أجبرت ردود الأفعال الاسلامية والدولية على الفضائع التي أوغل فيها الإرهابيون التكفيريون من داعش والنصرة والقاعدة ونظرائهم، أجبرت (بعض) رعاتهم وداعميهم، ومنهم شيوخ الإفتاء على غسل أياديهم بصابون الشجب والاستنكار، ظنّاً منهم ان هذا التصرف يكفي لمسح بصمات الشراكة في اقترافات وجرائم أولئك الارهابيين! وهذا (البعض) لا يبادر الى هذا التنصل الصوري سوى لـ(ضرورات) تمليه مواقعه، أو خشية وقوعه تحت طائلة التجريم، اذا ما كان من المفترض تقديم كبش فداء في أجواء ضغط شعبي دولي! أما البقية فهي سادرة في دعمها وولائها وتبنيها لممارسات داعش وأخواتها!
وفي هذا السياق، جاء البيان الأخير لمفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ المعنون بـ"تبصرة وذكرى"، ليشكل خطوة أخرى في مساعي التمويه التي ينتهجها المعسكر الوهابي برموزه، للتنصل (ظاهرياً) من الشراكة الستراتيجية القائمة بينه وبين التنظيمات التكفيرية الارهابية.
يصاب المرء بالغثيان من عنوان البيان المذكور، فأي تبصرة وأي ذكرى يوجهها المفتي للمسلمين، وهو الذي كان ينفخ في الفكر السلفي، كأرفع موقع يمثله، ويبارك الجنوح السلفي نحو تكفير المسلمين واستباحتهم على كافة الأصعدة، ومنذ عقود طويلة؟ ولن نكون في حاجة الى استدعاء الارشيف المتضخم للاستدلال على هذه المواقف، وعلى ان الفكر السلفي، هو تكفيري بامتياز، وإقصائي حتى النخاع، ويمارس التطرف في أبشع صوره، وزرع الفتنة والبغضاء بين أبناء الدين الواحد، كما استعدى أتباع الأديان الأخرى بعد ازدرائهم والتوطئة لقتالهم، ومهّد لوصم الإسلام بأنه يشجع على الإرهاب، وان الارهابيين ينفذون تعاليمه!
ان جيلا كاملا من الارهابيين و(الجهاديين) التكفيريين قد تشرّب حتى آخر قطرة من الفكر السلفي التكفيري الظلامي، الذي لا يرى في غيره سوى الكفر والزندقة والارتداد! فكيف يمكن تصور فاعلية ومصداقية عدة عبارات من هذا المفتي او ذاك الشيخ السلفي بأن تفتتت طبقات الظلامية المدّعمة بذلك التراث السلفي، والذي يتعبّد بها اليوم جيل الذبّاحين بلحاهم وشعورهم الطويلة المقمّلة؟!
جاء في البيان المذكور للمفتي؛ "إن أفكار التطرف والتشدد والإرهاب الذي يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل ليس من الإسلام في شيء، بل هو عدو الإسلام الأول، والمسلمون أول ضحاياه، كما هو مُشاهد في جرائم ما يسمى بداعش والقاعدة وما تفرع عنها من جماعات"! لن تندرج هذه العبارات طبعاً ضمن (صحوة ضمير) برقت للمفتي، ولكنها محاولة متأخرة ومتهافتة للتنصل والنأي عن تاريخ طويل من التطرف والتشدّد الذي تزعمه ذات المفتي والمؤسسات السلفية في السعودية، والتي كانت تمد أذرعها الى كل بلدان العالم الاسلامي وباقي بلدان المعمورة، وكانت منابر وفضائيات الفتنة تشحن وتضّخ الفكر المتطرف، الطائفي والتكفيري بأقصى ما أوتيت من قوة، مستمدة (شرعيتها) من المفتي العام للمملكة وتراث ابن تيمية، ومن الأرصدة المهولة التي توفرها خزائن البترودولار، كما تستمد وقودها من الانحطاط الذي كابدته الشعوب العربية، ومعها بعض الشعوب الاسلامية، كنتيجة متوقعة للتسلط الديكتاتوري وانعدام التنمية وتردي الأوضاع الاقتصادية وتبعات الاستعمار، وفي المقابل كانت المباركة الرسمية للحكومة السعودية متواصلة في الخفاء والعلن، وشهد الجميع التسهيلات والدعم الكبيرين لشيوخ ودعاة الفتنة والتكفير، والذي كانوا يجندون في مساجدهم وعبر خطبهم (المجاهدين) ليلتحقوا بالقاعدة وتوابعها قبل ثلاثة عقود، واشتدت حملات التجنيد العلنية بعد 2011، أي بعد الحرب التكفيرية في المنطقة، والمنسجمة مع الخطط الأميركية والغرب الداعم، في تحويل سوريا الى ساحة للإرهاب بذريعة (توطيد الديمقراطية) في هذا البلد، وكل ذلك يتساوق مع نظرية "الفوضى الخلاقة" بالنكهة الأميركية، وكان الدمار والقتل والتشريد، وتحولت سوريا الى حريق كبير، والذي امتد بنيرانه الى العراق، بفعل الضخ والرفد التكفيري الموجّه من محور الارهاب (السعودية وقطر وتركيا والاردن واسرائيل) بتنسيق أميركي، وكانت "داعش" والنصرة كامتداد طبيعي للقاعدة، وجميعها ارتوت جذورها من سلفية المفتي آل الشيخ وأبنائه من مشايخ ودعاة السلفية.
