في عام 2003 حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم التاسع من ديسمبر يوماً عالمياً لمكافحة الفساد و"تشجيع الأوطان وشعوب العالم على الوقوف معاً ضد الفساد المحلي والعالمي".
وتحشيد الرأي العام العالمي ضد الفساد والمفسدين هو أمر في غاية الأهمية، وهو في الوقت ذاته محمود، وينبغي لجميع الدول مساندة مثل هكذا مشروع، بيد أن لي وقفة عند تحديد اليوم، فكان يترجح على من قاموا بتحديد هذا اليوم أن يأخذوا بنظر الاعتبار رمزية اليوم، وذلك بأن يكون يوماً لثورة إصلاحية أو انتفاضة قام بها أحد الأنبياء والمصلحين والثوار في شرق الأرض وغربها ضد الأوضاع الفاسدة في بلد ما؛ حتى يعطي زخماً عاطفياً ورمزياً لليوم.
فلو حُدِّد ميلاد السيد المسيح يوماً لمكافحة الفساد لم يكن ذلك مستغرباً؛ إذ إنه صدح بأعلى صوته مخاطباً وموبخاً المفسدين من علماء الشريعة المزيفين من فريسيين وكتبة:(( الويل لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيون المراؤون ! فإنَّكم تؤدّون حتى عشور النعنع والشبثِّ والكمّون ، وقد أهملتم أهمَّ ما في الشريعة : العدل والرحمة والأمانة 0كان يجب أن تفعلوا هذه ولا تغفلوا تلك ! أيُّها العميان ! الويل لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيون المراؤون ! فإنَّكم تنظفون الكأس من الخارج ، ولكنَّهما من الداخل ممتلئتان بما كسبتم بالنهب والطمع ! أيُّها الفرِّيسي الأعمى نظِّف أوَّلاً داخل الكأس ليصير خارجها أيضاً نظيفاً ! )) وقال يذمُّ رؤساء الشريعة ( اليهود) : (( يلتهمون بيوت الأرامل ، ويتذرعون بإطالة الصلوات ، هؤلاء ستنزل بهم دينونة أقسى )) وعندما دخل الهيكل ، طرد الباعة والصيارفة منه ، وعلَّمهم قائلاً(( أما كُتِب أنَّ بيتي للصلاة يُدعى عند جميع الأمم ؟ أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص )) وقال واصفاً رؤساء الشريعة : (( يحزمون أحمالاً ثقيلة لا تُطاق ، ويضعونها على أكتاف الناس ، ولكنَّهم لا يريدون أن يحركوها بطرف الإصبع )) 0هذه الثورة اليسوعية على متقمصي لباس الشريعة قد أثمرت ثمرتها وجعلت من الناس يثورون على التقاليد اليهودية البعيدة عن روح الشريعة ، فما كان من المفسدين إلا التربص به وصلبه ـ حسب الرواية الإنجيلية ـ محتسباً صابراً غير متضعضع ولا مستسلم لإرادة المستكبرين المفسدين، فهذا اليوم يستحقه بجدارة السيد المسيح .
وكذلك لو حُدِّد عاشوراء يوماً لذلك، فهو مناسب جداً، فقد كان يوماً للمعركة الخالدة ضد الفاسدين؛ ومن أجل الإصلاح، فقد قال(ع): (( لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح )) فخروجه ضد يزيد لم يكن من أجل عداوة شخصية أو أحقاد قبلية أو عائلية ـ كما توهم البعض ـ وليس من أجل مكاسب سياسية يريد من خلالها السلطة ولا طمعاً بمقدرات الأمة، ولم يخرج أشراً مفسداً ولا طالباً لحصول قلاقل في المجتمع الإسلامي ، إنما خرج لتقويم الاعوجاج واجتثاث الفساد من جذوره ، الفساد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وذلك لا يكون إلا بالانتفاضة والوقوف بوجه المفسدين لهدِّ أركان حكمهم وزلزلة الأرض من تحت أقدامهم .
وهكذا كانت مسيرة البشرية تحت أنظار المصلحين من الأنبياء والمرسلين ، فالله لم يرضَ للبشرية أن تتخذ جانب الصمت والسلبية تجاه الإفساد الذي يقوم به المجرمون ، فكون الإنسان صالحاً لا يمنحه بطاقة البراءة مما يحصل ، فإذا أراد الله سبحانه أن يهلك قوماً ما لإفسادهم في الأرض وتلاعبهم بالقيم المبادئ الإنسانية وارتكابهم شتى المفاسد كالتطفيف والغش والسرقة والقتل .... فإن الصالحين سوف يشملهم العذاب، فواجب الأمة أن تنبري للدفاع عن القيم النبيلة والوقوف بوجه الفساد ، قال الله تعالى (( وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون )) ولم يقل " صالحون " فصمام الأمان من الهلاك هو عملية الإصلاح ، ولا يُتصوَّر أن الهلاك يكون دائماً بشكل إعجازي ، أي ينزل الله صاعقة أو ريحاً صرصراً أو طوفاناً ، لا بل إن المفسدين يحملون معهم الظروف الموضوعية لهلاك أنفسهم ومجتمعهم، لذا من واجب المجتمع أن يقف بوجه الفساد والمفسدين مهما كلفه ذلك من ثمن، علماً أن عملية الإصلاح والأمر بالمعروف لا تقدم أجلاً ولا تحبس رزقاً كما هو مضمون القول المروي عن سيد الشهداء أبي الأحرار الحسين(ع)، بل الأمر كله والآجال كلها بيد الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، وله الأمر في الأولى والآخرة.
وفي هذه الأيام التي نعيش فيها مناسبة أربعينية الإمام الحسين، ينبغي توعية الزائرين والسائرين في هذه المسيرة المليونية الماشية نحو قبلة الأحرار بأهمية التحلي بالصفات الحميدة وأخلاقيات النزاهة التي كان يحملها الحسين(ع) ومكافحة الفساد المالي والإداري والسياسي والاجتماعي
https://telegram.me/buratha