لا يحق لمن يقف في مسرح الجريمة مدججاً بالأسلحة ويداه تقطران دماً، ورجلاه تغطسان في بركة من الدماء، وتتناثر من حوله جثث وأشلاء بشرية، بأن يطالب الآخرين بالأدلة التي تدينه وتتهمه متلبساً بالجرم المشهود! بينما العقل والمنطق يفرضان أن يفعل المتهم ما بوسعه لإثبات أدلة براءته -إن وُجدت أساساً- وليس العكس في الحالة المشار اليها!
أميركا هي المتهم الأول والمدان المتلبس بالجرم المشهود في كل ما يحدث من حولنا من حروب وصراعات وتوترات واحتقانات ومصائب، وهذا الفهم ليس تبسيطاً للأمور أو تسطيحاً للحقائق أو هروباً من الاستحقاقات كما يحلو للبعض أن يسميه أو يؤطره؛ بل هو يجاري الوقائع والمسلمات التي تدعمها أكداس من الوثائق والأدلة والشواهد والإثباتات والقرائن، اذ يكفي المرء أن يتطلع الى ما يحدث في العالم بأسره، ليتوصل بقليل من إعمال العقل وربط الأحداث بأن أميركا متورطة فيه بصورة أو بأخرى! من الصين الى شرق آسيا الى روسيا والبلطيق والدول الإسلامية والشرق الأوسط والدول الأفريقية وصولاً الى أميركا اللاتينية.
وأميركا لا تسمح لها غطرستها وطغيانها أن "تتنزّل" لتُبرّئ جانبها من إقترافاتها وجرائمها وتورطها الصارخ في الغليان الدولي، حيث تجد في ذلك ضعفاً يهز صورة جبروتها؛ بل تجاهر في وضح النهار بأيديولوجيتها المنقادة بمصالحها العابرة للقارات والقوانين والمواثيق الدولية والسيادات القائمة! أو تتبختر بنظريتها المدججة بالخراب والدمار و"نهاية التاريخ" وشقيقتيها "صدام الحضارات" و"الفوضى الخلاقة"، لتفصح بلسان أميركي مبين بأن العصر الأميركي قائم ومُفَعّل ومنتشٍ في حقبة "القطب الأوحد"، هذه الحقبة المشؤومة التي كلفت البشرية تضحيات هائلة ثمناً لها. وأبرز عناوين هذا العصر الأميركي (المتمدين والمتحضر والمدمقرط) هي سياسة "العصا لمن عصى" ولتذهب كل الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية الى الجحيم! حيث في عقيدة التجبّر الأميركي لا مكان سوى لمشيئة ساسة البيت الأبيض، وما على الآخرين سوى الرضوخ أو التسليم بهذا الواقع. وفي هذا الصدد يعلنها صراحة "هنري كيسنجر" ثعلب السياسة الأميركية؛ "على الولايات المتحدة وفي مواجهة الخيار بين فرض مشيئتها أو احترام حقوق الإنسان، (يجب) أن تختار فرض مشيئتها"!
* * *
لنبقَ في مدار منطقتنا، وفي راهننا الدامي والمتفجر والمثقل بالفجائع، ونسأل بلغة الجمر؛ متى كانت أميركا "بريئة" من كل ما حلّ وما يحلّ في منطقتنا المنكوبة، منذ اغتصاب فلسطين وزرع الغدة السرطانية "إسرائيل" الى حروبها وعدوانها المستمر، والتورط الأميركي في الحرب العراقية- الإيرانية ثم استدراج العراق الى غزو الكويت، تلاه حرب الخليج الثانية، فالحصار المحمّل على الشعب العراقي، والى حرب السقوط عام 2003، والذي حوّلته بجرّة قلم الى احتلال بعدما ابتلعت بجدارة كل شعاراتها قبيل السقوط في انها ستخوض "حرب تحرير" بغية "إرساء الديمقراطية في العراق"، وما جلبته لسوريا من ويلات وكوارث ووباء الإرهاب تحت ذات الشعار المهترئ؟!