لقد كانت مجالس (تأبين) الانتحاريين السعوديين وزعماء القاعدة والتنظيمات السلفية الأخرى تقام علناً في السعودية، واستمرت الى يومنا هذا، وفي المقابل كان محذوراً على ذوي شهداء الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية، والذي قتلوا على يد جلاوزة السلطة أن يقيموا مجالس تأبين ضحاياهم!
بالطبع سيطول المقام في بسط الأدلة الدامغة والتي تثبت تورط المملكة في مسلسل الارهاب التكفيري الذي عصف بالعالم الاسلامي، والذي حيّد اسرائيل بالطبع باعتبارها (خارج مرمى الهدف) بتصريح من داعش، أما الأهداف الحقيقية فهي كل المسلمين المخالفين للمذهب الوهابي السلفي، ثم يليهم أبناء الأديان الأخرى، وكان الشيعة المستهدف الأكبر اينما وُجدوا على رؤوس الأشهاد، حيث مهّدت ماكينة الفتوى الوهابية لتشريع حرب الإبادة الموجهة ضدهم، ولم يرتوِ سيف (الجهاد) السلفي من دمائهم حتى هذه اللحظة.
لم تردع النظام السعودي كل الاعترافات التي أدلى بها أعضاء المنظمات الارهابية من السعوديين الذين تم القبض عليهم في العراق طيلة السنوات الماضية، والتي أوضحوا فيها عبر شهاداتهم بتورط المخابرات السعودية وشيوخ الفتنة (الذين جنّدوهم) في زجّهم ضمن أنشطة التنظيمات التكفيرية، وكان رد الفعل السعودي، الإيغال في الدور القذر، وخصوصاً في الملف العراقي لدوافع طائفية غير خافية، وتجنيد أكبر عدد من الانتحاريين السعوديين والخليجيين، وتعدّاهم الى تجنيد أجانب نفذوا عملياتهم في العراق وسوريا ولبنان، وهذه الأنشطة السعودية لم تكن منفصلة عن هجومها الدبلوماسي وموقفها العدائي ضد العراق وسوريا، ومتداخلة مع الحرب الموجهة ضد ايران من منطلقات طائفية، فبسطت ظلالها الثقيلة على الملف اللبناني ايضاً لتركيع الشيعة ومعهم حزب الله، ولقد أكدّت على هذا الأمر التسريبات التي تطايرت حول مواقف بندر بن سلطان، المدير الفعلي للمطبخ الاستخباري السعودي لعقود، والمشرف على ملف التنظيمات الارهابية، فكانت أخطر التسريبات وأوضحها، الشهادة التي سربها السير "ريتشارد ديرلوف" الرئيس السابق لجهاز المخابرات البريطانية السرية المعروف باسم "أم آي 6"، والتي نشرتها "الأندبندنت" اللندنية مؤخراً، وفحواها محاورة كشف فيها بندر بن سلطان للسير ديرلوف عن "معلومات تنطوي على نذر خطيرة باتجاه طائفة من المسلمين في الشرق الأوسط"، وتوضح الصحيفة في ذات المقال بأن المقصودين هم الشيعة، وتشير الى ان المحادثة تمت قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 بفترة وجيزة! ووصف ديرلوف التصريح بأنه "مفزع لا يزال يتذكره بكل وضوح" على حد تعبيره. ويضيف معلقاً على إرهاب تنظيم داعش في العراق: "أنه لا يداخله أدنى شك بأن التمويل الضخم المتواصل الذي يقدمه متبرعون مستقلون في السعودية وقطر، والذي تغض السلطات النظر عنه، قد لعب دوراً مركزياً في الأحداث التي شهدتها بعض المناطق في العراق". ثم يعود ويربط الأحداث ببعضها؛ "لقد دأبت الحكومات الغربية على التقليل من شأن العلاقة بين السعودية والفكر الوهابي، ولكن هذه العلاقة قائمة وليس في الأمر سر أو مؤامرة، فخمسة عشر شخصاً من أصل التسعة عشر الذين اختطفوا الطائرات في 11 أيلول كانوا سعوديين، وكذلك كان بن لادن ومعظم ممولي العملية".
