يستدعي إطلاق سراح أحد عتاة ومنظّري الارهاب التكفيري في توقيت مأزوم ومشبوه تقليب الأوراق وتقصّي الحقائق وإعادة تركيب أجزاء المشهد! فما أقدمت عليه السلطات الأردنية بإطلاق سراح شيخ "السلفية الجهادية" المدعو "أبي محمد المقدسي" وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان داعش نبأ إعدام الطيار الأردني "معاذ الكساسبة" يثير الكثير من علامات الاستفهام المدببة، ويندرج كحلقة ضمن مسلسل توظيف الإرهاب لخدمة مصالح النظام الأردني المتعايش مع الارهاب الظلامي كمتصدر لواجهة الأحداث، فالنظام كان وما زال يُعتبر الظهير المعتمد للمشروع الصهيو- أميركي في منطقتنا المنكوبة والمستعرة. ومن لا يعرف "المقدسي" لا يمكنه أن يتلمس الشبهة في توقيت إطلاق سراحه الآن، واستدعائه لخدمة مرحلة فرضت وطأتها على النظام الأردني، الذي يحاول مستميتاً أن يقف على قدميه بعد أن أخذ يترنح بفعل ضربة إعدام طياره "معاذ" بتلك المشاهد البشعة التي دشّنها داعش بالصوت والصورة!
يتحدّر الأردني- الفلسطيني "المقدسي" ذو الـ 56 عاماً من قرية في نابلس (اسمه الحقيقي عاصم طاهر البرقاوي)، ويُعدّ من أبرز منظّري التيار "السلفي الجهادي" وكان "مسؤولاً شرعياً" في معسكرات تنظيم القاعدة في أفغانستان، كما التحق بجامعة الموصل في العراق، ودرس سنتين في كلية العلوم فيها، ثم تركها ليستقر في الكويت، وكان يراسل ويستفتي "الشيخ عبد العزيز بن باز" مفتي السعودية فيما بعد، ومنحه الأخير "تزكية" لدراسة "العلوم الشرعية" في المدينة المنورة في الثمانينات. عُرِف عنه تأثره الشديد بأفكار "سيد قطب"، وكان تطرفه المتأصل لديه قد قاده قبل ذلك الى الالتحاق بجماعة "جهيمان العتيبي"، وتأثر بعقيدتهم السلفية وتتلمذ على يد عدد من شيوخهم، وهي الجماعة التي تحصّن زعيمها وزمرة من أنصاره في المسجد الحرام في نوفمبر 1979 ولمدة أسبوعين، حيث طلب البيعة لصهره الذي كان معه على أنه "المهدي المنتظر"، وأنهت السلطات السعودية ذلك التحصّن بطريقة دموية. وكان "المقدسي" يمتدح الجماعة وزعيمها "جهيمان" في الكثير من كتاباته ومؤلفاته الحركية! ومعروف عن "المقدسي" غزارة كتاباته الحركية وتنظيره المستمر لـ"السلفية الجهادية" وألّف عدداً من الكتب تتناول ذلك، كما انه "يفتي" لهذا التيار بكثرة، ويعتبر نفسه "مرجعاً" أساسياً في هذا المضمار!
