"طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) من المواطنين الأميركيين مساعدته في تحديد هوية ملثم ظهر في الفيديو المنسوب إلى تنظيم الدولة الإسلامية، كان مرتدياً ثياباً عسكرية وواضعاً حقيبة على ظهره، كما انه يتقن العربية" انتهى الخبر، ولا نبالغ اذا قلنا ان الخبر ملثم هو الآخر، فالسلطات الأميركية ماضية في الاستخفاف بعقول الأميركيين أولاً، والمجتمع الدولي ثانياً، لأن غطرستها تمدها بشعور انها فوق المساءلة، حتى لو كان الثمن تحويل الكرة الأرضية الى برميل بارود جاهز للانفجار بعود ثقاب!
وعلى 320 مليون أميركي أن ينهمكوا في (تخيل) شكل الداعشي الأميركي بدون اللثام، ولزيادة جرعة الحبكة الدرامية، جاء في ذات الخبر (البي بي سي 9 اكتوبر 2014)؛ "لقد تم وضع مقطع مصور على الانترنت مرفقاً ببعض التفاصيل توضح كيفية القيام بالمساعدة في تحديد هوية هذا الملثم"، ويمكن القول انها أكبر دورة تعليمية ينخرط فيها هذا الرقم المهول من البشر لتعلّم كيفية التعرف على الارهابيين وهم ملثمين (ضع خطاً سميكاً تحت الملثمين) ويساهموا بإنقاذ أميركا والعالم من هذا الخطر (الملثم) الماحق!
اذن، نحن أمام استخفاف بلا حدود تمارسه السلطات الأميركية في ملف خلّفت فصوله حرباً إرهابية تكفيرية، جلبت الدمار الى بلدين هما العراق وسوريا، حيث أسفرت عن آلاف القتلى وأضعافهم من المفقودين، وملايين النازحين واللاجئين، ومازالت ألسنة اللهب تهدد بإحراق المنطقة برمتها، بينما تتجاهل أميركا انها هي المتهمة الأبرز بالتواطؤ في الأحداث، وتسهيل أنشطة الارهابيين على مرأى ومسمع العالم أجمع منذ بداية أحداث سوريا في مارس 2011، بزعم "دعم حق السوريين الأحرار في إرساء الديمقراطية"، وسهّلت تحت هذه اليافطة تدفق قطعان التكفيريين من 70 بلداً عبر حدود حليفتها تركيا، ونسقت مع محور الارهاب في المنطقة (قطر، السعودية، تركيا، الأردن وإسرائيل) لجعل الخطط واقعاً على الأرض، كحلقة في مسلسل "الفوضى الخلاقة" الذي أعدته للمنطقة منذ عقدين!
لقد طالب ذوو الضحايا هنا في منطقتنا المنكوبة، وكذلك الشعوب المكتوية بنار الارهاب التكفيري، طالبوا الساسة الأميركيين بأن يميطوا اللثام عن حقيقة دعمهم منذ البداية للمجاميع التكفيرية، وعن التسهيلات اللوجستية، وتنظيم تدفق الارهابيين اليها من شتى بلدان العالم (اعترفت هيلاري كلينتون بدور بلادها في دعم الارهاب التكفيري)، وتدريبهم في معسكرات سرية في تركيا واسرائيل والأردن، كما طالبوهم بالضغط على قطر والسعودية ليوقفا دعميهما المباشر وغير الخافي للتنظيمات الارهابية، اضافة الى دور الحواضن الإرهابية المنتشرة في دور الخليج والتي تمد الارهابيين بـ(المجاهدين)، وتزرقهم بالفكر الوهابي التكفيري الذي يشكل الذخيرة المعنوية لهم عبر المنابر الدينية والإعلامية؛ ومنها الفضائيات التي تبث من الأقمار الاميركية والاوربية. كما ان الأميركيين مطالبون بالكشف عن الخطوات المريبة في اطلاق سراح عتاة الارهابيين من السجون الأميركية والأوربية في السنوات الماضية مع انهم كانوا من (المسجلين الخطرين) في لوائح الارهاب، وعلى رأسهم اليوم زعيم داعش أبي بكر البغدادي!
