تجهد الحكومات التي تواجه بلدانها حروباً أو أزمات مصيرية على إظهار قوة تماسكها، وانها القابضة على قرارها بإرادة حديدية، والماسكة بحزم بزمام الأمور، ويندرج ضمن كل ذلك الحفاظ على سيادة القرار، الذي ينبغي تأكيده في أوج الأزمات، لأنه صمام الأمان الذي يؤشر على استحكام هيكل الدولة، وقوة المؤسسات السيادية، وعدم التفريط بمقدرات البلاد في حمأة التحديات، وبعكس ذلك، تصبح تلك البلدان هدفاً سهلاً للعدو والطامع والمتصيد والمقنّع و(الصديق) الذي يستبيح ما يقدر عليه وقت الضيق!
وليس العراق استثناء في حالة الحرب التي يعيشها، ولكن الاستثناء هو ان الحكومة العراقية الحالية لا تعير (سيادة القرار) العراقي تلك الدرجة القصوى التي تتطلبها حالة الحرب الراهنة، وهذا واضح لكل متابع لأداء الحكومة، ويرسل رسالة سلبية جداً في ظرف حساس وخطير لا يحتمل أي تراخٍ في صون سيادة البلاد على كل الأصعدة، وتحديداً حينما يتعلق الأمر في الجهد الحربي والقرارات التي ترسم مسار الحرب ضد الارهاب الذي يدنس أرض العراق، ولم تسلم منه الجارة سوريا.
ان تسارع الأحداث ودخول أميركا بحلفها الدولي الستيني (أعلن كيري مؤخراً بأنه ضمَن شراكة 60 دولة) الحرب ضد داعش وأخواتها؛ وما تخطط له بصفتها (المتزعمة) لهذه الحرب، قد كشف بأن خيطاً رفيعاً بات يفصل بين احترام سيادة القرار العراقي من عدمه في الراهن الملتهب! ومن نافلة القول ان تحدي تثبيت سيادية القرار العراقي قد بدأ منذ نكبة سقوط الموصل، وكيف كشف ذلك التحدي عن التعامل المشبوه للإدارة الأميركية مع حدث بهذه الجسامة، وكيف استغلت شخصنتها للخلاف الذي كان قائماً مع رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، باعتباره قد حال دون أن تلتزم أميركا بدور الشريك الأمني والاستراتيجي، وشهدنا تهافت هذه الذرائع الواهية، وكيف تنصلت أميركا من مسؤولياتها والتزاماتها، وكيف استخفت بالمعاهدة الأمنية المبرمة مع العراق في 2008، وهي التي كانت تملأ الكوكب بضجيج ريادتها في (محاربة الارهاب)، وحينما حانت فرصة إثبات مزاعمها عملياً، لاذت بتلك الذرائع؛ بل وحمّلت الحكومة (آنذاك) كامل المسؤولية، وكأنها براء مما حصل، أو لا تتحمل أية مسؤولية في تمدد رقعة الارهاب! ولم يكن عسيراً على الخبراء والمراقبين قراءة ما كشفته سطور المواقف الأميركية وما بين السطور فيما بعد، وان الجانب الأميركي قد تجاوز مرحلة اختبار الإجهاز على السيادة العراقية ودخل مرحلة التطبيق، عبر اتخاذ قرارات خطيرة عديدة تخص فصول الحرب على الارهاب، وان أغلبها تُتخذ دون (التشاور) مع الحكومة العراقية او إشراكها الكامل في مثل تلك القرارات -وهي كثيرة- التي تصدر عن مسؤولي القرار الأميركيين، وكأن العراق أصبح الولاية الأميركية الحادية والخمسين دون الإعلان عن ذلك رسمياً!
وبالطبع لم تعر الإدارة الأميركية أية أهمية لخطورة هذه التصرفات التي تتصف بالعنجهية وغطرسة القوة، وما تحمله من مخاطر تمس سيادة العراق وإظهار الحكومة وكأنها (عاجزة) عن صون وتحصين القرار السيادي العراقي، ولم يبدر من هذه الحكومة سوى (تأكيدات) متفرقة عبر تصريحات للسيد حيدر العبادي رئيس الوزراء، أو وزير الخارجية، بأن الحكومة العراقية (لا تسمح) بالمساس بسيادة قرارها! بيد انه في المقابل تطفو على السطح تصريحات لمسؤولين أميركيين تخص (التفكير) بإشراك قوات برية من التحالف في العمليات الحربية الجارية في العراق، وبالمقابل نلمس ان الجانب العراقي لم يُؤخذ رأيه في هذه النوايا والخطط الخطيرة، اذ يتجلى ذلك من تصريحات للسيد العبادي -كردّ على التصريحات الأميركية- بأن الجانب العراقي "لا يرحب بقوات برية أجنبية"، وانه لديه ما يكفي من هذه القوات، بواقع دعم قوات الحشد الشعبي للقوات المسلحة العراقية بتنوع تشكيلاتها.. وهذا بحد ذاته يعكس عدم وجود آلية حقيقية لإشراك العراق في خطط وقرارات خطيرة تدخل في حيز القرار السيادي العراقي بلا خلاف!