عاد "المقدسي" للأردن بعد تحرير الكويت، حيث اعتقل عام 1993 مع أحمد نزال الخلايلة "أبو مصعب الزرقاوي" وآخرين، وحُكم عليهم بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة الانتماء إلى تنظيم ما يعرف بـ "بيعة الإمام"، وخرج "المقدسي" و"الزرقاوي" و"جهاديون آخرون" من السجن عام 1999 إثر "عفو" أصدره الملك عبد الله الثاني في بداية عهده! وأعتبر الهالك "الزرقاوي" في بداية نشاطه أستاذه وشيخه "المقدسي" ملهماً له في "العمل الجهادي"! وتوالت اعتقالات "المقدسي" في الأردن عدة مرات، وذكر انه مكث في السجن حوالي 16 عاما في فترات متفاوتة، وأطلق سراحه في حزيران 2014، ثم أُعيد اعتقاله في أكتوبر من نفس العام على خلفية نشره رسالة على "منبر التوحيد والجهاد" بعنوان "مناصرة ومناصحة" هاجم فيها حرب التحالف الدولي ضد داعش، ودعا فيها تنظيميّ داعش و"جبهة النصرة" إلى التوحد لمواجهة التحالف! واللافت في مسيرة "المقدسي" انه لم يوّفر أية فرصة للتواصل مع شيوخ السلفية والتتلمذ على معتقداتهم، وكيف انه ارتشف الارهاب من معسكرات باكستان وأفغانستان، وتمرّس في التنظير لعشرات آلاف الارهابيين السلفيين، وأحياناً من "سجنه" الذي قضى فيه فترات لم يفتأ "يتواصل" مع مريديه وتلك المجاميع وكأنه يمكث بينهم، وكانت السلطات الأردنية لا تتحرج من هذه "التسهيلات"! ويكفي أن المجرم "الزرقاوي" والذي خاض في دماء العراقيين، والمجاهر بـ"فتاوى" إبادة الشيعة، كان يعتبر "المقدسي" أستاذه و"ملهمه" كما سلف! ناهيك عن انهماك الأخير في الدفاع عن داعش -كما ورد في عبارة سابقة- وهو في "السجن".. و"تنظيره" لتنظيمات "السلفية الجهادية" السادرة في إرهابها في الساحة السورية.
* * *
معلوم ان وحش الإرهاب يكون عصيّاً على الترويض في كل الأوقات والظروف، وهذا ما يُفسّر بأن هذا الوحش يحاول عادة "الخروج عن النص" والدور المرسوم له، وما حرْق الطيار "معاذ" من قبل وحوش داعش وبهذه المشهدية الشنيعة وغير "المألوفة" سوى محاولة أخرى لـ"الخروج عن النص". ولعل المصدوم الأول (مجازاً) هو النظام الأردني، الذي لم يتوقع أن يكون انقلاب سيناريو (الوحش) داعش بحجم هذا الدويّ والتمرد وكرة النار! واستدرك النظام محاولاً قدر الإمكان أن يقلل من صعقة مشاهد حرق "معاذ" على الشعب الأردني بعد حوالي شهر كامل يفصل بين اليوم المؤكد للإعدام (3 يناير 2015) ويوم نشر الشريط المصور (3 شباط 2015)، فهناك أخبار وتسريبات وهمهمات يتم تداولها بين الأردنيين بأن استخبارات النظام كانت على علمٍ تام بمقتل "معاذ" في الثالث من يناير ولكنها أخفت الخبر لسببين، الأول؛ لتمييع الصدمة الشعبية و"اتخاذ التدابير اللازمة" تحسباً لأي طارئ داخلي يقلب المعادلة القائمة! والثاني؛ كسب المزيد من الوقت لتوظيف المناورة التي ابتدأها داعش في موضوع المساومة على اطلاق سراح "معاذ" مقابل تسليم الأردن للإرهابية "ساجدة الريشاوي"! أما عن هواجس التكتم على الخبر الحقيقي والمبكر منذ أوائل يناير حول مقتل "معاذ" فكانت أسرة الطيار وعشيرته يأخذونها بجدية، وكانت تُترجم أحياناً الى تصريحات يطلقها والد الطيار مشيراً الى "التقصير الرسمي" في متابعة الملف، و"ان هناك أمور غامضة وغير مفهومة في القضية"، بل بلغ الأمر أن صعّد الوالد وتيرة هواجسه بأن صرّح (في تسجيل فيديو انتشر على النت) بأن الطيّارة الإماراتية "مريم المنصوري" هي من "قصفت طائرة معاذ أثناء تنفيذ مهمته الأخيرة، ولم تسقطها صواريخ داعش"! وتُرجم رد الفعل الإماراتي على هذا الاتهام بـ"زعل" رسمي وتهديد بإيقاف الطلعات الجوية الإماراتية ضمن أنشطة غارات التحالف! أما لماذا لم يفصح الأب أكثر حول الموضوع، فربما لخشيته من تجاوز الخطوط الحمراء! وقد صعّد المتعاطفون مع "معاذ" قبل نبأ الإعدام، في أن التحالف الدولي لم يأخذ الأمر بـ"جدية" ولم يَقدِم على أية خطوات تنّم عن حرص على حياة "معاذ"! وتسربت بين المواطنين عدة تفسيرات لأسباب قصف طائرة "معاذ" حسبما زعم والده، أكثرها تداولاً هو إبلاغ "معاذ" وأثناء تنفيذ مهمته الأخيرة عن مشاهدته لطائرة من التحالف تلقي بشحنات كبيرة فوق المناطق التي يسيطر عليها داعش! ويسهب هذا التفسير في ربط مصير الطيار "معاذ" بالمعلومة التي بلّغ عنها، ومن ثم تسجيل الحادثة على انها بسبب "خلل فني" وإدّعاء داعش على انه أصاب الطائرة بنيرانه!
