تتغذى قوى التطرف الأوربية (المتربصة بالإسلام والمسلمين) على التطرف الأصولي الذي يرفع راية الاسلام تجنياً وعدواناً، كما تفعل القاعدة وداعش وما تفرع منهما، رغم ان الغالبية العظمى من المسلمين تتبرأ بشدة من الممارسات الإجرامية والهمجية للأصوليين التكفيريين أينما وُجدوا، سواء على صعيد أنشطتهم القتالية (المعنونة تظليلاً بالجهادية) أو الأنشطة الأخرى كـ(الدعوية) والإعلامية وغير ذلك، كما ان الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها تُبين ان المسلمين هم الضحية الأكبر لجرائم الارهاب التكفيري حيث أنشب مخالبه في أرجاء المعمورة، كما يبدو جلياً بأن كل ذلك لا يُبرّئ الاسلام والمسلمين من اقترافات ذلك الارهاب، اذ هناك منهجية غربية قائمة تصرّ على عدم الفصل بتاتاً بين هؤلاء وبين الدين الاسلامي؛ ومعه مليار ونصف مسلم أعلنوا براءتهم وسخطهم بشكل أو بآخر من تلك الممارسات الارهابية.. ويجمع عقلاء الأمة ان ما قدمه هذا الارهاب بعد عقدين من الزمن، ومن يقف وراءه كالمؤسسة الوهابية وواجهاتها الأخرى وحواضنها المنتشرة شرقاً وغرباً مدعومة بخزائن البترودولار؛ قد خدم بالدرجة الأولى أعداء هذه الأمة بما لم يكن يخطر على بالهم يوماً، وقدّم لهم على طبق من ذهب السكين التي يشوهون بها صورة الاسلام والمسلمين الى أقصى ما يتمكنون منه، وها هي السكين تُشحذ بفعل جرائم داعش وأخواتها، وهذا يأتي منسجما مع الضرر الجسيم الذي يصيب الأمة أساساً من الإرهاب التكفيري، وهنا تتضح دورة التخادم القائمة بينه وبين المتربصين بالإسلام والمسلمين..! والأنكى انه في خضم كل ذلك تضيع حقيقة عززتها الأحداث والقرائن، بأن ذات التطرف الغربي، والذي تدعمه تيارات يمينية متطرفة تمسك بزمام الحكم في كثير من الحكومات الغربية قد ساهمت بطريقة ما في نشأة ورعرعة وانتشار الارهاب التكفيري، رغم كل الضجيج المصطنع المعنون بـ"الحرب على الإرهاب".
ولم تسلم دول أوربية معروفة بعلاقتها المتزنة والسلمية مع العالم الاسلامي لوقت طويل من مكائد وسياسات بعض قواها السياسية المتطرفة، التي تتغذى على مخلّفات الارهاب الأصولي التكفيري القائم، وما يتبعه من تشويه فظيع لصورة الاسلام والمسلمين، ومن هذه الدول مملكة الدنمارك، اذ شهدت صعود اليمين المتطرف في المشهد السياسي العام منذ أحداث 11 سبتمبر 2011، حيث استغلها بحرفية عالية ومكّنه من أن يصبح شريكاً فاعلاً في الحكومة رغم انه لا يمثل سوى 8% من رقعة التمثيل السياسي آنذاك، ومنه "حزب الشعب الدنماركي" ذو الميول العنصرية، واستطاع هذا اليمين المتطرف أن يحقق شعبية لم يكن يتخيلها قبل هذه الأحداث، واستغل بأبشع ما يمكن ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، موجهاً نيرانه باتجاه الجالية الاسلامية في الدنمارك (يمثلون الأغلبية بين اللاجئين والمهاجرين والمتجنسين المتحدرين، كما يمثلون جميعهم نسبة 7.5% من نفوس المملكة البالغ عددهم 5.5 مليون نسمة)، وضد الإسلام كدين وعقيدة، وبلغ التصعيد أوجه حينما أفرز أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الأعظم (ص) في سبتمبر 2005، إثر نشر يومية "يولاند بوستن" الواسعة الانتشار 12 رسماً كاريكاتيرياً مسيئاً تحت يافطة "حرية التعبير"، واندلعت إثرها -كما هو معروف- موجة من السخط الاسلامي العام في أرجاء العالم، وصدّعت صورة الدنمارك في العالم الاسلامي، كما استغل التكفيريون الحادثة لتصعيد تطرفهم والاستعراض بأنهم (الأجدر) على الذود عن الاسلام وقدسية الرسول الأكرم (ص)، فكان حرق السفارتين والدنماركية النرويجية في دمشق، ومظاهرات عنيفة في بلدان عدة كانت تحمل بصمات الارهاب التكفيري لما خلفته من أعمال إجرامية وتخريبية كرسّت الصورة النمطية التي يرسمها التطرف الغربي للإسلام والمسلمين، وتجرعت الدنمارك الغصص المرة عقب نشر تلك الرسوم وما تبعها من خسائر اقتصادية جراء المقاطعة الاسلامية لبضائعها في بلدان عديدة، وظلت لفترة طويلة ترمم التصدعات في العلاقات مع العالم الاسلامي التي خلفتها الحادثة..
