مرة أخرى يثبت الغرب بأنه مستعد لإبتلاع كل شعاراته و"قيمه الحضارية" التي يتشدق ويبشّر بها، يبتلعها عند أول اختبار حقيقي وتطبيق عملي لها! وجاءت هجمتا باريس الأخيرتان، وأبرزهما الهجوم الإرهابي على مقر مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة لتُمثلا ذروة الاختبار الحقيقي، الذي كشف بجلاء عن مدى هشاشة تلك المقولات والشعارات الغربية المنمقة التي سوّق الغرب لها -وما زال- بماكينته الإعلامية، جنباً الى جنب ساسته وغالبية مفكّريه ومنظّريه مع أصحاب القرار! وأوحت أجواء المشهد الغربي بُعيد هجمتي باريس بأن المسرح كان مُعدّاً سلفاً للإجهاز بكل شراسة وابتذال على الدين الإسلامي ومقدساته التي تمثلت بمقام النبي الأكرم (ص)، والافتراء على أكثر من 1.5 مليار مسلم وكأنهم يشكلون مجتمعين تنظيماً إرهابياً كبيراً يهدد البشرية! ولم تشفع لمسلمي العالم إدانتهم المستمرة (وبغالبيتهم العظمى) للإرهاب بكل أشكاله، وخصوصاً الإرهاب التكفيري، كما لم يصحح الصورة على مدى العقود الأخيرة بأن المسلمين هم أول المنكوبين من هذا الإرهاب الهمجي وأول من دفع الأثمان الخرافية، عبر تدمير أوطانهم وتشريد الملايين منهم، وخلق الاضطرابات وضرب السلم الأهلي لعقود وإيقاف عجلة النمو في معظم بلدانهم، وخضوعهم التعسفي لإملاءات الهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة. كما لم يشفع للمسلمين انهم أبرز من يسدد أثمان مواجهة الارهاب التكفيري بدمائهم ومقدراتهم ومن عافية أوطانهم، رغم ان هذا الإرهاب ما كان له أن يولد ويستفحل خطره دون تخطيط ودعم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وأضحت المقارنة مبتذلة هي الأخرى بين حجم الضرر والأذى الذي يتلقاه الغرب من الإرهاب التكفيري وبين ما يقاسيه ويكابده المسلمون قاطبة في أوطانهم، ولو قارنا هجمتي باريس الأخيرتين مع العمليات الارهابية اليومية في ميادين الحروب الملتهبة في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وباكستان واليمن فإنها تكاد لا تُذكر، وهذا ليس استخفافاً -البتة- بأي قطرة دم يريقها الإرهاب في أية بقعة في العالم، بقدر ما هو مقاربة لكشف الحساب الذي ينبغي أن يَرُدّ على التهويل الذي صاحب عمليتي باريس، وكأن كل جرائم الإرهاب في عالمنا الإسلامي بكفة، ورصاصات الجريمة التي أطلقها "الشقيقان كواشي" وثالثهم "كوليبالي" في كفة أخرى..!
لقد أماطت عمليتا باريس اللثام عن الشوفينية المستترة التي يتعَبّد بها الغرب "المتحضّر" والذي يبرع بإخفائها بالمساحيق الإعلامية المتمرس فيها، وطفحت معها ازدواجية المعايير لدى تناوله للضحايا الـ 17 (أحدهم مسلم فرنسي)، حتى وصل الأمر أن يتصدر صحيفة "لوموند" الباريسية الأشهر عنوان رئيسي عقب الجريمتين يصفهما بـ"11 سبتمبر الفرنسية"! وبالطبع لا "لوموند" ولا الإعلام الغربي ولا الساسة هناك قد هزّتهم من قبل (بهذا القدر والتهويل) عشرات آلاف ضحايا الإرهاب في معظم البلدان الإسلامية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، وحتى الأمس القريب مرت المذبحة التي اقترفتها ذئاب "طالبان" الباكستانية في مدرسة ببيشاور والتي أسفرت عن مقتل 150 مدنياً معظمهم تلاميذ على مقاعد الدراسة، مرّت مرور الكرام في الذاكرة الغربية ولم تصفها "لوموند" بأنها "11 سبتمبر الباكستانية"، لأن الضحايا هناك أرقام مجردة في المعايير الغربية التي تجسدت ملامحها بشدة بُعيد هجمتي باريس! وطبعاً لن نشير الى آلاف ضحايا الحروب الهمجية التي تشنها إسرائيل على غزة ولبنان، لأنها في عُرف الغرب ومعسكر "شارلي إيبدو" ليست إرهاباً؛ بل "دفاعاً عن النفس" يشنه "جيش الدفاع" في إسرائيل!
