تسعى الماكنة الإعلامية الأميركية ومعها الغربية الى تضبيب الحقائق أو التعتيم عليها فيما يخص الأرقام والإحصائيات التي توضح حجم الدمار والخراب الذي لحق ببلدان المنطقة وشعوبها المنكوبة، بمقدراتها وثرواتها ومواردها المادية والبشرية، والتي ما كانت لتصل الى هذا المآل الكارثي لولا عربدة الإدارة الأميركية وغطرستها وجنون العظمة الذي يلازمها، وإدمانها على استعباد الشعوب الإسلامية وترويضها وجعلها ضمن إقطاعيات الهيمنة الأميركية بشكل أو بآخر. بينما لا تتوانى تلك الماكنة الإعلامية عن إغراق المشهد بأخبار "الحرب على الإرهاب" و"جهود التحالف الدولي" و"المساهمات الأميركية والغربية" في "دحر الإرهاب"، والعبارة الأخيرة بالذات أضحت النكتة السمجة التي تشي بمفهومها المعاكس كلما ردّدها الإعلام الأميركي- الغربي أو الساسة الغربيين، لتهافت مزاعم هؤلاء واهتراء أقنعتهم التي استخدموها لحقبة من الزمن، واستطاعوا بواسطتها أن يحجبوا الحقائق، والتي أبرزها ان أميركا راعية للإرهاب المستوطن في منطقتنا بواقع الأدلة والقرائن والشواهد التي لا يدحضها الإنكار أو التنصل! ولقد ساند محور الإرهاب في المنطقة (قطر، السعودية، تركيا، الأردن واسرائيل) بوضوح المخطط الأميركي في السنوات الأخيرة.
أما عن وصفات الدمار والخراب والحرائق التي أعدتها أميركا لبلدان وشعوب المنطقة في مجملها فإنها مستنسخة ولكنها تتفاوت في بعض التفاصيل وفق "الضرورات المحلية"، حتى ان الحالتين السورية والعراقية قد أفصحت عن هذا الاستنساخ بشكل جلي، وبشكل أقل وضوحاً في الحالة الليبية والتي كانت مرشحة أن تُستنسخ أيضاً في مصر واليمن. لهذا حينما يتم الحديث عن الوضع السوري -مثلا- وتحديداً عن مرحلة ما بعد صمت الرصاص الدائم، ووقف مسلسل الدمار، لا يعني بالضرورة انه حديث يخص سوريا لوحدها بقدر ما هو حديث يشمل كل البلدان المستباحة إرهابيا، أو التي طالتها خطط "التحول الديمقراطي والربيع العربي"، أو بعبارة أخرى تلك المشمولة بالتمارين أو التطبيقات العملية لـ"الفوضى الخلاقة" والشرق الأوسط الجديد.. وهذه البلدان ستقف -بعد الرصاصة الأخيرة للحرب الدائرة- على أطلال مشهد كارثي لا مفر منه؛ يجعلها تخوض حرباً من نوع آخر لها تحدياتها واستحقاقاتها تدعى "إعادة الإعمار"!
ويمكن القول ان الحالة السورية في ظرفها الراهن وبحجم الدمار الهائل وأعداد الضحايا وأبعاد المأساة الإنسانية المقترنة بها (والتي توافرت الكثير من الإحصائيات الدولية المتخصصة والرسمية السورية بشأنها) تساعد على تسليط الضوء على البعد الكارثي للعدوان الإرهابي التكفيري القائم في سوريا والعراق، بواقع أن سوريا شكلت نواة الحرب بإطارها الحالي ومنطقة الاستقواء الإرهابي الذي أمتد بشكل متوقع الى العراق بتواطؤ أميركي- غربي وبمساندة محور الإرهاب السالف ذكره..!
ان بشاعة المحرقة السورية قد طالت كامل البنية التحتية وضربت الاقتصاد السوري في الصميم وشلّت عجلة الإنتاج وخصوصاً في الشق الزراعي الذي يُعد الشريان الاقتصادي الأهم، وأصاب هذا الشلل أيضاً السياحة التي تشكل أحد أعمدة الاقتصاد، ناهيك عن المأساة الإنسانية وأعداد الضحايا، وملف اللاجئين والنازحين الذي لا يمكن لسوريا وهي تخوض الحرب أن تنهض لوحدها بعبء هذه الملفات بعيداً عن "المساهمات" الدولية، وإزاء كل ذلك تكتفي الإدارة الأميركية وحلفاؤها الغربيون بتحميل "النظام السوري" مسؤولية هذه الكوارث، وكأنهما فوق الشبهات بخصوص تورطهما في إشعال هذا الحريق منذ الشرارة الأولى، وما زالا منهمكين بالحديث فقط عن تدريب "المعارضة السورية المعتدلة" و"تطوير الخطط للإطاحة بالنظام"!
