أفرزت الحرب الإرهابية التكفيرية الدائرة في المنطقة فهماً لا يشوبه شك بأن الأصولية السلفية قد قُيّض لها أن تقدم (أفضل) ما في جعبتها، وكان التكريس الواقعي لهذا (الأفضل)؛ هو القتل والدمار والذبح وتضييع الأوطان وتفتيت الوئام، واستعداء كل شعوب الأرض على الاسلام والمسلمين.
لم يولد التيار التكفيري السلفي في مختبرات الاستنساخ الجيني كطفرة بيولوجية، أو في الأحرى فكرية وعقائدية، بل هو امتداد طبيعي لانحراف متأصل منذ 14 قرناً، قاده الانقلاب الأموي على الثوابت الاسلامية الحقّة، وتوّفر على قوة دفع -بغضّ النظر عن مشروعيتها- جعلته قادراً أن يجتاز القرون، ليصلنا اليوم عبر الوهابية وقطعانها من القاعدة وداعش والنصرة ونظائرهم.
وحتى لا نوغل في استقصاء وتتبّع جذور نشأة هذا التيار، وما يستدعي من بسط وتفصيل، يمكننا حصر الحديث عن تأثيراته المعاصرة منذ خمسة عقود، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران، وما أفرزت من خلخلة لكل الثوابت الوطنية والقومية لدى الأمة، كحلقة في مسلسل التفريط في الحقوق والأوطان والكرامة (فلسطين عنواناً)، وما تبعه من تكريس نزعة الانهزامية والتقهقر وجلد الذات، فشكّل ذلك أرضية خصبة لنزعات التطرف، بين الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء، وبرزت "القطبية" نسبة الى أفكار المصري سيد قطب في عقد الستينات، والتي ألقت بظلالها على المشهد والحراك المجتمعي آنذاك، واستفحلت النزعات بعد إعدام سيد قطب إبان الحكم الناصري عام 1966، ومن ثم نشأت الكثير من الحركات والجماعات الاسلامية، وأبرزها جماعة "التكفير والهجرة" التي أعدم زعيمها شكري مصطفى وبعض رفاقه عام 1978 إثر اغتيالهم لوزير الأوقاف المصري آنذاك الشيخ محمد حسين الذهبي.
ولا يمكن فصل تنظيم "الأخوان المسلمين" عن ذلك الحراك، وما شكله التنظيم من (إلهام) للحركات الأصولية المتطرفة، اذ يكفي معرفة ان سيد قطب قد تحدّر منه.
بموازاة ذلك، كانت السلفية الوهابية قد استحكمت حلقات هيمنتها في الجزيرة العربية، وترسخت شراكتها مع آل سعود في حكم المملكة، بمباركة بريطانية، ولاحقاً أميركية، ضمن تقاسم النفوذ الذي شهدته المنطقة العربية والشرق الأوسط منذ بواكير القرن المنصرم. ولم تغادر يوماً عقلية الوهابيين مع حكام السعودية فكرة تزعّم العالمين العربي والاسلامي، ويمكن القول ان الأحداث التي شهدتها المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية وضياع فلسطين، كانت تحجز دوماً أدواراً لهذين الحليفين تنسجم مع التواطؤ البريطاني - الأميركي الملازم لمصير هذه المنطقة! وتكثفت تلك الأدوار بعد الطفرة النفطية في السبعينات، وانتعاش خزائن البترودولار لتمويل الخطط والمؤامرات، ومهّدت الوفرة المالية لأدوار أكبر لعبتها السعودية بقاطرتها الوهابية، ومكّنها من التغلغل أكثر في شؤون الحركات السلفية والأصولية التكفيرية في البلدان العربية والإسلامية، خصوصاً وأنها الأقرب لأفكار الوهابية، إضافة الى العزف على وتر (إسلامية) الحكم السعودي، لوجود الحرمين الشريفين ضمن أراضي المملكة!
استحوذت حركات الاسلام السياسي السنّي على المشهد العام في أغلب البلدان العربية منذ بداية عقد الثمانينات، أي بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران عام 1979، قابله انحسار المد اليساري والقومي بفعل عوامل كثيرة، منها مطرقة الحكومات التي أفقدت الكثير من هذه الحركات قوة دفعها، فتراجعت كثيراً عن أهدافها، وحصلت انشطارات عديدة، وُظفت فيما بعد لصالح التيارات السلفية والأكثر تشدداً.