ولم يكن هذا التهويل الغربي الواضح في تبعات الجريمتين مجرد تعبير عفوي بقدر ما هو تمهيد مدروس للتصعيد ضد العالم الإسلامي من بوابة الهجوم على القيم الإسلامية والنيل من حرمة الرسول الأكرم (ص) عن عمد ومع سبق الإصرار، ولم تنفع هذه المرة ذريعة "حرية التعبير" في التغطية على هذا العدوان السافر؛ بل أضحى معادلاً موضوعياً استشعر الغرب انه لا مناص من تفعيله في هذه اللحظات الحساسة والخطيرة التي يمر بها المناخ الدولي! واستغلت الأروقة السياسية الغربية، يقودها علانية هذه المرة تيار اليمين المتطرف ومتبوعاً بالماكينة الإعلامية المتحفزة، التعاطف الدولي لتوظفه في توجيه دفة ردود الأفعال ضد الإسلام والمسلمين بضراوة وبشاعة غير مسبوقتين، وكأن المطلوب هو الرد على الإرهاب بآخر لا يقل بشاعة، لكنه يشن عدواناً على الحقائق، ويصوب أسلحته نحو المنظومة القيمية لأكثر من 1.5 مليار مسلم، ويتمادى في ازدراء الدين الإسلامي، وينال بسخرية من رمز الإسلام المقدس الرسول الأكرم (ص)، ليخلص الى نتيجة مؤداها المساواة بين الإسلام والإرهاب، وبالتالي يكون ذلك تمهيداً (بأدوات ناعمة) للقبول باستهداف المسلمين حتى بقوة السلاح! ويصطف كل الغرب الأوربي وحليفته الولايات المتحدة في معسكر واحد وراء ما يصفونه بـ"حرية التعبير" كأقدس ما أنتجته "القيم الغربية"، على انها تعرضت الى اعتداء إرهابي آثم، وما مسيرة باريس التي تصدرها عشرات الزعماء الغربيين سوى مصداق آخر على ذلك! ولذا كان الشعار "أنا شارلي" أو "كلنا شارلي" يحمل في طياته الكثير من الحوامل الغربية المستترة الموجهة ضد العالم الإسلامي، أي "أنا مع حرية تحقير وازدراء الإسلام والمسلمين ونبيهم الأكرم (ص)، بتعدد الوسائل وبلا خطوط حمراء تقف عندها هذه الحرية، لتحقيق أهداف أبعد من حرية النشر والتعبير"! والأهم لدى هذا المعسكر هو هذا التحشيد الملفت في هذه المناخات الدولية، كسمة مواربة للاستقطابات الحادة التي أفرزتها سياسات اليمين المتطرف في الغرب خلال العقدين الأخيرين، وما نجم عن هذه السياسات من كوارث دولية ونزاعات وتوترات وجروح فاغرة حتى اللحظة! ولا يوهمنا معسكر "أنا شارلي" بأنه توخى من خلال مقولاته وتحركاته تحصين الحريات الغربية -صِرفاً- وعلى رأسها "حرية التعبير"، لأنه في الأساس لا يملك أية أدوات إقناع حقيقية بأن هذه الحريات هي بهذه الهشاشة التي تهددها رصاصات ثلاثة إرهابيين لا غير، ولا يمكن اختصار هذه الحريات بوسعتها في اجتهادات ومتبنيات فريق القائمين على "شارلي أيبدو" حصراً، مع ان قطاع لا بأس به من النخب الغربية المعتدلة لم تكن مؤيدة لتلك المتبنيات، واعتبرتها تمثل "رأي المجلة" وليست آراء العالم الغربي برمته!! وذات "حرية التعبير" المتباكى عليها والتي يُراد منها أن تكون "حصان طروادة" المستحدث للإغارة على العالم الإسلامي (وإنْ معنوياً)، يَخضعها الغرب الى معايير مزدوجة صارخة، والكل يعلم ما قد يحصل لمن "يتجرأ" ويشكك فقط بـ"الهولوكوست" مثلاً؛ اذ تم سنّ قانون في فرنسا "معقل الحريات" يُجرّم من يشكك فقط بـ"الهولوكوست"، وقد عُدّ القانون وصمة عار في تاريخ التشريعات الفرنسية وتشدقها بإحترام الحريات الشخصية! وليس خافياً ما تعرض له المفكر الفرنسي المسلم "روجيه غارودي" حينما شكك فقط بـ"الهولوكوست"، وكيف تم التشنيع عليه من الغرب عامة وفرنسا بلده خاصة، حيث أدانته محكمة فرنسية بتهمة التشكيك بـ"الهولوكوست" عام 