قرأ النظام الأردني خطورة الموقف بعد التداعيات السريعة لنبأ حرق الطيار "معاذ"، وكانت خطوات النظام حثيثة ومتسارعة ومدروسة لامتصاص التوتر الذي طبع المشهد الأردني وتدارُك ما يمكن تداركه، وما قطع زيارة الملك لأميركا عائداً لبلاده، وزيارته مجلس عزاء "معاذ" الذي أقامته أسرته، وتسخين الخطاب الرسمي بـ"الثأر والانتقام" للطيار القتيل، إضافة الى الإعلان عن غارات جوية نفذتها المقاتلات الأردنية ضد مواقع داعش ومراكز "قياداته" سوى تكريس لخطوات امتصاص التوتر! ولكن الكل يعلم أيضا ان هذا الضربات ومئات قبلها لم ولن تحسم المعركة باعتراف قادة التحالف، وستكون جرعة تسكين ليس إلاّ. أما الشارع الأردني فكان يردد بأنه ليس مع "توريط" الأردن في الحرب على داعش من البداية، لاعتقاده انها "ليست حربه"! لكن النظام الأردني كان يذهب بعيداً جداً عن هذا التوجه، مما يجعله متوجساً و"حسّاساً" من أي تململ له ارتباط بموضوع توريط الأردن بهذه الحرب!
لكن الملفت هو إقدام السلطات الأردنية على إطلاق سراح "أبي محمد المقدسي" في هذا التوقيت المشبوه والحساس، وقد سارع الأخير لفك ألغاز هذه الخطوة عبر تصريحاته للإعلام عقب إطلاق سراحه مباشرة، بأنه كان "يدير مفاوضات" مع داعش من سجنه في محاولة لإطلاق سراح الطيار، وانه استخدم كل "تأثيره وعلاقاته مع الجهاديين في بلدان عدة ليؤثروا على قادة داعش ويقنعوهم بـ(فك أسر) الطيار"! وفي مقابلة تلفزيونية مع قناة "رؤيا" الأردنية بعد الإفراج عنه، ذكر "المقدسي"؛ انه "حاول الاتصال مع التنظيم والتواصل مع (العقلاء) منهم في سبيل تحقيق (مصلحة شرعية) وهي مبادلة الطيار الكساسبة مع ساجدة الريشاوي"! وأضاف أيضاً بأنه "تواصل مع أشخاص نافذين في التنظيم، أبرزهم أبو محمد العدناني، وقام بمراسلة زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي خلال رسائل صوتية، إلا أنهم (أصموا آذانهم) عن تلك المناشدات والطلبات، ولم يكترثوا لساجدة الريشاوي ومصيرها"!
