حاولت الأمة الاسلامية جاهدة وعلى مدى عقود طويلة إيجاد مكان لها تحت الشمس في عالمنا المعاصر، والخروج من وهدة الانحطاط والوهن والتخلف والتبعية والاستضعاف، وقدمت ضمن هذا المسعى تضحيات جسيمة، طوعاً أو كرهاً، حتى جاءت اللحظة الراهنة مزلزلة كل الثوابت، لتفصح بلسان عربي مبين، بأن الأمة قد غادرت -أو تكاد إن خففنا الوطأة- حلم النهوض وأوهام الريادة، لتصطدم بصخرة الواقع، المنجز بسيوف الدواعش، والمصحوبة بتواطؤ استكباري مع سبق الإصرار.
ومن عوامل الانحطاط المشمولة بالنسيان لدى هذه الأمة، ضياع بوصلة التشخيص في كل شيء، ومعه غياب الإجماع أساساً على ذلك التشخيص، ان كان في الأسباب أو الحلول، فنراها في المنعطفات الحاسمة تقدّم المهم -ان أحسنا الظن- وتؤخر الأهم!وهكذا تنزلق الأولويات في غيابة جُبّ عميق ماله من قرار، لتتسَمّر هذه الأمة أمام مرآة الواقع الصادم، وتجلد ذاتها -للمرة الألف- باستفهامات مستنسخة، وعلى رأسها؛ أين الخطأ، وما الحل؟! وكان الأجدر أن تعمل بحكمة الإمام على (ع): "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ".
ومن بؤس الانحطاط، انَ ذات الأسئلة المستنسخة باتت معروفة ومستهلكة، ويحفظها الجميع عن ظهر غيب، ولا نبالغ في القول؛ بأن الأجوبة -الحائزة على الإجماع- حاضرة على طاولات البحث والتشريح، مقرونة بوصفات العلاج التي تضجّ بها دوائر الفكر وأدمغة المفكرين وأطباء الإنسانية، ولكن المريض متمرّد، ويستسهل التعايش مع عقابيل أمراضه المستعصية، ويهاب أية جراحة تقربه من الشفاء! فيتلقى بروح رياضية الويلات والكوارث، ويكتفي بسلاح الدعاء على القوم الظالمين!
لقد اختلفنا على كل شيء، على الأسباب التي أوصلتنا الى هذا المآل الكارثي، وعلى الحلول التي تنتشلنا منه، ولكن ذروة البؤس أن تعتبر الأمة -مثلاً- الرسوم الدنماركية المسيئة للإسلام (خطراً) أشدّ وأفضع من فقه الذبح والجريمة والتكفير، الذي تبنته القاعدة وأخواتها من قبل، وداعش لاحقاً، وكرّسوه واقعاً بالصوت والصوت، بالسيف والمتفجرات والانتحاريين، وبأدوات النهج السلفي الوهابي الذي اجتاحنا -والعالم- كالطاعون الأسود!
* * *
صبيحة الثلاثين من أيلول 2005، والعالم مستنفر ومرعوب من خطر القاعدة وقطعانها، والمسلمون في أسوأ أوقاتهم، وفوبيا الإسلام على أشدها جرّاء فضائع السلفيين الجهاديين، (استفاق) العالم الاسلامي على وقع عدة رسوم كاريكاتورية وقحة تسيء للرسول الأكرم (ص) وللإسلام والمسلمين، قذفت بها يومية "يولاند بوستن" الدنماركية المعروفة بتوجهاتها العنصرية.
لم تكن تلك الحادثة الفريدة في مسار الاستهداف العنصري والموجّه ضد الاسلام في الغرب، ولكن شاءت الظروف أن تجتمع جملة من العوامل لتجعل تلك الحادث ككرة اللهب التي كادت أن تكبر بفعل الدحرجة السريعة وصب الزيت عليها، ولكن الواضح ومن واقع ما أسفرت عنه الأحداث في اليوم التالي، بأن العالم الإسلامي قد تم استدراجه من السلفيين وقوى التكفير الظلامي، وتحت شعارات مضخّمة ومشغول عليها بعناية، هدفها تأجيج مشاعر المسلمين الى الذروة، واللعب على وتر الاستضعاف الذي يعاني منه المسلمين، وتصوير أجواء الحدث بأنها الأوان المثالي للمواجهة الحاسمة بين الإسلام كله والشرك كله (كذا...)! ولم يكن خافياً هذا التهويل على الألِبّاء والنخب الواعية، خصوصاً وإنه كان مقوداً تماماً من السلفيين ودوائرهم، وكان على الجميع أن ينحني لهذه الموجة حتى وان كانت بالضدّ من قناعاته، حيث بلغ التصعيد مبلغاً، بأن يُشبّه أحد الخطباء الوهابيين السعوديين تلك الحادثة بواقعة حملة أبرهة الحبشي وأفياله التي استهدفت هدم الكعبة!