1998! واليوم طال هذا التشنيع والاعتقال أحد أشهر فناني فرنسا الساخرين (مصادفة جيدة للتذكير بسخرية شارلي إيبدو) هو الفنان "ديودوني" الذي عبّر عن رأيه عقب هجمتي باريس بالقول: "أشعر أنني شارلي كوليبالي"، و" كوليبالي" هو الفرنسي ذو الأصل السنغالي منفذ الهجوم على المتجر الباريسي، وكان مصير الفنان ان اعتقلته السلطات الفرنسية عقب تصريحه السالف، واعتبرته متهماً بـ "الإشادة بالإرهاب"، رغم انه قد شارك في المسيرة "المليونية" التي نظمت في باريس تضامنا مع ضحايا الهجوم على "شارلي إيبدو"، وفي رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة الفرنسية طالب بـ"أن تشمله حرية التعبير هو أيضا في فرنسا"! هكذا يميز الغرب معيار "حرية التعبير" لدى " ديودوني" عن تلك التي تمارسها بفضاضة رسومات "شارلي إيبدو"، أي يمسك هذا الغرب بمزاجية طاغية بسكين التقطيع، ويصنّف على هواه ووفق مآربه معايير "حرية التعبير"، والأنكى انه يريد إرغام سكان الكوكب على الإيمان بما ينتقيه، رغم اختلاف ثقافاتهم ومتبنياتهم ومعتقداتهم، وبتعبير أدق يطالبهم بتبنيها رغماً عنهم (على الأقل فيما يخص العالم الإسلامي)!! وتشذ عن ذلك آراء لغربيين تنحاز الى صوت العقل؛ ويمكن القول انها مقموعة، أو لا مجال بأن تسود في المشهد الغربي لاعتبارات كثيرة ومعقدة. فمثلاً اتهم رئيس الوزراء الفرنسي السابق "دومينيك دو فليبان" عقيب هجمتي باريس، اتهم الغرب بصنع ما وصفه بـ"الإرهاب الإسلامي"، حيث قال في مقابلة متلفزة "إن تنظيم داعش هو الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية". كما طالب الغرب بـ"الوقوف أمام الحقيقة المؤلمة التي شاركوا بقوة في صنعها"، وقوبلت تصريحات "دو فليبان" بحملة استنكار شعواء من معسكر "شارلي إيبدو" لأنه يغرّد خارج السرب.
قبالة ذلك ينشط ذات المعسكر في رفد المساحة الملتهبة بين العالمين الإسلامي والغربي بكل ما يزيد من توسيع الهوة وتأجيج نار الكراهية، وما خطوة طباعة 5 ملايين نسخة من العدد الجديد لمجلة "شارلي إيبدو"، ونشرها الرسوم المسيئة للرسول الأكرم (ص) السابقة ومعها أخرى جديدة وبلغات عالمية متعددة سوى سلوك أحمق من تيار متطرف يريد أن يقابل حماقات الإرهاب التكفيري بحماقات لا تقل خطورة؛ بل وترفد ذلك الإرهاب بما يتمناه وينتظره من تزايد التوترات واتساع فرص الاحتقان. فهل غير ذلك هو ما يغذي الإرهاب ويطيل في بقائه؟! وهل تم تحكيم العقل أساساً في خطوة النشر المذكورة، والموجهة ضد أكثر من 1.5 مليار مسلم عموماً، وما يقارب 8 ملايين مسلم في فرنسا خصوصاً، اكثر من 3 ملايين منهم يحملون الجنسية الفرنسية (وفق إحصائيات أخيرة شبه رسمية)؟! وأين احترام حقوق ومعتقدات الآخرين التي "يقدسها" الفرنسيون حسب زعمهم، ومعسكر "شارلي إيبدو" لا يتوانى عن تجاهل؛ بل وازدراء ملايين الفرنسيين المسلمين -على أقل تقدير- مع ان هؤلاء هم أول ضحايا الإرهاب التكفيري، بواقع انهم يتحملون أوزاره وهم براء منه؟! كما ان المسلمين يسارعون في كل مناسبة مماثلة لواقعة هجمتي باريس بالتنديد بالأعمال الإرهابية والتعاطف مع الضحايا وذويهم، ويعلنون براءتهم بكل وضوح مما ينسب للإسلام والمسلمين من ممارسات إرهابية، واثبتوا مراراً انهم جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي مع انهم يتعرضون للتمييز وسياسة الإقصاء والتهميش المنظمة بحق شبابهم وقواهم العاملة باعتراف حتى المنظمات الدولية!
