يداهمني شعور وكأن ذئباً يتربّص خلف الباب حينما أطالع مصطلحاً سياسياً أميركياً جديداً، يطلقه أحد أركان أو مفكري الإدارة الأميركية، كالمصطلح الذي أفرج عنه جو بايدن نائب الرئيس الأميركي ضمن مقال له نشرته "واشنطن بوست" مؤخراً، ودعاه "الفيدرالية الفعّالة"!
المصطلح أعلاه أورده بايدن ضمن اقتراحه "نظاماً فيدرالياً فعالاً" أثناء تناوله للوضع العراقي وتداعيات الأحداث في المنطقة، ويأتي المصطلح -لا الاقتراح- ضمن حزمة المصطلحات التي تتفنن النخبة السياسية الأميركية في ابتكارها بين مدة وأخرى، والتي تصكّها حسب قوالب المصالح الأميركية العابرة للقارات، وتكون -غالباً- صاحبة الحق الوحيدة في تفسير ذلك المصطلح، أو هكذا تسعى.
لم ترسخ في أذهان الشعوب النامية، وخصوصاً الشعوب العربية والإسلامية، أية خواطر إيجابية تجاه المصطلحات السياسية الأميركية، كـ"النظام العالمي الجديد" و"الشرق الأوسط الجديد"، حيث خلًف المصطلحان حروباً وويلات وفضائع تئن من وطأتها شعوب كثيرة حتى هذه الساعة.
تتكفل الماكينة الإعلامية الأميركية وتتبعها -عادةً- الغربية بمهمة تسويق هذه المصطلحات وجعلها أمراً واقعاً، حتى تحوّل كلاً منها الى (مسطرة) تقيس بها مواقف الحكومات والجماعات والأفراد، بتفاعلها وتجاذبها مع السياسة الأميركية! ويأخذ المصطلح قوة الدفع حسب الملف الذي فُصّل من أجله، وما مصطلح "الفيدرالية الفعّالة" سوى وصفة أميركية (تتفاعل) مع كامل الطبخة الأميركية للمنطقة، والذي يعتبر الملف العراقي أشدها سخونة في هذه الفترة، ويمكن اعتبار المفرقعات المصطلحية وصفة مثالية لخلط الأوراق في محيط شائك أساساً، ومثقل بتعقيدات سياسية جمة.
* * *
في مطلع عام 2005 أدلت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كونداليزا رايس بحديث صحفي لصحيفة "واشنطن بوست"، حيث دعت الوزيرة الى نشر "الفوضى الخلاّقة" في سياق حديثها عن التواجد الأميركي في العراق وخطة أميركا في بلورة وتشكيل "الشرق الأوسط الجديد"، واستقرت فوضى رايس في الأدبيات السياسية كمصطلح تعايش مع السياسات الأميركية في المنطقة، وحفرت مدلولاته مكانتها في الكوارث التي تعاقبت على شعوبها حتى يومنا هذا.
ومن غرائب الصدف ان مصطلح "الفوضى الخلاقة" لرايس اشترك مع مصطلح بايدن بأمرين، الأول هو ان نفس الصحيفة قد نشرت المقالتين، والثاني ان محور المقالتين يدوران حول الملف العراقي ومخاطر الإرهاب، أما الآصرة الأقوى التي تربط المصطلحين فهي (الفوضى) الذي جاهر بها مصطلح رايس، والتي أخفاها -عن عمد- مصطلح بايدن الجديد! وهذا ما يندرج ضمن مفهوم "التلطيف السياسي"، والذي له وظيفتان حسب تعريف الدكتور عبد العزيز الحارثي: "الأولى وظيفة إخفاء، والثانية وظيفة إقناع، ويقصد من الأولى إخفاء الحقيقة، وذلك للتخفيف من وطأة القول الفظّ على السامع، أو لتنفيذ أجندة سياسية من دون إثارة المشاعر أو الرفض أو لكسب التأييد، أو ليحمي الساسة أنفسهم من طائلة الملاحقة، نتيجة لاتخاذ قرارات سياسية خاطئة، أو ليتركوا الباب مفتوحاً لاحتمال تعدد التفسيرات" انتهى.
لقد جاء مصطلح بايدن مفخخاً في هذه الظروف التي لا تحتمل زرع المفخخات أكثر مما هي موجودة في الواقع، وهنا يكمن التوجس من نوايا اطلاق هذه المصطلحات، فاختصار الأزمة العراقية بأنها (تعثر وعدم دقة) في تطبيق الفيدرالية التي ينص عليها الدستور العراقي، هي ضرباً من التعسف والمراوغة في تحليل عوامل الأزمة أولاً، وقفز واضح على محددات وحيثيات الهجمة الإرهابية التي عصفت بالمنطقة -ومنها العراق- المدعومة بمحور الإرهاب الإقليمي (السعودية وقطر وتركيا والأردن وإسرائيل) ثانياً. ولنا الحق كعراقيين في أن نشكك في مقولة بايدن الواردة في المقال، حيث ذكر: "بأن العراق بحاجة الى نظام (فيدرالي فعال) لمعالجة الانقسامات التي تعصف به، وإن أميركا مستعدة لتوفير الدعم من اجل إنجاح هذا النموذج"، وهنا نطالب بايدن ان يوضح لنا، هل ان داعش وباقي التنظيمات الإرهابية كانت جزءاً من فيدرالية العراق، ولكنها كانت تشتكي من (عدم فاعلية الفيدرالية) فانقلبت ضدها؟! ولسنا بحاجة بالطبع لسماع الأسطوانة المشروخة -كإجابة- والتي تعزو الأسباب المؤدية الى استباحة العراق أرضاً وشعباً الى (إقصاء السنة) أو (تهميش المكونات السنية) كما اعتاد الساسة الأميركيين ترديده قبيل نكبة الموصل وبعدها، وعلى رأسهم الرئيس أوباما، بيد انه علينا ونحن نسائل بايدن، أن نتذكر جيداً بأنه ومنذ فترة طويلة يساند المخطط الذي يقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بحكم ذاتي للشيعة والسنة والأكراد، فتأمّل يا رعاك الله!
سيتلاقف بعض (المحاصصين) المشمولين بمزاعم (الإقصاء) التي يروج لها أوباما، مصطلح "الفيدرالية الفعّالة"، وسيكررونه حتى الثمالة، لأنه يتماشى مع حزمة "الفوضى الخلاّقة" التي تستمر فصولها في المنطقة، وكان الأجدر بنائب الرئيس الأميركي قبل أن يعد العراقيين بـ"توفير الدعم من اجل إنجاح هذا النموذج"، أن يبحث مصطلح "النذالة الفعالة" التي مارستها أميركا إبان وبعد نكبة الموصل، حينما تنصلت من كل التزاماتها الحقيقية مع العراق، ولم تفعّل بنود الاتفاقية الأمنية المبرمة معه عام 2008، وتراجعت عن تسليم الأسلحة التي كانت قد قبضت أثمانها سلفاً. فأميركا أوْلى لها أن تَفي بالتزاماتها وتعهداتها، قبل أن توزع النصائح والوصفات والمصطلحات والوعود على العراقيين، الذين ما وصلوا الى هذه الأزمة سوى بوثوقهم بـ جو بايدن ورئيسه أوباما، مثلما لم يتعلم الدرس كثيرون بعد الذي جرى!
حفِظ الله العراق.
https://telegram.me/buratha