لقد استثمرت قوى السلفية الظلامية وحواضنها الخليجية تلك الحادثة حينها أيّما استثمار، حيث تلاقفتها وكأنها هدية من السماء، اذ كانت في حاجة ماسة اليها، لتعزيز مواقعها بين المسلمين، التي اهتزت بفعل نهجها الهمجي الإجرامي، وسعت بكل طاقتها لتصوير المشهد وكأنها تتزعم العالم الإسلامي، وجاءت اللحظة لتستعرض عضلاتها وخبثها، على انها الأشد حميّة وغيرة وحرصاً على الإسلام وكرامة الرسول (ص)، وانها الأجدر في صون تلك الكرامة والذود عن حياض المسلمين! وشهد العالم الاسلامي توتراً ملحوظاً اثر التصعيد السلفي التكفيري الذي كان في غير محله، فاحترقت سفارات الدنمارك ومعها سفارات غربية أخرى في عدة بلدان إسلامية، وسقطت ضحايا، وتنادت دولاً عدة لحملة مقاطعة البضائع الدنماركية.
والملفت ان وفداً من السلفيين المقيمين في الدنمارك، والذين كانت تطاردهم شبهة دعم القاعدة، كان أول من حطّ في البلدان الخليجية والأزهر ايضا، وأجّج المواقف، كما أشرك شيخ الفتنة القرضاوي، الذي جيّر الحادثة لصالح تزعمه حملات المقاطعة والتصعيد وتلميع صورته، وكانت تلك التحركات في ذاتها مؤشراً على ان السلفيين التكفيريين كانوا قد أعدّوا العدة لاستثمار الحدث وإخراجه عن مساره الحقيقي، ومن عجب، وبعد سنوات من تلك الأحداث، وبالضبط قبل عدة شهور، انقلب احد زعماء وفد السلفيين في الدنمارك، وفضح كل مآرب (إخوانه السلفيين بالأمس)، كما اعتذر للشعب الدنماركي عن تلك الاقترافات، وحلق ذقنه كتعبير عن انسلاخه تماماً من ماضيه السلفي، وأصدر كتاباً هاماً يوضح أسباب انقلابه وتوبته، وهو الآن المستهدف الأول من السلفيين!
لا نريد ان نستعرض تفاصيل أجواء وعواقب تلك الحادثة/ الأزمة، والانتصار المزيف الذي حاول السلفيون تسويقه للعالم الاسلامي، ومدى الضرر الفادح الذي لحق به، واتساع الهوة -القائمة أساساً- بينه وبين الغرب، وما تلاه من تصريحات من زعماء معتدلين من كلا الطرفين بأن تلك الأزمة كان يمكن لها ان ترى الحل بأقل الأضرار عبر القنوات الدبلوماسية، ولكن الملفت، ان وصفة العقل والصواب والحكمة، وترجيح (الأهم على المهم) كانت كلها حاضرة، ولكنها محجوبة بفعل دخان حروب السلفيين على امتداد الكوكب في تلك الفترة، وتبعها دخان الأزمة التي صعّدتها أيادي السلفية تلك، فلم ينكر أي مسلم غيور بأنه من الأهمية أن لا تمّر حادثة الرسوم المسيئة تلك دون أي اهتمام من المسلمين ودون معالجة مثل تلك التجاوزات، وهي تقع في دائرة (المهم)، ولكن من السذاجة والمبالغة والتهور أن يستنفر العالم الإسلامي، تاركاً أخطار أشد وطأة ونكالاً تقع في دائرة (الأهم) ويتناساها، ليتمسك بما هو أهون وأقل شأناً وخطراً!
أليس هذا هو التزييف بعينه الذي تتعبّد به داعش اليوم، ومن قبلها القاعدة وقطعانها؟ بأن يُقلب تماماً سلّم أولويات الأمة، بل ويُستبدل بآخر لا ينسجم قطعاً مع متبنيات هذه الأمة وتحدياتها واستحقاقات خلاصها. لقد مسخوا تعاليم الاسلام وعقائده وأولوياته، وجعلوا تفجير الانتحاريين أحزمتهم الناسفة بالمسلمين العزّل ممن يخالفون سلفيتهم وهمجيتهم وبهيميتهم، جعلوها أولوية قصوى وفريضة متقدمة؛ ترسل مقترفها الى جنان الخلد بدون تأشيرة دخول! لقد ذاق العالم الإسلامي علقم انقلاب تلك الأولويات، وتهتكت أستار شياطين الوهابية، وتجلى ان الأولوية عندهم لحدّ السيف؛ لا المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة، وان الأولوية لبيع نساء المسلمين كجواري على انهم سبايا وغنائم، وتوضحت الأولوية لدى أحفاد الأمويين بأنها تقاذف رؤوس الضحايا بالأرجل كأنها كرة قدم، وجهاد النكاح مقدم على حلً معضلات المسلمين!