* * *
لارس هيديغارد مؤرخ وكاتب دنماركي، مُنح صفة (المفكر) في وسائل الإعلام الدنماركية لتكافئه بعد أن طفحت لديه لهجة العداء ضد الاسلام والمسلمين، وبعد أن تعرض لاعتداء من قبل أحد المسلمين الأتراك في كوبنهاغن في شباط 2013، إثر مواقفه وتصريحاته العدائية والمؤججة للكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وخرج من الاعتداء سالماً، ويصف الحادثة دائماً بأنها "محاولة قتل".. وكان هيديغارد يثير زوابعه المشابهة بين فينة وأخرى، والتي تُقابل دائماً بين القبول والرد في أوساط الدنماركيين، الذين تتوجس غالبيتهم من تكرار تجربة الرسوم المسيئة التي دفع ثمنها الباهظ المجتمع الدنماركي، كما يعتقد الكثير من الدنماركيين بأن بعض النخب تحاول استثمار ظاهرة (الاسلاموفوبيا) لتحصد الأضواء والشهرة ومكاسب شخصية على حساب السلم الأهلي أو تأجيج الصراعات مع العالم الاسلامي! اذ يكفي أن توجه (نقداً) عنيفاً وشاذاً لتتلاقفه وسائل الإعلام تلك وتصنع منه حدثاً ذا أهمية يتصدر الأخبار والنقاش العام!
لكن خطورة الأفكار المتطرفة تكمن في ان وسائل الإعلام الدنماركية تتبناها بطريقة ملتوية، وتحت ذريعة "حرية التعبير" التي تتماهى حدودها مع الوقاحة والاعتداء على حقوق الآخرين ومعتقداتهم ومقدساتهم، وتفتح الكثير من تلك الوسائل الإعلامية ذراعيها لعينات مثل هيديغارد وتنفخ في (آرائهم ومقولاتهم) وفق أجندات وتوقيتات غير بريئة (لو أحسنا الظن)، وكان هيديغارد قد أسّس في 2004 شركة "الصحافة الحرة" والتي انتسب اليها زملاؤه الذين يشاطرونه الأفكار المتطرفة، وقد وصفهم مدير تحرير صحيفة "البوليتيكن" قبل سنوات؛ "بأنهم مجموعة من المتعصبين الذين أساؤوا للشرف الصحفي"! علماً ان هناك موقف -نادر- من صحيفة سياسية جادة "برلينسك تيذَنه" حيث امتنعت في نوفمبر 2008 عن نشر مقالات هيديغارد "بعد أن تجاهل عدة طلبات من الإدارة للتخفيف من انتقاده للإسلام، والتي لا تنسجم مع السياسة التحريرية للصحيفة"!
وكانت محكمة دنماركية قضت بتغريم هيديغارد 5000 كرونة دنماركية كعقوبة لإطلاقه تصريحات مشينة وعنصرية ضد المسلمين في ديسمبر 2009 بقوله؛ "إن الفتيات المسلمات يتعرضن للاغتصاب من قبل أعمامهن، وأبناء أعمامهن، وآبائهن، وأنه إذا ما اغتصب مسلم مسلمة فإنه يصح منه ذلك.."! وجاء ذلك عقب إصداره كتاباً بعنوان "بنات محمد.. العنف والقتل والاغتصاب في بيت الإسلام"، متخم بالافتراءات الرخيصة ضد الإسلام وتعاليمه، ولا يعدو أن يكون منشور كراهية وضيع أكثر من كونه كتاب يمكن مناقشة محتواه..!
أما جديد هيديغارد فهو ركوبه موجة ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي غذتها حروب داعش وأخواتها الأخيرة، اذ ينوي ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية القادمة كمرشح مستقل! ويتلخص برنامجه الانتخابي في الضرب على وتر الهلع من "الخطر الاسلامي" وتوظيفه قدر المستطاع لاستدراج تأييد جمهور الناخبين، أما باقي القضايا الشائكة الداخلية التي ينتظر الدنماركيون إيجاد حل لها فهي تأتي في مراتب متدنية ومعالجات ساذجة من ذلك (البرنامج الانتخابي)، وهذا التقليد أصبح شائعاً في السنوات الأخيرة لمن يبحث عن أقصر الطرق لخطف الأضواء أو إشغال مقعد انتخابي! وأما المستهجن هو ما جاء ضمن برنامج هيديغارد المشار اليه بقوله؛ "من البديهي أن يسعى المسلمون إلى الانتقال إلى البلدان الأخرى بعد أن دمرت أيديولوجيتهم البلدان الخاصة بهم"! ويتبنى هنا بوضوح حكماً شمولياً ضد الاسلام بجرّة قلم، على خلفية ان الارهاب التكفيري قد تلفّع بشعارات إسلامية او تبنى أفكاراً سلفية شاذة! هذا وآزرته زميلته السويدية إينغريد كارلكفيست في مؤسسة "الصحافة الحرة" بقولها؛ "نرى الإسلام إيديولوجية شمولية تشكل تهديدا لطريقة حياتنا"!