وحسب إحصائية جديدة أصدرتها مؤخراً "فاليري أموس" مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فان "الأزمة السورية قد سببت حتى الآن بمقتل 200 ألفا وجرح نحو المليون، ومغادرة نصف سكان البلاد منازلهم، وهروب نحو أكثر من 3.5 مليون إلى الخارج"، ويتوزع اللاجئون على بلدان الجوار، كلبنان والأردن وتركيا والعراق (حصة العراق 232 ألف لاجئ). أما تعداد النازحين فلقد بلغ وفق أحدث الإحصائيات حوالي 6 ملايين و800 ألف نازح (تعداد السوريين 22.5 مليون وفق تقديرات 2013).
كما صرّحت "ماريا كاليفيس" مديرة "اليونيسيف" الإقليمية، بأنه "في نهاية عام 2015، ستكون حياة أكثر من 8.6 ملايين طفل قد مُزّقت بفعل العنف والتهجير القسري في المنطقة". كما لفتت إلى "أن 5.5 مليون طفل سوري تأثروا بسبب الحرب الأهلية بفقدهم أرواحهم وأطرافهم وآبائهم ومعلميهم ومدارسهم ومنازلهم وجميع جوانب طفولتهم تقريبا، منهم 4.3 ملايين طفل داخل سوريا و1.2 مليون طفل لاجئ"!
أما على صعيد الخسائر المادية والدمار الاقتصادي، فبحسب التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، فإن الاقتصاد السوري خسر حتى النصف الثاني من عام 2013 ما مجموعه 103 مليارات دولار. أما متوسط الأجر فإنه لم يعد يكفي حاجات المواطن الدنيا من المواد الأساسية. فالاستهلاك الخاص انكمش بنسبة 25.3% مقارنة مع عام 2011، كما نشرت "منظمة الغذاء العالمية" في الأمم المتحدة في تقريرها الأخير؛ "أن أربعة ملايين سوري غير قادرين على تأمين حاجاتهم الغذائية، وحوالي 9.6 ملايين يحتاجون إلى مساعدة. إضافة إلى أن 6.7 ملايين شخص انضمّوا إلى قائمة الفقراء في الربع الأول من عام 2013، منهم 3.6 ملايين نسمة من الأشخاص في فقر مدقع".
وذكر تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا "إسكوا" بأن نمو الناتج المحلي السوري تراجع 28% منذ 2012، في حين بلغت نسبة التضخم 90%، وتراجعت الصادرات 95% والواردات 93% بين عامي 2011 و2013، ووصل الدَّين المحلي السوري إلى 88% في 2013، يُتوقع أن يتجاوز 97% من الناتج في 2015، أما الدَّين الخارجي فبلغ 17% ويُتوقع أن يصل إلى 100% من حجم الناتج في 2015. وحسب تقرير للمصرف المركزي السوري فأنّ معدل التضخم يتراوح بين 47%ــ51%، وإن تكاليف المواد الأساسية والغذائية ارتفعت عن أسعارها قبل الأزمة بنسبة تقارب 300%.
ووفق تقديرات "إسكوا" فإن الخسائر الإجمالية للنزاع السوري بلغت 140 مليار دولار، حصة القطاع الخاص منها 69% مقابل 31% للقطاع العام. كما بلغ عدد المساكن المتضررة جزئياً أو كلياً حوالي ثلاثة ملايين مسكن.
فيما بلغ عدد المدارس المدمّرة بشكل كامل وجزئي 4072 مدرسة. وجرى تحويل 1500 مدرسة إلى ملاجئ و150 إلى مستشفيات ميدانية. في وقت قدرت فيه "منظمة الصحة العالمية" أن نصف الأطباء تقريباً قد غادر البلاد.
أما عن قطاع النفط، فلقد صرح وزير النفط السوري سليمان العباس بأن إنتاج النفط انخفض بنسبة 96% منذ بداية
الأزمة السورية (13 ألف برميل حالياً).
* * *
"الإعمار" بقفازات الجريمة..
