لا تمنح الظروف والأحداث السياسية ذلك الوضوح المكثف دوماً، ليتم كشف حقيقة من يتبجحون بـ"دورهم" في "محاربة الإرهاب"، وبأنهم يسعون الى مساندة الشعوب والحكومات المتضررة من هذا الإرهاب البربري بنسخته التكفيرية الداعشية! ويمكن القول ان لحظة الوضوح تلك قد أزفت بفعل مآثر انتصارات القوات العسكرية والأمنية العراقية متلاحمة مع أبطال "الحشد الشعبي"، وبمؤازرة الأهالي وأبناء العشائر في محافظة صلاح الدين، والتي تدور على أرضها ملحمة تحريرها من دنس داعش وأعوانه، في ظل اندحار مخزٍ لقطعان الإرهاب الداعشي، الذي تعيش حالة من الانكسار المهين مما تربك تماسكها وتقرّب ساعة اندحارها الكامل.
في المقابل، تهشمت الأقنعة السعودية والأميركية لتكشف عن النوايا الطائفية المقيتة لدى السعوديين، واستثمار الشحن الطائفي من قبل الأميركيين، بوضوح غير مسبوق، ولا يحتمل التأويل! وهذا لم يكن خافياً على المراقبين وشرفاء العراقيين على مدى سنوات طويلة منصرمة. فمن بركات انتصارات العراقيين الأخيرة على برابرة داعش المدججين بالحقد الطائفي وبالفكر التكفيري الوهابي، انها قد أفرزت مشهداً واضحاً في السيرك السياسي الإقليمي والدولي، بحيث يبرز فيه من يتفحم غيضاً من الانتصار العراقي (بدون التحالف) ويجهد للتقليل من شأنه؛ بل وتصويره وبكل وقاحة بأنه "عدوان شيعي" على الدواعش والطائفيين، وانه تهديد للتعايش الأهلي في العراق! أليس هذا ما تسوقه السعودية والإدارة الأميركية في اللحظات المصيرية الحالية!
أصبح الآن مفهوماً حتى للمترددين بتقبل هذه الحقائق، بأن ذلك الرعب والهلع الذي أصاب السعوديين والأميركيين منذ بواكير الانتصارات التي رافقت عملية تحرير مناطق من محافظة صلاح الدين من دنس داعش، ينتصب بالضد من المزاعم والشعارات المعلنة للسعوديين والأميركيين في "دعم مساعي دحر الإرهاب"، كما يحمل رسالة جلية يسهل تفكيكها، وهي ان المحرك لهذه المواقف العدائية في مثل هذه التوقيتات، هو الهاجس الطائفي وربطه بتعقيدات علاقتهما بالملفات الإيرانية، حتى لو أسفر هذا الهاجس فهماً ومواقف يمكن أن تشمل قبول إبادة الشيعة على يد البعث الإجرامي أو التكفيريين بتنوعاتهم، على انه "إفراز للصراع على حكم العراق"!! بالمقابل تتم قراءة انتصارات الإرادة الشعبية المساندة للحكومة وبمؤازرة كل مكونات الشعب العراقي (ومنها الغالبية الشيعية) على انها "كارثة" ينبغي التصدي لها، والوقوف بالضد منها! هذا الهاجس أو الفهم هو سقم سياسي مدمر، أودى بالعراق الى منزلقات كارثية بفعل التآمر السعودي والخليجي منذ سقوط صنم بغداد في 2003، الذي كان يمثل في توجهاتهم وفهمهم السقيم "المكابح" التي تعيق "التطلعات الشيعية" والتي لم يكفِ لكبحها حربي الخليج (1980-1991)، فعملت تلك الدوائر وبالتنسيق مع الجانب الأميركي بعد السقوط على محاولة "لجم تلك التطلعات" أو محاولة تكبيلها؛ بل وزجّها في أتون صراع طائفي مدمّر، لا تخفى آثاره الكارثية الآن، بعد أو وصل الى حافات تهدد السلم الدولي!
لم تتوقف السعودية وحلفاؤها الخليجيون يوماً عن دعم الإرهاب التكفيري، وتوفير الحواضن له، ومدّه بالإرهابيين وتمويله بأرصدة البترودولار، والنفخ في النار الطائفية عبر فضائيات ومنابر الفتنة والكراهية، كل ذلك يجري -وما زال- في ظل محاباة أميركية مع غض نظر هو أقرب للتواطؤ!