* * *
ثمة خطوات مسرحية سابقة انتهجتها السعودية، أسمتها مبادرات "المناصحة" لضمان عدم إفلات الخيوط التي تمسكها في المؤامرة من جهة، وذر الرماد في العيون من جهة أخرى، لتطمين جمهور كبير من النخب والمواطنين المعرضين للهيمنة الوهابية في شؤون المملكة، والغريب انه كان يرأس هذه المسرحية وزير الداخلية محمد بن نايف بن عبد العزيز، وهو الحامل لكثير من الملفات الأمنية هناك، فلعب دور (الواعظ) والناصح في أكثر فصول تلك المسرحية، ولكنه استعان بكثير من (المشايخ)، الذين كانوا هم من تورط في تعبئة الانتحاريين، والإفتاء بقتل المسلمين المخالفين لعقيدة السلفية، وحاولت المبادرة المعززة بالجهد الإعلامي المسخّر، تبييض صفحة المملكة المتفحمة بفعل دعمها الخفي والعلني للإرهاب التكفيري، والذي يخدم سياستها وستراتيجيتها في المنطقة والعالم الاسلامي، وكانت العبارة التعريفية في برنامج "المناصحة" الموجهة للموقوفين في قضايا الارهاب بالدرجة الأولى، تعرّفها بأنها "أسلوب لتعديل الأفكار (الخاطئة) حول بعض القضايا الشرعية، بهدف بناء مفاهيم شرعية صحيحة تستند على منهج الوسطية والاعتدال"، ولكن برنامج "المناصحة" ذاك قد حصد فشلاً ذريعاً، وكشف عن حضيض التهافت الذي تبغي السعودية عبره ذر الرماد في العيون، ولكن -رغم ذلك- علَقَت في الدعاية السياسية السعودية عبارة "منهج الوسطية والاعتدال"، متخذة منها الطلاء الذي يؤمل منه تغطية حقائق الدور السعودي، ولم تتكفل أبداً تلك الدعاية في تبيان الخطوات العملية التي يتم اتخاذها لتكريس "الوسطية والاعتدال" الى واقع عملي، بينما الذي ترسّخ بعد سنوات، هو أن السعودية تتبنى عملياً عكس هذه المنهجية تماماً، والتي تنحو باتجاه التشدد والدوغمائية، وإلغاء الآخر، المسلم قبل غيره، واعتبار السلفية الفرقة الناجية!
* * *
تضمن بيان المفتي الذي تصدّر المقال، فقرة يقول فيها عن أعضاء التنظيمات الارهابية: "وهذه الجماعات الخارجية لا تحسب على الإسلام، ولا على أهله المتمسكين بهديه، بل هي امتداد للخوارج الذين هم أول فرقة مرقت من الدين، بسبب تكفيرها المسلمين بالذنوب، فاستحلت دماءهم وأموالهم"، وهذا كلام يقبله كل منصف، ولكن ليس معناه ان قائله مؤمن به، والأدلة كثيرة، فلم يُعرف عن المفتي سوى تكفير الآخرين ومباركته للدعاة والمشايخ المنتهجين لهذا النهج، وما قيمة الأقوال اذا ما ناقضتها أو الأفعال؟! وهو الذي اشتهر عنه تكفير طائفة عظيمة من المسلمين، وهي الشيعة، وله قول شهير في هذا الصدد: "نعم أنا أتفق مع الشيخ بن باز بأن الرافضة يعبدون أهل البيت ويدعونهم من دون الله، إنهم كفار"! وباستنتاج بسيط، فإن تكفير الشيعة يخرجهم من (الحُرمة) التي يؤمّنها الإسلام للمسلم، حُرمة دمه وعرضه وماله، وتكفير الشيعة بجرة القلم هذه تمهّد لقتلهم حسب التخريجات السلفية المتطرفة، فكيف يحلّ المفتي لنفسه (تكفير) المسلمين، ولا يحلّه للدواعش وباقي الارهابيين السلفيين؟
لقد نُحر الإسلام بفتاوى التكفير السلفي، وبسكين الإفتاء التي يمسك بها مفتي السعودية ومن يأتمر بأمره منذ عقود، قبل أن نشهد نحر المسلمين وغير المسلمين بواسطة (الجهاديين) الذين يتعبدون اليوم بتلك الفتاوى، وكيف لخديعة المفتي عبر سطور "تبصرة وذكرى"، والتي أملتها ظروف المناورة، وبعدما اتّسع الفتق على الراتق، أن توقف إرهاب الدواعش والسلفيين السادرين في الذبح في سوريا والعراق، وغير المتلكئين في برنامج الإبادة، الذي برمجه بندر بن سلطان كما اتضح؟
حفِظ الله العراق.
https://telegram.me/buratha