وعوضاً عن كل ذلك، تتصرف أميركا بكل استهتار واستخفاف لتوحي بأنها تفعل ما عليها كقوة عظمى (تسعى لإحلال السلام الدولي)، كيف؟ عن طريق الانهماك، وإشراك مئات ملايين الأميركيين، بالتعرف على الشخصية الحقيقية لأحد الدواعش الأميركيين الملثمين! ويبدو ان المهزلة بدأتها بريطانيا للتعرف على الذباح الملثم الداعشي البريطاني المزعوم، وهل هو من قاطني لندن أم ضواحيها؟ ولكن السؤال هو؛ لماذا تبحثون عنهم بعد أن يتلثموا؟ وانتم واستخباراتكم وأجهزتكم الأمنية (التي لا تقهر) تتابعون على أراضيكم حواضن الارهابيين ودعواتهم لنصرة القاعدة وداعش وأخواتهما بالمال والرجال، وتغضون الطرف عن تجمعاتهم العلنية ومنابرهم وحتى إذاعاتهم المحلية! كما انهم (يتمتعون) بكامل حريتهم في السفر الى بؤر الارهاب اينما وجدت!
هنا في اوربا حيث أعيش، تسرح وتمرح الجماعات الأصولية التكفيرية، ولها مراكزها (الاسلامية) المعروفة و(مساجدها) ومنتدياتها، وهم ليسوا متخفين، بل سيماهم في وجوههم من أثر الارهاب، بلحاهم الكثة المقملة، وثيابهم القصيرة، ويوزعون منشوراتهم على المارة، وشاهدت بنفسي أعلام داعش على زجاج سياراتهم، ونشر بعضهم صوراً لأعلام داعش تعلق من شرفات منازلهم، وكانت في السابق صورة بن لادن تلصق على مقاعد الباصات والقطارات، وقبل وقت قصير كانوا يوقفون المارة ويوزعون منشوراتهم باللغات المحلية، وتلمس بوضوح رعب المواطنين من هؤلاء حينما يصادفونهم في الشوارع والأماكن العامة، ويبدو ان حكومات هذه البلدان قد غضّت الطرف، لا كما يتخيل البعض بأنها تتبع خطة "عش الدبابير"، بل لتجعل بعبع الارهاب التكفيري يمشي بين الأوربيين في الاسواق والطرقات، يعيش بينهم بلحمه ودمه، وليس في الميديا فقط، حتى يكون الرأي العام مستعداً لدفع أي فواتير تمليه عليه حكوماته لقيادة وتمويل (الحرب على الارهاب) هنا وهناك على سطح الكوكب، لتلبية الرغبة الاميركية في التزعم والتسلط والهيمنة..
ان من السخافة بمكان أن يظن عاقل بأن الحرب على الارهاب، على ضراوتها وشدتها ووسعتها، يمكن أن تُختزل في مسرحيات هزيلة مثل تلك التي يديرها صناع الميديا المرتبطين بالقرار الأميركي، حينما يركزون اهتمام الرأي العام على صورة ملثم داعشي، وهو واحد من عشرات الآلاف من الارهابيين، ويصنعون منه أحجية تلهي المتابعين لفترة زمنية تخفف من ضغط هذا الرأي العام، وتوهمه (أو هذا ظنهم) بأنهم جادون في القضاء على الارهاب التكفيري، وانهم قاب قوسين أو أدنى من ذلك اذا حُلّ لغز الملثمين..! واذا سلمنا انها نسخة ساذجة من التمويه في اقناع الرأي العام الأميركي او الغربي بـ(جدية) اميركا في تزعمها الحرب ضد الارهاب، لكن في المقابل لم نلمس أي (ترفع) عن هذه السذاجة والسطحية والاستخفاف في التعامل مع باقي الرأي العام العالمي، وخصوصاً في منطقتنا المنكوبة، بفارق ان النسخة معدلة هنا فقط، اذ الزعم السائد، هو ان أميركا قد تحالفت مع دول محور الارهاب، من أجل (محاربة الارهاب)! أحجية ممجوجة لمهرج سيرك أميركي لا يجيد التهريج..!
* * *
سأل مترجم عراقي ذات مرة أحد عناصر المارينز في العراق بعد السقوط ضمن دردشة عابرة (دوّنها في مذكرات) لماذا غزوتم العراق؟ أجابه المارينز: "لقد قيل انه توجد هنا أسلحة دمار شامل.."، فقاطعه المترجم: ولكنكم لم تجدوه، واعترفت سلطاتكم بأنها كانت (تبالغ) في المعلومات! ردّ المارينز: "حسناً، يحصل أحيانا انك تنهمك في البحث عن شيء ما، ولكنك لن تجده، في حين تجد في طريقك ما هو أثمن منه.. لقد وجدنا بترولكم.."!!
حقاً، هل تبحث أميركا عن حقيقة من يكون الملثم الداعشي، أم تبحث هنا في المنطقة عما هو أثمن منه، ونحتاج (نحن المنكوبين) الى إماطة اللثام عنه، عاجلاً أم آجلاً؟!
https://telegram.me/buratha