون داخلياً وخارجياً، ولدينا استحقاقات مرَحّلة وملفات عالقة، كل ذلك يجعلنا نترقب الحسم الدستوري، ليكون الحل دستورياً وديموقراطياً ايضا، لا يفكر فيه (المختلفون) بحلول أخرى خارج هذين الإطارين بما لا يحمد عقباه، ونجتاز المنعطف بأمان.
ننتظر جميعاً من المحكمة الاتحادية الكلمة الفصل، مقرونة بوضوح كامل، حتى تقوّم الاعوجاج، وتسيّد الدستور، وتنقذ العمليتين الديمقراطية والسياسية، ولا تجعل سوق السجالات عامراً، وأن تكون هذه الكلمة الفصل سريعة، غير متلكئة، وشجاعة في ظرف لا يتحمل المماطلة، وعلى الجميع أن يخضع للحكم/ القرار الصادر، إن كان لصالح (فلان) أو لصالح غيره، وعلينا جميعاً كعراقيين أن نسلّم بما تصدره المحكمة، فهذا هو النهج الديموقراطي في الاختلاف والتنافس اذا ما سلّمنا بأننا انتخبنا الديموقراطية بعد 2003، بذلك فقط نكون قد نزعنا فتيل الأزمة، التي لم نكن نتمناها جميعاً في هذا الظرف العصيب.
حفظ الله العراق.
https://telegram.me/buratha