ويمكن هنا أن تحمل خطوة "الإفراج" عن "المقدسي" دلالات كثيرة أهمها:
1- تهافت إدّعاء السلطات بأن خطوتها الأخيرة تهدف الى تغليب صوت " التيار السلفي الجهادي المعتدل" على صوت "التيار السلفي الراديكالي"، ولم توضح بدورها كيف تحول الإرهابي "المقدسي" من أقصى التشدد الى أقصى "الاعتدال"؟! بينما الثابت هو ان "المقدسي" كباقي عتاة الإرهابيين، يمكنه أن يبدل جلده حسب الظروف، والمذكور اشتهر -بالذات- بتقلباته وتكيّفه مع الواقع الذي يخدمه. فمن يضمن انه "تاب" واعتنق "الاعتدال" وهو يوزع برامجه لـ" المناصرة والمناصحة" بمجانية مبتذلة على أقرانه من معتنقي "إدارة التوحش" الداعشية! ثم ألم يسبقه "أبو بكر البغدادي" بأن تم "الإفراج" عنه من معتقل "بوكا" الأميركي في العراق عام 2009 ليمضي في مخطط تدعيم أركان داعش كبديل عن التنظيمات التكفيرية المترهلة والمتصدعة بفعل أسباب كثيرة، وكان ما كان من هذا "المُفرج عنه"؟!
وكم هو مفضوح ومضحك تصريح وزير الإعلام الأسبق "سميح المعايطة" عقب خطوة "الإفراج" بقوله: "أن السلطات تريد أن تستخدم (التيار السلفي الجهادي المعتدل) فكرياً ضد تنظيم داعش وخلق انشقاقات داخلية بين صفوفه"؟! فهل من يهدف الى إنجاح خطة خطيرة "مبيّتة" ومن عيار "إحداث انشقاق" ثم يعلنها هكذا على الملأ منذ اللحظات الأولى، ألا يُبطل مفعولها هذا التصريح على أقل تقدير، لا فقط تصبح مادة للتندر؟!
ان ذريعة تدعيم "الاعتدال" في هذا الملف بالذات خطوة سقيمة وبائسة، ولن يمكن اعتبارها استخدام طفولي لـ"الضد النوعي"، لأن تنظيم داعش يمر اليوم بمرحلة "التمكين" وقد أغلق بالكونكريت كل مساحة أو فرصة للنقاش الفكري أو العقائدي؛ بل ويعيش نشوة "الخلافة" وغرور القوة، ويتأبط عقيدة "إدارة التوحش" بحذافيرها. أما خطوة الاستعانة بإرهابي كالـ"المقدسي" لا تعني سوى بأن نسخة من الإرهاب "الأكثر ترويضاً" يمكن أن تكون بديلاً سريعاً و"معقولاً" عن داعش، كإجراء يعتزم المتواطئون تنفيذه!
2- تحمل خطوة "الإفراج" خشية السلطات الأردنية من إثارة حفيظة الدواعش و"أنصارهم السلفيين" في الأردن، وكأنها رسالة "تطمين" الى هؤلاء، وان السلطات لا تستهدفهم في "الانتقام" للطيار "معاذ"، بل تستهدف فقط من أحرقوا الطيار ابن المؤسسة الرسمية! وان ما يحصل لا يتعدى كونه "عمل جراحي" لا غير!
تجدر الإشارة الى ان مصادر استخبارية غربية أكدت انضمام أكثر من 3000 أردني "سلفي جهادي" الى صفوف داعش و"النصرة" منذ بدء الأحداث السورية مطلع 2011، وان هؤلاء يمثلون ثالث أكبر المجاميع الملتحقة بالتنظيمين بعد السعوديين والتونسيين!
3- أفصحت خطوة "الإفراج" الأخيرة عن عمق تورط السلطات الأردنية في ترتيب أوضاعها مع الإرهاب التكفيري، فتلجأ في هذه الظروف الحساسة الى ذات الإرهاب، والى رمز من أعتى رموزه لـيكون طرفاً في "حلّ" الوضع المتأزم؟! ألا يدل هذا على أن هذه السلطات لم تتوانَ يوماً في استخدام الإرهاب والإرهابيين لتثبيت أركانها والحفاظ على مصالحها، لا فرق ان كان هذا الإرهاب يصب يوماً لمصلحة داعش، أو لمصلحة أقرانهم "المعتدلين" في يوم آخر، مادامت المصالح سيدة الموقف، وليذهب "معاذ" و"معاذات" آخرون حرقاً كثمن لإدامة هذا التورط الى آخره؛ بل وليحترق العراقيون والسوريون ما دامت السلطات الأردنية تنفذ بجدارة ما يطلبه الحلف الصهيو- أميركي منها!
https://telegram.me/buratha