لا مراء في ان العالم الإسلامي يدفع برمّته اليوم أثمان تغاضيه عن فكر الانحراف الديني، وتساهله مع فقه التقرب الى الله بالذبح والسلخ وأكل الأكباد!
في عالم تصنعه الميديا، بما فيها من صورة ومعلومة ووسائط متعددة، لتشكل مادة الإقناع للمتلقين على تنوعهم، وتُضخ المليارات، كما تُجنّد لها الخبرات والطاقات لحيازة قصب السبق في مضمار المنافسة الحادة والشرسة في راهننا المعاصر، تتجلى عمق الكارثة التي يتجرعها المسلمون بالضد تماماً من المسلمات التي سلف ذكرها؛ فلقد وظفت قوى التكفير الظلامي أغلب المعطيات المادية العصرية، ولكن في الاتجاه المعاكس لصيرورة التقدم والتطور؛ وباتجاه سير واحد، يوصل الى الهاوية يقيناً! واستثمرت تلك القوى الظلامية الفضائيات وباقي الحقول الإعلامية بأموال البترودولار، مثلما استثمرت التكنولوجيا في أنشطتها الإرهابية،
ولكنها في ذات الوقت لم تنفك عن إرثها المندك في عقلية السلطة الأموية، التي وظّفت الدين والفقه وكل مقدرات الأمة لتوطيد نهجها المنحرف، المتخم بمتبنيات إقصاء وإلغاء المناوئين، وإنْ كان ذلك التوظيف يستدعي تشويه الحقائق وطمس معالم وعقائد الإسلام الناصعة والحقّة، واستبدالها بأخرى موازية مشوهة وممسوخة يضعها جيش من وعاظ السلاطين؛ من عبدة الدراهم وطلاّب الدنيا، فسوّدوا الصحائف بأحاديث موضوعة أو مشوهة، وتاريخ مزوّر ووقائع محرّفة، لترسيخ وتعضيد ذلك النهج، كما صاحب كل ذلك؛ الفتك بحَمَلة الإسلام الحق وعلوم أهل البيت (عليهم السلام). ولا يعني هذا ان العهد العباسي كان بريئاً من متلازمات النهج الأموي، ولكن الأخير كان أكثر (صموداً) في اختراق عقود الزمن، لإيصال متبنياته وتعاليمه الى معتنقيه من السلفيين الوهابيين ونظائرهم، ممن عاثوا في الأرض فساداً، وقدّموا السكين على طبق من ذهب لأعداء الإسلام؛ ليوغلوا في طعن الجسد الإسلامي بضراوة أشد!
* * *
يكابد العالم الإسلامي اليوم (الصدمة) بفعل العصف الإرهابي السلفي، الذي يقتفي خارطة طريق شيطانية، استهدف زلزلة الكيان الإسلامي، وتقطيع أوصاله، واستعداء المجتمع الدولي، وتشويه الإسلام بأساليب عجزت عنها كل قوى الشر العالمية المتربصة بالإسلام والمسلمين منذ قرون.
هذا العالم الإسلامي المكلوم والمستباح؛ نراه اليوم، وبفعل الغريزة البشرية، يجهد بكل قواه لإطفاء الحرائق ليس إلاّ، ولملمة الأشلاء، والسعي بكل ما تبقى له من قوة لـ(تصحيح) صورة الإسلام التي تلطخت وشاهت بفعل اقترافات الإرهاب السلفي الوهابي، ولا (يحلم) المسلمون الغيارى بأكثر من هذا في الحال الحاضر!
ويتبارى الكثير من زعماء المسلمين اليوم، وفي أجواء الهجمة الإرهابية التكفيرية، في إجراء (تضميد موضعي) لجراحات العالم الإسلامي النازفة، ولا نعني بهؤلاء ممن خلعوا فروة الذئب ووقفوا في طابور البكائين والنائحين على حال الأمة بعدما انقلب السحر على الساحر، كمشايخ ومفتيي الوهابية، ومعهم ملك السعودية، انما نعني بهم من يتزعمون حواضر ومراكز قوى إسلامية كانت لوقت قريب تتجاهل مخاطر الفكر التكفيري السلفي الذي يترعرع بين ظهرانيهم، ويحمل أجنّة تنتظر دورها في توزيع الفواجع والويلات بين الأمة، فاستفاق هؤلاء الزعماء متأخرين؛ بعدما وصل اللهب الى حواضرهم، وانبروا يطلقون صيحات التحذير من الخطر الماحق، كشيخ الأزهر الذي أطلق (أقوى) تصريح من هذه المؤسسة مؤخراً بقوله: "من المحزن غاية الحزن أن هؤلاء المجرمين استطاعوا أن يصدروا للعالم صورة شوهاء مفزعة عن الإسلام والمسلمين"، وأضاف: "هذه الجماعات الأصولية الإرهابية أيا كان مسماها أو اسمها ومن يقف وراءها، كل هؤلاء صنائع استعمارية تعمل في خدمة الصهيونية".