وكان للسلفية الوهابية المسنودة بإمكانات الحكومة السعودية وخزائن البترودولار دوراً واضحاً في نخر تلك الجماعات والحركات الاسلامية السنّية، وتطويعها ضمن مسالك المؤامرة السلفية التي كانت تُعد للمنطقة، كجزء من الحلم الوهابي التي سبق التطرق اليه، وكل ذلك كان متّسقاً مع خارطة الطريق الأميركية، ومن ذلك؛ التخلص من (الجهاديين) الذين دربتهم أميركا بدعم سعودي ورافعة (عقائدية) وهابية، لـ"الجهاد" في أفغانستان و"دحر الغزاة الملحدين" الذين اجتاحوا أفغانستان عام 1978، اذ شكّل أولئك (الجهاديين) خطراً على المصالح الأميركية أولاً، وحكومات المنطقة المدعومة أميركياً ثانياً، بعدما تم انسحاب السوفيات عام 1989، وبعدما انتهت صلاحية (المجاهدين)! فكان لا بد من استيعاب "الجهاديين الأفغان" بطريقة ما! فحصل ثمة تغيير في بعض أوراق اللعبة، وبالتعاون مع السلفية الوهابية، تشكل تنظيم "قاعدة الجهاد" الذي اشتهر بإسم "القاعدة"، ليخدم الدور المرسوم له، بعد تحويله الى (بعبع) يعيث في الأرض فساداً، وبحسبة بسيطة لأي متابع، سيكتشف ان التنظيم خدم أعداء الإسلام بما لم يحلمون به، بينما ألحق بالإسلام والمسلمين أضراراً فادحة، تناسلت بدورها كوارث متتالية حتى وصلت المهمة الى داعش، التي تواصل ذات النهج!
وهيمن تنظيم القاعدة منذ نشأته على أنشطة الجماعات وحركات "السلفية الجهادية" على اختلاف مسمياتها، والتي غدت (تستلهم) المقولات والمتبنيات ذاتها.
فطنت المؤسسة الوهابية وحكام السعودية فيما بعد الى ضرورة إعادة التوازن الاستراتيجي الذي أخلّته الثورة الإسلامية، اذ ترى السعودية ان القوة الشيعية قد بسطت هيمنتها على (مناطق نفوذ) إما سنّية أو سعودية - وهابية في الأساس! فكانت الحاجة ماسة الى احتواء و(تسمين) الحركات السلفية، كأذرع عملية لبسط الهيمنة السعودية في المنطقة، وتعديل التوازن المختل!
* * *
برز في سبعينات القرن المنصرم مصطلح "الإسلام الوسطي والمعتدل" او في اشتقاق آخر "الوسطية الإسلامية"، وتم تداول المصطلح ليشمل ضمن تعريفه الطروحات والأفكار والمتبنيات، في إطار فكري تارة، متمثلاً بالمفكرين وحملة الأقلام والزعامات الدينية التقليدية -غير السياسية-، وتارة أخرى في إطار رسمي تمثله بعض الدوائر الإسلامية الرسمية، أو مراكز قوى إسلامية، كالأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب. ويمكن القول ان (الضرورة) هي التي أظهرت المصطلح ومتبنياته للوجود، حيث كان لا بد من وقفة إزاء التشدد الأصولي والمنحى السلفي التكفيري الذي استفحل وهيمن على المشهد السياسي والفكري آنذاك، واستقطب الشباب المحبط والمنقاد وراء بريق (الجهاد) الذي أُخرج عن مقاصده الحقيقية، وبات مادة للتحشيد والارتزاق السياسي في الدائرة السلفية السنية، معززاً تياراً سلفياً استفاد من تراجع اليساريين والقوميين، إضافة الى انكماش الإسلاميين (المعتدلين). ولكن في المقابل، لم ينضج تيار "الإسلام الوسطي" ليشكل معادلاً موضوعياَ بكامل المعايير -ان صح التعبير- حتى يؤسس مرجعية قادرة على الحد من تنامي التيار السلفي التكفيري تحديداً، وأثبتت العقود الأخيرة هذه الحقيقة، وهذا يعود لأسباب عديدة، أهمها؛ اقتصار أنشطة (الوسطيين) على التأليف وإلقاء المحاضرات بصورة غير مكثفة، كما خسر هذا التيار الكثير من المواقع على الأرض، مثل صلوات الجُمعة التي (خطف) التيار السلفي تدريجياً أغلب قواعدها، ويضاف أيضا ضعف إمكانات الوسطيين المادية مقارنة مع التيار السلفي الذي كانت تفوح من أنشطته رائحة البترودولار، أما السبب الذي أضعف الوسطيين كثيراً هو احتساب الكثير من رموزه على الأنظمة الحاكمة، مما أفقدها المصداقية المطلوبة لقيادة الجيل، وكانت هدفاً سهلاً للتسقيط والشبهات!