ولم يكن خافياً التدخلات السعودية السافرة في الشأن العراقي منذ السقوط، وحتى بعد مسرحية "الانفتاح" على حكومة السيد حيدر العبادي، وعبر مراحل متفاوتة، وهي تسوّغ هذا التدخل على أنه جزء من "عقيدتها الدفاعية في صون مصالح الخليجيين ودرء الخطر الشيعي"! أما الذريعة المعلنة دوماً فهي مخاطر "استحواذ ايران على القرار العراقي"، بغض النظر ان كانت هذه الذريعة مفرطة في تهافتها.. وبالطبع يخرج المرء بانطباع، بأن العقدة (والعقيدة) الطائفية التي تتلبس السياسة السعودية والخليجية هي التي تقف وراء تلك الذرائع والمسوغات، بقرينة ان ايران لو كانت دولة سنيّة أو بوذية لما لاقت كل هذا الحقد والتكالب.
* * *
ان نباح الدبلوماسية السعودية متساوقة مع هجمة التصريحات الأميركية المتصاعدة من أعلى المستويات، للتحذير من "الانتقام الطائفي" وخطر "التدخل الإيراني مع المليشيات الشيعية"، كل ذلك يأتي اليوم مباشرة بعد انتصارات القوات العراقية و"الحشد الشعبي" بمؤازرة الأهالي في محافظة صلاح الدين، واندحار فلول الدواعش، وهو دليل دامغ آخر على زيف ادّعاءات الطرفين في انهما يدعمان "الحرب على الإرهاب"، ويعملان على "تجفيف منابعه"! فلو كان في هذا الادعاء نزراً يسيراً من الحقيقة، لماذا اذاً هذا الرعب والهلع، وهو مشابه وموازٍ ومساير لرعب الدواعش المندحرين؟! ولماذا التوسل الرخيص بأتفه الذرائع وأكثرها سقماً وتفخيخاً والمسوّقة بأوهام أثبتت تهافتها منذ 2003، بأن "الهيمنة الإيرانية" وراء غياب الاستقرار في العراق؟! بينما حينما تمد إيران يديها لدحر الإرهاب التكفيري (كاستجابة أيضا لمناشدات دولية) في المحافظات السنيّة، تصبح مدانة ومستهجنة، وهي التي لم يثبت تورط مواطن واحد منها في الانخراط مع داعش والقاعدة ونظائرهما، بينما تأكد تورط الآلاف من السعوديين (مع تورط مخابراتي مفضوح على الملأ)! في المقابل يتم تتويج الدواعش على انهم "ضحايا ومستهدفون" طائفياً، وإن لم يصرح السعوديون بذلك ولا حلفاؤهم الأميركيون، انما تفصح مواقفهم عن ذلك بكل وضوح! ناهيك عن التخبط الصبياني من الجانب السعودي للضغط على "مشيخة الأزهر" في استصدار بيان مسّف ضد الشرفاء المضحين الشيعة و"الحشد الشعبي"، اذ كلّف السعودية ثلاثة مليارات دولار (حسبما أفشى ذلك محمد البرادعي المرشح الرئاسي المصري السابق على حسابه في تويتر)! ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل أعقب ذلك خطوة أميركية همجية وخطيرة مفضوحة، حينما قصفت المقاتلات الأميركية تشكيلات من القوات العراقية في محافظة الأنبار مما أسفر عن استشهاد نحو 40 منهم (تم وصف العدوان بالنيران الصديقة كالعادة)! وكأن العملية قد جاءت ردّاً على تصريحات القادة الأمنيين والعراقيين الميدانيين وقادة "الحشد الشعبي" بأن عمليات تحرير أراضي محافظة صلاح الدين لم يتم فيها الاستعانة بـ"التحالف الدولي" بأي شكل من الأشكال! وهذا ما جعل الغلّ الأميركي يغلي كالمرجل، ويُسقط مزاعم الأميركيين بأنهم "رأس الحربة" في جهود "الحرب على الإرهاب"، وتلميحهم كراراً بأن العراقيين عاجزون عن دحر الإرهاب بدونهم!
ليس مستغرباً بعد اليوم أن يسفر الحقد لطائفي السعودي وبمباركة أميركية عن وجهه القبيح، بأن يقف جهاراً الى جانب داعش، بزعم درء "الخطر الشيعي" أو "تحجيم الدور الإيراني" وما شابه من افتراءات ومزاعم هي من أعراض متلازمة الحقد الطائفي السعودي، المسكون بجرعات التكفير الوهابي، والذي جلب الكوارث والويلات للمنطقة، ويهدد السلم الدولي برمّته!
https://telegram.me/buratha