ولكن في ذات الوقت، يمكن القول بأن هيديغارد قد أدان العالم الغربي برمته وفق القوالب وآلية التعميم الجاهزة التي يسوقها في أحكامه الشمولية، اذ يمكن اعتبار الصليب المعقوف في العلم النازي دلالة على (الايديولوجيا) المسيحية التي تقف وراء الارهاب النازي، الذي تئن البشرية من وطأة كوارثه حتى يومنا هذا..! ومثلما استهدف الارهاب النازي المسيحيين قبل غيرهم، كذلك استهدف الارهاب التكفيري المسلمين قبل غيرهم! أليس هذا منسجما مع المتبنيات تلك التي يسوقها هيديغارد وتعسفها الصارخ؟!
المقولة الأخيرة للمؤرخ الدنماركي تصب في عملية استثمار التطرف الغربي للمرحلة الراهنة الملتهبة التي دمغتها داعش وأخواتها بحروب التكفير الهمجية، وضمن توجه الاستثمار هذا؛ لا يتورع المتطرفون اليمينيون في الغرب بأن يدوسوا بأقدامهم على ادعاءات التسامح والحوار التي تبشّر بها دوائر الفكر الغربي المعاصر، ويتمسكون بشدة بنظرية التفوق الغربي (المادي والمعنوي) وتخطئة الآخر سلفاً، والتعميم في إطلاق الأحكام الجائرة والشائنة على مليار ونصف مسلم بجريرة اقترافات زمرة من الارهابيين، كما يسعون الى تكريس نظرية "صدام الحضارات" للمفكر الأميركي "صامويل هنتنجتون" وأفكار مواطنه "فرانسيس فوكوياما" التي ضمها كتابه المثير للجدل "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، والنظرية والأفكار المشار اليهما قد اعتنقها بشدة اليمين المتطرف الأميركي الذي حكم أميركا قبل ولاية أوباما، وما زال يحافظ على سطوته في رسم السياسة الأميركية.
* * *
ان المستنقع الذي تَعُبُّ منه السلفية الجهادية الوهابية، المنتجة للقاعدة وداعش ونظائرهما، هو خليط من صديد المنهج الإقصائي ونشر الكراهية وإلغاء الآخر، مسلماً كان هذا الآخر أو غيره، مع فكر متزمت ظلامي يدّعي احتكار الحقيقة، ولا يؤمن بالتعددية الفكرية أو الحوار ولا (المجادلة بالتي هي أحسن)، ويلجأ أتباعه الى تكريس متبنياتهم والسعي الى أهدافهم بتحكيم الحديد والنار كلما تهيّأت ظروف (مرحلة التمكين) التي صاغها الفكر السلفي، ووفق هذا الفهم الموبوء بالخراب والدمار الشامل، يمكن اعتبار تلك النظريات والأفكار والعقائد المنحرفة أخطر بكثير من إرهاب القاعدة وداعش، لأنها تتوافر على (دينامية) تجعلها قادرة على تخليق أجيال بعد أجيال من أولئك الارهابيين الذي يتبركون بجزّ الرقاب؛ ويتسلون بدحرجة رؤوس الضحايا بين أقدامهم!
انها النظريات والأفكار ومنهجية التعصب والكراهية التي تصنع القوالب الجاهزة لصبّ أدوات الارهاب والإرهابيين، وتدعو في أوج تطرفها الى إبادة الآخر (اذا ما تهيأت لها الظروف)، وهذه القوالب ليست حكراً على دين أو عرق، اذ يمكن أن يتبناها ويصوغها السلفي الوهابي، والمسيحي المتطرف، والبوذي المتطرف أو الهندوسي المتطرف هو الآخر! ولا يهم ان جاء من العالم الأول أو الثالث، فالأمر سيّان في عواقبه الكارثية..!
ان مواقف ومقولات هيديغارد المتطرفة، مع نظرته الشمولية للإسلام والمسلمين، لا تشذّ في مجموعها عن تشربها من مستنقع التطرف المقيت الذي سبق ذكره، مع فارق واحد، هو أن المتطرفين عندنا من دواعش وقاعديين قد طبقوا متبنياتهم عملياً، فاستعرت الحروب وسالت الدماء وحلّ الخراب، أما (منطق ومتبنيات) هيديغارد فربما تُراوح بانتظار (مرحلة التمكين)، التي لا يتمنى أحد أن يكون يوماً من جملة ضحاياها..
https://telegram.me/buratha