* * *
لا تقف خطورة المساس بالقرار السيادي العراق عند حد تجاوز الأعراف الدبلوماسية أو (سوء تقدير) الجانب الأميركي لأصول وبروتوكولات الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع بلد يتمتع باستقلال كامل، وفي الخط الأول من جبهة الحرب على الارهاب، بل يتعدى ذلك الى منهجية متبعة منذ ولادة العملية الديمقراطية في العراق بعد السقوط عام 2003 وحتى اللحظة، تكرست في التدخلات الأميركية العلنية، وفي الكواليس للتأثير على التوازنات الداخلية، وفرض إملاءات على مسيرة الحكم كانت لها تبعات كارثية في ملفات عدة، حتى وصل الأمر باتهام الأغلبية الشيعية في الحكم بأنها طائفية وتعمل على "تهميش السنة وإقصائهم" كما صرح بذلك الرئيس أوباما في مناسبات عديدة، ومثله مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى..! وإمعاناً في هذه المنهجية، تواصل الإدارة الأميركية عبر مواقفها وتصريحات مسؤوليها إرسال رسالة مفادها ان العراق (عاجز) عن دحر الارهاب بإمكانياته الذاتية، وتعزز هذا التصور بعدم مقدرة القوات العراقية على استعادة الموصل وباقي المواقع التي يدنسها تنظيم داعش، وبعيداً عن التفاصيل، تتناسى ذات الإدارة الأميركية بأن ما تعتبره مؤاخذة ضد الحكومة العراقية هو في واقع الأمر من متلازمات فشلها في تدخلها منذ أكثر من عقدين في أفغانستان بذريعة (محاربة الارهاب) وتوسيط قطر للتفاوض مع طالبان في الشهور الأخيرة، إضافة الى (مؤاخذة) تخليها عن مسؤولياتها في الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع العراق في الحرب ضد داعش وأخواتها! والأجدر هو ان (العجز) الأميركي ما يجب تسليط الضوء عليه في مثل هذه الملفات، لا أن يقذف الأميركيون كرة فشلهم وإخفاقهم على هذا الطرف أو ذاك! لقد جاء الخذلان الأميركي فاضحاً وصارخاً للعراقيين في أوج استحقاق (الشراكة الأمنية) حينما كانت أميركا تتفرج على تمدد داعش إبان وبعد سقوط الموصل، وتُوّج هذا الخذلان في التلكؤ والتحجج بذرائع واهية للتهرب من تفعيل الاتفاقية الأمنية وعدم تسليم صفقات الاسلحة المتعاقد عليها مع العراق، ومنها طائرات F 16 التي كانت ستلعب دوراً كبيراً في العمليات القتالية ضد الارهابيين.. ناهيك عن عدم تزويد الطرف العراقي بصور الأقمار الصناعية وطائرات التجسس التي ترصد الحجر والمدر، وغض الطرف عن تدفق آلاف الارهابيين من الحدود التركية ومنه الى الداخل العراقي..
بحسبة بسيطة، سعت الإدارة الأميركية منذ بداية الهجمة الداعشية الى تصوير العراق بقواته المسلحة ونظامه السياسي بأنه أعجز عن صد الهجمة، ولم تضع في حسبانها (وهي تتهرب من تخاذلها المشبوه) بأن من يخسر معركة ما فليس معناه انه خسر الحرب! اذ هذا ما كانت تردده أميركا وحلفاؤها الغربيين دوماً حينما يخسرون معاركهم أمام الارهاب التكفيري، فلماذا باؤهم تجرّ وباء العراقيين لا تجرّ.. كما أفصحت الأحداث فيما بعد وكأن سقوط الموصل كانت السكين التي تنتظرها الإدارة الأميركية لتسلخ بها ما تبقّى من إرادة عراقية للذود عن سيادة العراق وتطهير ترابه من دنس الارهاب والخروج من كبوته، وزادت خطوات الاستعداء الاميركي بالضد من إرادة العراقيين حينما أمطرت فتوى الجهاد الكفائي الإنقاذية بعبارات التشكيك والتجريح والإدانة، منسجمة في ذلك مع أعداء العراق الداخليين والخارجيين، وما زالت تصف قوات "الحشد الشعبي" بالمليشيات (الطائفية) وبأنها تزيد من (الانقسام الداخلي) وما الى ذلك من مزاعم مغرضة ومؤججة، أقل ما توصف بها انها (حرب ناعمة) ضد ارادة العراقيين وحقهم في محاربة الارهاب بما يرونه مناسباً، وبما يعزز القرار العراقي، الذي لا يحلو للإدارة الأميركية أن تتجذر مفاعيله في الراهن العراقي!