ومتى كانت أميركا تحمل صك براءتها في ملف تأسيس تنظيم "القاعدة" في أفغانستان إبان الاحتلال السوفييتي، حينما عملت مختبرات الـ "CIA" على تخليق نطفة الإرهاب التكفيري وتفريخ واستنساخ "المجاهدين" لقتال الشيوعيين، وتوزيعهم فيما بعد على البلدان الإسلامية كـ"مجاهدين عائدين" ليتحولوا الى مشاريع انشطارية غير متوقفة حتى الساعة، حتى وصلت الأمور الى استفحال دور "داعش" و"جبهة النصرة" بواسطة الدعم والتبني المباشرين من أميركا وحلفائها الإقليميين والغربيين؟! وأية براءة مزعومة لأميركا حينما جعلت منطقة الشرق الأوسط برميل بارود -جاهز للانفجار- منذ عقود طويلة لتحقيق مآربها، وخنقت العالم الإسلامي بدوامة الأزمات على تنوعها، وجعلت الإسلام موصوماً بـ"الارهاب" والمسلمين قاطبة كتلة بشرية "إرهابية" يطاردهم شبح "الاسلاموفوبيا" في كل مكان؟!
لقد مهدت أميركا وبالاستعانة بمقدرات حلفائها الغربيين لجعل المسلمين "مسؤولين مباشرين" عن كل ما يقترفه الإرهاب التكفيري في الساحة العالمية، رغم أن المسلمين هم أول الضحايا والمنكوبين والمتضررين، حتى وصل الحال بأن تُستغل هجمتي باريس الأخيرتين (والتي نفذها ثلاثة إرهابيين فرنسيي الجنسية وذهب ضحيتها 17 قتيلاً) ليتم فتح النار على المسلمين جميعاً وإبرازهم كمدانين بالدرجة الأولى، وليس ثلاثة من الإرهابيين هم من قام بذلك، علماً بأن مثل تلكما الجريمتين تحدث يومياً في قلب العواصم والمدن الأوربية بتنوع الدوافع، ناهيك عن المدن الأميركية، ولم يتحول الأمر الى ضجة عالمية أو يتم تشبيه الحادثتين بـأحداث "11 سبتمبر 2001" كما شبهّت ذلك صحيفة "لوموند" الباريسية كعنوان رئيسي لها في اليوم التالي لأحداث باريس! اذاً، جرى الأمر وكأن أكثر من 1.5 مليار مسلم متهمون، رغم ان المسلمين كانوا سباقين الى إدانة جريمتي باريس وما سبقها من جرائم الإرهاب التكفيري في شتى بقاع العالم، وان الإرهابيين ومنظماتهم لا يمثلون شيئاً يذكر إزاء تعداد المسلمين، ولكنها نزعة التجريم بحق العالم الإسلامي التي يقودها الغرب بزعامة أميركا، لتحميل المسلمين تبعات المنتج الغربي -من الأساس- في زرع الحروب والتوترات لتحقيق مآرب شتى، منها تقزيم العالم الإسلامي ودوره دولياً، إضافة الى تصعيد سباق التسلح الذي يُنعش صناعة السلاح في أميركا والغرب، وتمهيد سبل الهيمنة والتزعّم ونهب ثروات الشعوب، ورسم السياسة الدولية بما يخدم مصالح أميركا والغرب، حتى لو تم تشويه كل حقائق التاريخ المعاصر لإبعاد التهمة والمسؤولية عنهما في أبرز الحروب والمجازر التي عانت منها البشرية في القرنين الماضيين، وهذا ما أوضحه "روجيه غارودي" المفكر الفرنسي الراحل بقوله؛ "علينا أن نعترف بأن أبشع المجازر في العالم كانت على أيدي الغربيين، الغرب مسؤول عن الحربين العالميتين، وعن معسكر (أوشفيتز) النازي، وعن هيروشيما معاً، والحقيقة ان (أصوليتنا) هي التي ولّدت الأصوليات الأخرى"!