مراوغة هي عبارة "إعادة الإعمار" التي تتناولها الأحاديث السياسية والتقارير الصحفية، وخصوصاً من الأميركيين وحلفائهم الغربيين الذين لهم الباع الطويل في جعل سوريا تتصدر أرقام الإحصائيات الكارثية منذ اشتعال الحريق السوري في آذار 2011، وتحول إثرها البلد الى أنقاض ومنطقة منكوبة.. وبواقع الأرقام والإحصائيات المأساوية للأزمة السورية والتي سلف ذكرها، يتوضح -الى حد ما- حجم الدمار البشري والمادي التي خلفته الأزمة، وضخامة المهام والجهود التي تتطلبها عملية "إعادة الإعمار"، بعد أن تتوفر البيئة السياسية المناسبة داخلياً، وهذه بحد ذاتها تحتاج الى إرادات ونوايا صادقة لا يشك أحد في تعسّر إيجادها عقب هكذا أزمات، مثلما أفصحت التجارب في المنطقة! وبالطبع لن يتوقع أي مطلّع بأن الميزانيات الضخمة لعملية إعادة الأعمار ستكون متاحة بسهولة من الميزانية المحلية، وهنا بالذات مربط الفرس، أي إكمال دورة الهيمنة والتبعية (وإن اقتصاديا) التي وضعتها أميركا وحلفاؤها نصب أعينهم حينما هندسوا معاً إشعال الحريق منذ البداية.. أي بلغة الأرقام، ستعجز الميزانية السورية -لوحدها- عن تحمل أعباء "إعادة الأعمار" بتكاليفها الباهظة وهي -الميزانية- قد أنهكتها فتكاً الأزمة المحتدمة منذ عدة سنوات، ولنكن أكثر تحديداً ودقة، اذ ذهبت تقديرات أطلقها "البنك الدولي" بأن تكلفة إعادة إعمار سوريا تصل الى نحو 200 مليار دولار فيما لو توقفت الحرب أواخر 2014!! وحتى هذه اللحظة لم تعط الإدارة الأميركية "الضوء الأخضر" لأية جهة دولية في الانتقال الى "الخطوات البحثية" العملية لموضوع إعادة الإعمار، فهو ملف ليس متاحاً لكل من يسيل لعابه، ولن تكون أميركا والحلفاء الغربيين أسخياء بهذا الملف منذ البداية وهم يمسكون بزمام اللعبة؛ بل سيتم تقسيم كعكة الإعمار في الغرف المغلقة وعلى طاولة تتقاسمها صقور الإدارة الأميركية والشركات العملاقة المرتبطة بمصالح حيوية، تمتد لتصل الى شركائها عبر الأطلنطي، في الغرب الأوربي، أي بعبارة أخرى، ستطل أذرع الإخطبوط الأميركي وحليفه الغربي في كل ملف له علاقة بعملية "إعادة الإعمار"، وهنا يأتي دور "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" حيث لا يخفى على المطلعين حجم الهيمنة التي تمارسها الإدارة الأميركية في قرارات هاتين المؤسستين، واللذان سيضعان الضوابط والشروط الصارمة، إضافة الى التدخل في رسم خطوط السياسات المالية والبرامج الاقتصادية والمعروفة بشدة وطأتها وتكبيلها الاقتصاد المحلي!
وفيما لو تمت مناقشة خطط الإعمار من قبل الولايات المتحدة وشركائها (من باب رفع العتب) فعلى المرء أن يغرف من بحر التفاؤل وليمتع خياله بجنة عدن التي سترسم صورتها التقارير والدراسات والبحوث، مثلما كان المشهد عن "إعادة الإعمار" إبان التغيير العراقي في 2003 او بُعيد تهديم ليبيا في فبراير 2011 (حقاً ماذا حلّ ببرامج إعادة إعمار ليبيا؟)..
لن تحيد هذه المرة أيضاً دورة إدارة الهيمنة الأميركية في المنطقة عن سابقتها، موظفة في ذلك إصرارها المرَضي في استغفال شعوب منطقتنا والرأي العام الدولي، بزعم محاربتها الإرهاب (وهي راعيته الحقيقية) وتساهم في إعمار البلدان (التي دمرتها بآلتها التدميرية أو عبر وكلائها الإرهابيين)، وكأن على الشعوب أن تصدق تلك المزاعم مرغمة، وإلاّ فاستنساخ داعش أو القاعدة أو النصرة ليس مستحيلاً بوجود محور مساعد في المنطقة هو محور الإرهاب.
لقد تسربت في الآونة الأخيرة بعض تفاصيل لقاء في واشنطن جمع مؤخراً ممثلين عن "الإئتلاف الوطني السوري" المعارض ومسؤولين من الإدارة الأميركية معنيين بالملف السوري، ودار الحديث حول تقديرات "البنك الدولي" التي ذكرت بأن ميزانية "إعادة الإعمار" بحاجة الى 200 مليار دولار فيما لو توقفت الحرب للتو في سوريا، وباستحالة إمكانية تهيئة هذه المبالغ حتى بفرض وجود "مساهمات غربية"، علماً ان الموارد السورية عاجزة تماماً عن هذه الإمكانية، فكان جواب المسؤولين الأميركيين، بأنهم يتفهمون هذه الهواجس والمخاوف، وينصحون بتبني مشروع تقسيم سوريا الى 3 دويلات (سنية وعلوية وكردية) أو أكثر، وحينها تكون المهمة أسهل، اذ ستتكفل كل دويلة بتهيئة الأموال اللازمة لـ"إعادة الإعمار" بطريقتها التي ترتئيها..! انتهى فحوى التسريب الخطير، ولم تنته المؤامرة الصهيو-أميركية بأدوات داعش ومشتقاتها، تلك المؤامرة التي تريد أن تتخذ حتى من ملف "إعادة الإعمار" ذريعة مستساغة ووصفة جاهزة لتقسيم البلد الواحد الى دويلات، خدمةً للمشروع الصهيوني الذي يجري تنفيذه بفضل "الفوضى الخلاقة" القائمة على قدم وساق..
https://telegram.me/buratha