ويُشار ايضاً الى ان مأزق التيار الوسطي والمعتدل هو عدم النهوض بمعالجة القضايا المعاصرة وطرح آليات الحلول، عوضاً عن الغوص في العموميات والتنظير النخبوي من بروج عاجية، وقد أفقده ذلك الريادة بين جيل الشباب، وأحدث فراغاً سارع التيار السلفي الى استثماره، خصوصاً بعد تفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية في أغلب البلدان العربية.
تلبّس النظام السعودي هوساً طائفياً بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام، حيث توجس من استعادة الأغلبية الشيعية لقرارها في العراق، وانعكس هذا الهوس الى جملة أفعال على أرض الواقع، كان منها مناصبة العداء المبطن والمعلن للنظام الجديد، مع التركيز على تقديم مادة دسمة لـ "السلفية الجهادية" التي تتغذى على الحقن الطائفي أينما وُجد، وكان تفعيل أنشطة هذا التيار الخيار الأفضل للخطة السعودية؛ يؤازرها الأخطبوط الوهابي الممعن في رفد السلفيين بعناصر الاستقواء والتمكين. حيث أصبح السلفيون قادرين على التحشيد وتفعيل الأجندات في أغلب البلدان العربية، وكان التركيز قائماً -وفق الأجندة السعودية- على العراق وسوريا، لأسباب طائفية وتوزيع النفوذ على الساحة اللبنانية، باعتبار سوريا العائق الأبرز، إضافة الى إضعاف الدور الإيراني (الشيعي) في المنطقة، ولم تكن الأهداف السعودية متعارضة مع حلقات "الفوضى الخلاّقة" الأميركية! وبالتالي أفرز التآمر السعودي ويلات وكوارث وحرائق قائمة الى هذه اللحظة.
في المقابل، لمسنا تآكل وتقهقر دور التيار الوسطي في المشهد العام، وأقصى ما قدّمه هو ردود أفعال أنتجت بياناً استنكارياً هنا ومناشدة هناك، وفضّل طريقة (العلاج عن بُعد)، بينما ثمة حرب ضروس وهمجية مستعرة يقودها التيار السلفي ضد الشعوب بشعارات ممسوخة، ويعلن بوضوح أهدافه التدميرية بشنّه حرب الإبادة ضد كل من يخالفه أو يقف في طريق أهدافه!
لا مجال البتة لتبرئة التيار الوسطي والمعتدل في تسهيله خطط التكفيريين منذ 2003، عبر إدمانه موقف المتفرج وغير المبالي إزاء حرب الإبادة الطائفية التي شنها التكفيريون ضد الشيعة في العراق باستهدافهم علناً؛ بل وتناغمت مقولات أكثر رموز التيار الوسطي مع مقولات الزرقاوي وبن لادن والظواهري في تلك الموضوعة! فلم نسمع حينها مفتي الأزهر -مثلاً- يشجب أو يستنكر هذا النهج المدمر على الأقل، كما جرت العادة!
* * *
لنا أن نتصور عمق الأزمة التي يعيشها التيار الوسطي اذا علمنا ان الشيخ القرضاوي أحد أبرز رموز هذا التيار ومنظّريه! وتضيق المساحة هنا لشرح اقترافات القرضاوي -غير الخافية- في تفتيت وئام الأمة وشحنه الطائفي ودوره في إشعال الأزمات في أكثر من بلد، وآخرها الفتنة المقيتة في مصر ووقوفه مع الإخوان المسلمين، واصطفافه العلني مع التكفيريين الوهابيين ومخاطبة مقاتليهم في العراق وسوريا وباقي البلدان بـ"أبنائي"!