* * *
جاءت أحداث العراق بعد 2003 لتكشف الدور الأميركي على حقيقته رغم محاولة التخفي وراء شعارات أميركية مستهلكة، كمساهمة أميركا في "تمكين العراق من بناء دولة الديمقراطية"، و"دعم العملية السياسية" القائمة، ولكن ما جرى وما أثبتته الوقائع هو العكس تماماً، أي عرقلة أميركية لكل جهد حقيقي يهدف الى توطيد العملية السياسية المستقلة عن الإملاءات الأميركية، ولم تكتف الإدارة الأميركية وصناع قرارها بذلك، بل عمدت عبر تدخلاتها المستمرة والفاضحة في الشأن الداخلي العراقي، مباشرة أو عبر أدواتها، الى ضرب التوازنات وفرض أسماء بعينها وترجيح مكونات سياسية وخلخلة اللحمة الوطنية، وتشويه التعايش وتصوير المكون السنّي على انه يعاني "الإقصاء والتهميش"، وهذا ما ذكره مراراً الرئيس أوباما نفسه، مما كان عاملاً فاعلاً في زرع الفتنة المذهبية، وقد ضخّ الإرهاب التكفيري بذريعة يتمناها لتبرير الإرهاب القائم! كما عمل الأميركيون على عرقلة خروج العراق من "البند السابع" لسنوات، وسعوا أيضاً الى خلق التوترات بين العراق والجوار الإقليمي، وكان التدخل ملموساً -وإن في الكواليس- في تكبيل العراق بعقود اقتصادية كبيرة أكبر من أكلافها الحقيقية لصالح الشركات الأميركية أو تلك المرتبطة بها، كما خدعت الإدارة الأميركية الحكومة العراقية وكبّلت برامجها التسليحية حينما أكرهتها على إبرام صفقات بمليارات الدولارات واستلمت نسبة كبيرة منها لكنها تلكأت حتى الساعة في تسليم تلك الأسلحة التي يحتاجها العراق في حربه ضد الإرهاب! أما عن التورط الأميركي في صناعة داعش ونظائره، فتشهد على ذلك اعترافات المسؤولين الأميركيين وتسريباتهم بأن زعيم داعش "أبو بكر البغدادي" كان قد تم إطلاق سراحه من معتقل "بوكا" الأميركي في العراق عام 2009 مع كونه إرهابي خطير آنذاك، واكتملت الصورة حينما مهّد الأميركيون لاستفحال أمر داعش بعد التدخل السافر في الشأن السوري أوائل عام 2011 وكيف تم دعم تنظيمات الإرهاب التكفيري (بمساندة محور الإرهاب، قطر والسعودية وتركيا والأردن وإسرائيل) وجعلها تتمدد في سوريا والعراق، لتعود أميركا وحلفها الدولي الى العراق والمنطقة كمنقذ على طريقة أفلام "جيمس بوند"، وأبرز من فضح ذلك في عبارة مختصرة مؤخراً عقب الهجوم على "شارلي إيبدو"، رئيس الوزراء الفرنسي السابق "دومينيك دو فليبان" قائلاً؛ "إن تنظيم داعش هو الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية"!
وشهد الجميع بهلوانيات الإدارة الأميركية في الحرب ضد داعش ومشتقاته، وكيف تُسوّف تهربها من تسليم الأسلحة المتطورة الى العراق، والتي أبرم صفقاتها منذ سنين! ويكتفي الدور الأميركي في الحرب الدائرة في المنطقة بالطلعات الجوية التي ليس لها من تأثير فاعل سوى في أبواق الإعلام الأميركي وحليفه الغربي، كما شهد الجميع ازدواجية المعايير الوقحة في التعامل مع الضحايا العراقيين ومناطقهم بانتقائية مذهبية وعرقية (مدروسة) لتفتيت اللحمة الوطنية في أحرج وأخطر الأوقات التي يحتاج العراقيون اليها في الحرب الدائرة.. نعم، يطول مقام تقديم الأدلة تلو الأخرى على تورط الدور الأميركي المشبوه في أحداث المنطقة وما يدور فيها من حرب إرهابية مع تداعياتها، مما يستدعي استحضار الأسئلة الممنوعة، التي حاول الأميركيون قلب صيغتها، فاليوم، ومع حجم التورط الأميركي الكبير في مسرح الجريمة، والذي لم يتمكن من حجبه ضجيج الإعلام الغربي أو مزاعم الأميركيين وحلفائهم، ينبغي أن يكون السؤال المعلن؛ أين هي أدلة "براءة" أميركا؟!
ومن أسف ان بعض أصحاب الأقلام أو السياسيين العراقيين يتجاهلون هذه الحقيقة، ويطالبون الآخرين بأن يستعرضوا أدلة "إدانة أميركا"..! أقول لهؤلاء؛ اعكسوا المطلب رجاءً، فالمطلوب دوماً أن تستعرض أميركا "أدلة براءتها" ليتسم الموضوع بالجدية المرتقبة!
https://telegram.me/buratha