لقد تعجب عقلاء ومعتدلي الغرب إبان أزمة الرسوم الدنماركية من ردود أفعال العالم الإسلامي العنيفة آنذاك، وارتسم لديهم سؤال إشكالي واستنكاري في آن؛ "هل يُعقل أن لا نرى تظاهرة صاخبة واحدة في العالم الإسلامي ضد القاعدة [الكلام عام 2005] والتي تهدد بذبح المسلمين وغير المسلمين في بلدان عدة، وشوهت الإسلام وقتلت من المسلمين أضعاف ما قتلت من غيرهم، والعراق شاهد حيّ، بينما تحركت عشرات الملايين من المسلمين في بلدان العالم ضد رسوم كاريكاتيرية"؟!
بالطبع نحن مع هذا السؤال الملتهب حتى يومنا هذا، فلم يتحرك هذا العالم الاسلامي حينما بدأ جريان نهر الدم العراقي بفعل الهجمة الارهابية التكفيرية على العراقيين بعد السقوط عام 2003، وكان هذا العالم الإسلامي لا يرف له جفن إزاء المذبحة المستمرة والمدججة بفتاوى الوهابيين لإبادة الشيعة وسواهم في العراق، وربما تتباين التفسيرات التي لا تجافي الحقيقة في واقعها، مثل اعتبار الشيعة فائض بشري لا يستحق الاهتمام كـ(الرسوم الدنماركية)، أو ان دمائهم لم تكن حمراء بما فيه الكفاية لتحوز صدارة الأولويات في الأهمية؟!
* * *
تقع على دوائر الفكر الإسلامي المعاصر قسطاً لا يستهان به من النتائج الكارثية التي نمر بها كمسلمين، وأعني بها تلك الدوائر التي تقف بالضد من السلفيين التكفيريين ومعسكرهم. فكانت بروجها العاجية التي أثث لها التنظير، مانعاً من تكريس الأفكار ونتاج العقول لتوظيفها على أرض الواقع كمعالجات معتدلة لمشاكل العالم الاسلامي، وفي مفاصل معينة كانت تؤثر السلامة على الخوض في المواجهة (الفكرية والثقافية) مع الفكر الظلامي، الذي نُفخت فيه الروح قبل عدة عقود، وخصوصاً بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، باعتبار ان الفكر السلفي الوهابي كان الضد النوعي لفكر الصحوة المعتدل والمتسق مع الرؤية المعاصرة لحل الأزمات والمشاكل. كما يؤخذ على تلك الدوائر الفكرية- التي تم الإشارة اليها- انها تجاهلت منذ البداية الخطر المتعاظم الذي كان ينمو مع الجنين السلفي التكفيري، ولم تستطع أن تستقرئ خطورة الوحش الذي سينتج من هذا الجنين، واستطاب ذلك الرعيل الفكري نشوة النهوض الاسلامي بعد الثورة الاسلامية والذي تبلور بتلك الصحوة، بل وكان يستهجن الأصوات التي تحذّر من تعاظم ذلك الخطر التكفيري بين ظهراني الأمة، وأتذكر تماماً من تلك الأصوات، الدور الريادي الذي مارسه الراحل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله) في الثمانينات وبعدها، حينما كان يحذّر وبكل شجاعة من على المنابر التي كان يرتقيها في الخليج (حاضنة التكفيريين الأولى) من خطر النهج التكفيري المدمّر، وانه سيفضي الى كوارث لا تحمد عقباها، وكأنه كان يتنبأ، وهذا ما حصل بالفعل، وجاءت داعش لتهزّ بعنف كل من استهان بتلك التحذيرات أو رأى انها (تهويل) غير محمود!
ولم يجب العالم الإسلامي الى يومنا هذا على السؤال الإشكالي والاستنكاري الذي ولّدته أزمة الرسوم الدنماركية وما تبعها من تأجيج، ما هو الأهم؟ وما هو دور المسلمين جميعاً، والذين هم على أجندة مشاريع الذبح الداعشية، بعد الأشواط التي طبقتها داعش من هذه الأجندة في العراق وسوريا؟ ولعل المسلمون يعيشون زمن هولاكو بامتياز، حين ذكر التاريخ؛ بأن جلادي جيشه قد تعبوا من حفلات الذبح، فكانوا يوصون من يجمعون من المسلمين تحضيراً للذبح، بأن لا يبرحوا مكانهم حتى يأتي دورهم ويعود الجلادون من القرى المجاورة، وكان الضحايا وباستسلام عجيب ومفزع يوفون بوعدهم، ولا يبرحون مكانهم، لاستقبال دورهم في المجزرة!
هل أن العالم الإسلامي ما زال يرى ان المواجهة مع داعش (نافلة) وليست فريضة لإنقاذ المسلمين، بينما يبحث عن رسوم دنماركية مسيئة هنا أو هناك ليجعل مناهضتها ومجابهتها (فريضة) يستنفر لها بقضّه وقضيضه، حتى يخلص المسلمين من (المسلمين).. ربما؟ فكل الحقائق والأولويات باتت مقلوبة.
https://telegram.me/buratha