ان خير من كرّس الصبيانية والشوفينية الأخيرة لمعسكر "شارلي إيبدو" بكلمات مختصرة هو "باتريك بيلو" أحد المحررين لدى مجلة "شارلي إيبدو" بوصفه للـ BBC الاعتداء على مقر المجلة بأنه: "كان هجوماً على أوروبا بأكملها وعلى الديمقراطية في كل مكان"! بالطبع لم يوضح لنا "بيلو" كيف ولماذا تمثل "شارلي إيبدو" فقط مفهوم "الديمقراطية في كل مكان"؟ ولمَ لا تمثلها أية وسيلة إعلامية أخرى تتعرض مكاتبها الى هجوم إرهابي في بغداد أو دمشق او بيروت او إسلام آباد أو كابل؟! ولماذا حينما يتعرض صحفي أو فنان فرنسي لاعتداء إرهابي فيجب أن يعني ذلك ان "الديمقراطية في كل مكان" قد تم استهدافها ونحرها، أما الصحفيون والفنانون المستهدفون (في عواصم كتلك التي تم ذكرها) فهم مجرد "أرقام ضحايا" لا غير؟! و"بيلو" هذا كثّف بعمق واختصار شديدين فهمه وفهم زملائه لـ"حرية الإساءة للأديان والمقدسات الدينية" في معرض إجابته على سؤال لنفس المحطة عما يعني له ذلك حيث أجاب: "يعني ببساطة أننا أحياء وأننا نقوم بعمل ثقافي"! الشطر الأول من الإجابة -هو عندي- كلام هلامي ورغوة معتادة، أما الشطر الثاني فهو عبارة عن "نشاط إرهابي ثقافي" يمثل رؤية أمثاله من الزملاء ومعسكر "شارلي إيبدو"، ولا بأس عندهم أن يشعل هذا "العمل الثقافي" فتيل الصراعات، ويرجعنا الى مربع الاحتقانات والحرائق والتوترات بين العالمين الإسلامي والغربي والتي صاحبت أزمة نشر الرسوم الدنماركية في سبتمبر 2005!
* * *
لم يلتفت أحد في الغرب "المتحضر" عقيب هجمتي باريس الى أن مقولة "تجفيف منابع الإرهاب" لا بد أن توازيها مساعٍ جادة لـ"تجفيف ذرائع الإرهاب"، ومن أبرز تلك الذرائع هي إهانة وازدراء مقدسات المسلمين مع سبق الإصرار، وعلى نطاق واسع ومباركة علنية من الغرب الذي لا ينفك يدعو المسلمين الى "التعقل والاعتدال ونبذ التطرف"!
لقد أوضحت هجمتا باريس مدى هشاشة وركاكة أُسس ما أصطلح عليه "حوار الحضارات" وفي شقّ منه "حوار الأديان" الذي اتخذ -في حقيقة الأمر- أشكالاً احتفالية في أغلب الأحيان في العقود الثلاثة المنصرمة، وقد أهال معسكر "شارلي إيبدو" التراب عليه اليوم بجدارة! كما تكشّف صعود تيار اليمين المتطرف الغربي مع تسيّد مقولاته في "صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" والتي آمن بها ويسير حثيثاً على خطاها، وكأن ما يدور في الكواليس الآن هو إدارة وتكثيف الضربات ضد العالم الإسلامي بأشكال شتى، تتعدى طحن أضلاعه عبر همجية الإرهاب التكفيري (الذي لا يمكن تبرئة الغرب بتاتاً من تهمة صناعته)، وهذه الأشكال تكرست بإثارة التوترات وتأجيج بؤر الصراع ونقاط الاصطدام مع الغرب الساعي للهيمنة بحوامل مهدتها العولمة و"النظام العالمي الجديد" وغياب تعدد الأقطاب فيه، والأهم أن يكون المسلمون مشروعاً للاستعباد، واذا استعصى ذلك، يتم التعامل معهم كفائض بشري ليس إلاّ، في ظل غياب دورهم الفاعل الذي ينبغي أن يشكلونه بإرادتهم ونهوضهم، والذي يجب أن ينسجم مع ثقلهم السكاني والثروات والمقدرات والأبعاد الجيوسياسية لبلدانهم!
https://telegram.me/buratha