ومع ان هذا التصريح وأمثاله جاء متأخراً جداً، لكنه يبقى مجرد تصريح لن يصنع المعجزات، ولن يجفف من منابع الفكر السلفي التكفيري، ولن يعمل جراحات جادة تسعى لإزالة القيح والصديد الذي يفتك بالمنظومة الفكرية الإسلامية العامة، ذلك القيح الذي تمتد جذوره الى بؤرة الانحراف التي وطّدها الحزب الأموي منذ 14 قرناً، وظلت تتوارثها عقليات مريديه جيلاً بعد آخر! كما ان هذه التصريحات لن (تنظف) المناهج التعليمية في أغلب البلدان الإسلامية، التي تغص بفكر وفيروسات الانحراف، وتغذي الجيل الناشئ، فتؤسس في معظمها لفكر التكفير وسلفية الذبح وفقه الانتحاريين! كما لن يصدق عاقل بأن كل هذا الانسلاخ عن تعاليم الإسلام قد توّلد بضغطة زر!
لا يمكن اعتبار الصحوة المتأخرة لزعماء الإسلام (المعتدل والوسطي) لتكفير وتجريم و(توبيخ) الظلاميين التكفيريين بأنها محاصرة وخنق لهذه الظاهرة، ما دامت لا تضع الإصبع على الجرح، ولا تجرّم في ذات الوقت حواضن ذلك الفكر المدمر، كخزانات البترودولار التي تضخ الإرهاب التكفيري، ومن سخرية الأقدار، ان تصريح شيخ الأزهر (الطيب) قد أطلقه في "حفل تسليم الدكتوراه الفخرية لملك السعودية"، فكيف يستقيم تصريح زعيم الأزهر وهو يكرّم زعيم الدولة الرائدة في تصدير الإرهاب التكفيري الى العالم، والى مصر تحديداً؟ فتأمل..!
ان أمثال تلك التصريحات لا تلامس سوى قشور وسطح الظاهرة، ولا تؤسس لمسعى جاد وذي صدقية في تفكيك مفخخات الفكر التكفيري، ولا تقوّم الانحراف الجيني الذي يوّلد بين حين وآخر أشكالاً من القاعدة وداعش، مثلما أنتج جيش (الإخوان) الوهابي في بدايات القرن المنصرم.
ان دحر الإرهابيين التكفيريين على الأرض، لا يفضي بالضرورة الى تجفيف منابع الانحراف الفكري والعقائدي المنتج للإرهابيين، وليس معناه دحراً لفقه الجريمة المترسخ في تلافيف المدرسة الظلامية السلفية، المدججة بإرث لا يستهان به من الزيف والخداع والانقلاب على المسلمات والثوابت الإسلامية، فكراً وفقهاً ومنهجاً.
مهمة القضاء على (حواضن الفكر) التكفيري هي أشقّ وأكثر تعقيداً وتستدعى جهوداً جبارة، على عكس حواضن (الجهد الميداني) للإرهابيين، اذ يمكن هزيمتها مادياً وعلى الأرض بفعل عوامل ومرجحات القوى في ميدان الصراع، وبعد هزيمة الإرهابيين ميدانياً، لا يمكن تصور ان حواضن الفكر تلك قد صبُ عليها الكونكريت الى الأبد! بل هي ستبقى تتحين الفرص الملائمة لإنضاج (جهدها الميداني) من جديد، والذي يظهر بمسميات أخرى غير التي تم تجريبها، كالقاعدة وداعش ونظائرهم، لتعيث من جديد في الأرض فساداً، في إعادة لدورة التاريخ، ونترقب في المقابل تصريحات اللحظات الأخيرة كرفع للعتب او (قضاء) لما فات من فريضة، كالتي أطلقها شيخ الأزهر الجليل.
* * *
تتجلى صور الانحراف في دوائر حواضن الفكر التكفيري المنتجة للإرهاب الظلامي؛ بأن تتوسل بأساليب فجة ومفضوحة، وفي ظنها انها كفيلة بأن تدفع عنها وصمة الانحراف والخروج عن الإسلام الحق، وان كانت تلك الأساليب ضد العقل والمنطق والعقائد، ولذا نلمس منها بأن الجهاد لديها يعني الفتك بالمسلمين المخالفين لعقائد تلك الحواضن، ويستحل في سياقها تفجير الأبرياء، لا فرق بين طفل أو امرأة أو شيخ مسّن، كما يصبح طقساً عبادياً تدمير دور العبادة (الاسلامية وغير الاسلامية) ومراقد الأنبياء، ويصبح (تقرباً الى الله) ذبح الآخرين على الهوية الطائفية، وكذلك التبختر بقطع الرؤوس، وسبي النساء (مسلمات أو غيرهم) وبيعهم كإماء.
كما يتم وفق هذا المنهج نشر الإسلام في العالم عبر السيف والمفخخات وتفجير محطات القطارات او استهداف المدنيين، وتكون محاججة غير المسلم والدعوة الى الإسلام عبر خطاب الإرعاب والتهديد بالويل والثبور؛ وليس بالحكمة والموعظة الحسنة، وجهاد النكاح (اجتهاداً) يتطلبه فقه القتال والخشية من (الوقوع في الحرام) لا سمح الله!
ولن يكون هناك مكان حينها لـ(الجهاد الأصغر) ولا (الجهاد الأكبر)، بل (ينسخه) ويحل محله (الجهاد الأقذر)، الذي تُبشر به عملياً حواضن السلفيين، ثم تحصل على (دكتوراه فخرية) تكريماً لها، كما يبهج ذلك الدوائر المتربصة شراً بالإسلام والمسلمين، اذ لم تكن تتصور حتى في أحلامها هذا المصاب الذي حلّ في العالم الإسلامي، وكفاها أولئك الظلاميين شر القتال!
https://telegram.me/buratha