لو أفصح قادة داعش وأخواتها عن أخطر سلاح لقّموا به أسلحتهم منذ الساعات الأولى لحربهم القذرة في العراق وقبلها في سوريا؛ سيقولون بأنه الشحن الطائفي ووتر "اضطهاد السنة وتهميشهم"، وتحديداً في الملف العراقي! ولمس الجميع دور القرضاوي المؤجج لهذا الشحن ومعه فيلق "الجزيرة" الإعلامي، الذي أنضج وقود المؤامرة طائفياً، فأين كان دعاة الوسطية والاعتدال من كل هذه التحضيرات التي تلتها مجازر داعش والنصرة ومؤازريهم في حواضن الخليج العلنية؟ أم بلع الجميع (وسطيته) إما تواطؤاً أو خوفاً، اذ كلاهما حدّي شفرة السيف الذي يذبح الأبرياء في سوريا والعراق؟
أين كان شيخ الأزهر بالذات من كل هذا، حينما يمنح ملك السعودية، المسؤول الأول عن هذه الحروب، دكتوراه فخرية؟! وما فائدة عدة عبارات لسماحته يهاجم فيها "مجرمي داعش" ويعتبرهم "عصابة إجرامية"، أو يدعو الى الوسطية والاعتدال في تصريحاته الأخيرة؟! وأين كان من تجريم التكفيريين حينما قتلوا ومثّلوا بجسد الشيخ حسين شحاته ورفاقه في قرية "زاوية أبو مسلم" بمصر العام الماضي؛ لأن جرمه فقط هو انتمائه لأتباع أهل البيت (عليهم السلام)؟
لقد تجاهل شيخ الأزهر أن يشير بإصبعه على مكامن الخطر في داعش وفي الفكر التكفيري السلفي، الذي يهدد اليوم العالم الإسلامي برمته، لا الشيعة فقط، وتغاضى عن مؤامرات الوهابيين في تفتيت الأمة وتأجيج الطائفية التي غذّت حروب قائمة؛ وتستعد لأخرى لا تبقي ولا تذر.
ان التوسل باستدعاء متبنيات "الإسلام الوسطي والمعتدل" في هذه المرحلة الملتهبة، هو جهد بائس سبق تجريبه، ولا يرتقي الى جسامة مهمة صدّ الهجمة، لأن تلك المتبنيات كانت قد هادنت مقولات السلفية، أو تماهت معها في مفاصل عديدة، خصوصاً من جهة السكوت عن منطلقات ومآرب التكفيريين بزعامة السلفية الوهابية وما أشعلت من حروب تكفيرية. كما ان هذا الاستدعاء المرتبك، يعجز بأدواته الخطابية واللغوية -اذ لا وجود لغيرها- أن ينزع ألغام الفكر التكفيري التي زُرعت في كل الساحات العربية والإسلامية.
* * *
حدّد الشيخ القرضاوي في مناسبة سابقة "ضوابط المنهج الوسطي"، وعدّد جملة من "الدعائم الفكرية، تبرز ملامحه، وتحسم منطلقاته وأهدافه، وتميزه عن غيره من التيارات"، ومنها؛
- "دعوة المسلمين بالحكمة، وحوار الآخرين بالحسنى.
- الجمع بين الولاء للمؤمنين، والتسامح مع المخالفين.
- الجهاد والإعداد للمعتدين، والمسالمة لمن جنحوا للسلم.
- التعاون بين الفئات الإسلامية في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه".
لعمري، يحتار المرء حينما يقارن بين أفعال وارتكابات القرضاوي وتزعمه الشحن الطائفي مع خطاب الكراهية، وبين عباراته المنمقة الواردة أعلاه، فهل يشبع ضحكاً، أم بكاءً على حال الأمة؟!
ولعل القرضاوي كان الأوضح بين زعماء "الوسطية والاعتدال" في توضيح البون الشاسع بين الأقوال والأفعال، وهذا أُسّ ابتلاءات أمتنا المرحومة!
https://telegram.me/buratha