أما لماذا هذا السعي والتحرك الأميركي الملفت لإظهار العراق في هذه المرحلة الخطيرة بأنه (عاجز) عن حسم الحرب ضد الارهاب؟ الإجابة يمكن اختصارها؛ بأن الجانب الأميركي يريد للعراق أن يكون رهن إشارته، ومنقاداً لكل ما يرسمونه ويخططون له في البنتاغون والبيت الأبيض، بما يتماشى والأجندات الأميركية في المنطقة، وأن لا يُترك للعراق سوى الاختيار بين (نعم) أو (لا مانع)، حتى لو كان ذلك على حساب سيادته أو مقدراته أو وحدة البلاد..!
على الحكومة العراقية أن تخوض اختبارها الحاسم في هذا الظرف المصيري، وأن تكون أكثر صلابة في مواقفها، لأن أي تفريط في سيادة العراق؛ سيكون من الصعب القبول به داخلياً من الأغلبية التي قالت كلمتها عندما لبّت نداء المرجعية العليا إثر فتوى الجهاد الكفائي، وهي تمثل تيارات لها ثقلها في الشارع العراقي، وأعلنت بصراحة معارضتها الشديدة لأي تدخل بري على أرض العراق تحت أية مسميات، بعنوانها الإقليمي أو الدولي، وانها لن تقف متفرجة أو مكتوفة الأيدي، ومن الحكمة أخذ هواجس ومطالب الأغلبية في هذا الموضوع على محمل الجد وبجدية قصوى، وتغليبها على مداراة الأجندات الأميركية، التي تلوّح بطريقة مواربة في تصوير الأوضاع بأنها باتت (تستدعي التفكير جدياً) بتدخل بري من التحالف الدولي، وقلما تستدرك هذا الخيار مثلاً بـ(ضرورة تحصيل الموافقة العراقية)!
ان موضوع التدخل البري الأجنبي ينذر بتصديع الجبهة الداخلية وفق ما يرشح من مواقف وخطوات، اذ تماسك تلك الجبهة هو خيار حيوي ومعطى سُدّدت أثمانه الباهظة في واقع الحرب ضد الارهاب التكفيري، وربما ما جعل نوايا التدخلات البرية تتشكل واقعيا في الأفق، هي مسرحية تفويض البرلمان التركي مؤخراً للحكومة التركية "على السماح للجيش بدخول الأراضي العراقية والسورية" بحجة المساهمة في الحرب ضد الارهاب، ورغم ان هذه النوايا مغرضة من الأساس وتخفي أجندات تركية مشبوهة؛ لكنها جاءت على شكل بالونات اختبار تنتظرها كل الدول المعنية في التحالف، وبالمقابل يستدعي ذلك من الحكومة العراقية أن تكون أكثر حزماً، وأن توصل رسائل أكثر وضوحاً وصرامة لكل الأطراف الإقليمية والدولية (تحت مظلة التحالف) باعتبار أي تدخل بري، قد حذّر منه العراق صراحة، يُعتبر عملاً عدائياً لا يقل خطره أو آثاره عن عواقب الحرب الارهابية التي تستبيح سيادة العراق وأرضه ومقدراته، كما على الحكومة العراقية أن تمارس دورها في انتزاع موقف صريح وعلني وغير موارب من أميركا والتحالف الدولي بشأن الرفض العراقي لأية تدخلات برية (او نوايا مغلفة) من أي طرف، وإلاّ سيكون ثمن التغاضي عن هكذا تجاوزات، أولاً تصدعاً -لا سمح الله- في الجبهة الداخلية لا يحمد عقباه، وثانياً إشارة سلبية تفتح شهية الأعداء والطامعين ليعبثوا بأمن ومقدرات العراق دون أن ينتظروا من يردعهم..!
لا مناص من التسليم بخطورة تمييع (السيادة العراقية) من الجانب الأميركي وعلى أكثر من صعيد أو ممارسة، خصوصاً وأن أميركا التي تتزعم التحالف الستيني؛ تناقش كل شيء بشأن الملف العراقي الساخن مع الحلفاء، أما الجانب العراقي فهو آخر من يعلم، أو هكذا يُراد له، وهي حقيقة مرة ينبغي أن لا تستمر..!
https://telegram.me/buratha