في الوقت الذي تكتوي فيه شعوب المنطقة بنيران الارهاب التكفيري وهمجيته التي تأتي على الحرث والنسل، تنهمك الدوائر الغربية في الطرف الآخر في ابتكار وصياغة وتفريخ المصطلحات والمقولات التي تصممها على مقاسات أجنداتها وتطلعاتها في إدارة الملفات، وذلك على حساب أمن واستقرار وسيادة وتنمية بلداننا، ولم يكن ملف "الارهاب" استثناءً في مهام رفد حقل المصطلحات والمقولات تلك، والتي ظهر اليوم أحدثها يحمل الكثير من الغرابة، وأقرب ما يكون الى الهلامية والمطاطية منه الى الدقة في المعنى، اذ صدر هذه المرة من الحكومة الفرنسية، والتي سرعان ما شرعت في استثمار الأجواء التي أعقبت حادثة "شارلي إيبدو"، لتوسع من قبضتها الأمنية بطرق شتى، ليس آخرها اللجوء الى التضييق على مناوئي خطابها الشمولي والتحريضي الذي يستهدف كل من لا يجاري أو لا يتبنى ذلك الخطاب، أو يسفّه ازدواجية المعايير التي تعتنقها المؤسسة الرسمية الفرنسية تجاه الاسلام والمسلمين، ومحاولتها إطلاق أحكام مسبقة وجاهزة تغذي في المجمل "الاسلاموفوبيا"!
لقد صُعق الكثيرون في فرنسا وخارجها من الحكم القضائي الذي أصدرته إحدى المحاكم الفرنسية ضد الفنان الفرنسي الكوميدي المعروف "ديودوني إمبالا"، والجديد هي التهمة المستحدثة التي لم تألفها قواميس الحقوق والقضاء من قبل، ألا وهي تهمة "التغاضي عن الارهاب"! حيث حكمت عليه بموجبها بالسجن لمدة شهرين مع إيقاف التنفيذ. وكان "ديودوني" يواجه (بطلب من المدعي العام) احتمال الحكم عليه بالسجن 7 سنوات مع غرامة تبلغ 10آلاف يورو! أما عن سبب توجيه التهمة المذكورة فيعود الى ان الفنان قد كتب على صفحته في الفيسبوك عقب أحداث "شارلي إيبدو" قائلاً: "أشعر وكأنني شارلي كوليبالي"! وفسّرها هو فيما بعد بأنها مزيج من شعار "أنا شارلي" الذي روّجت له الحكومة الفرنسية والمتعاطفون مع ضحايا الحادثة ممن سايروا الخطاب الرسمي، أما الشطر الثاني من عبارة "ديودوني" فهي إشارة الى أحد المسلحين الثلاثة المشاركين في الهجمات ويدعى "أحمدي كوليبالي"، اذ أوضح "المتهم ديودوني" أمام المحكمة مراراً انه يدين هجمات باريس "دون مواربة". وأما عن تعليقه المثير للجدل فذكر انه كان يهدف منه الإشارة الى "انه يشعر وكأنه كإرهابي"، وهنا يلمز هو لبشرته السوداء (وأصوله الافريقية)، حيث ان "كوليبالي" من أصول افريقية ايضاً، كما يلمّح "ديودوني" في تعليقه بذكاء الى ثقل وطأة الأجواء التي خلفتها هجمات باريس الأخيرة، وما أعقب ذلك من استثمار محموم من السلطات الفرنسية واليمين المتطرف المتنفذ والمتربص بالإسلام المسلمين وعموم المهاجرين، وتوجيه الأنظار بأن الارهاب هو "نتاج طبيعي" لوجود ملايين المهاجرين من مسلمين وغيرهم، ومحاولة فتح النار بضراوة على الاسلام ووصمه بأنه "منبع الارهاب"، انسجاماً مع طروحات غالبية المستشرقين الفرنسيين المعاصرين!
أما "ديودوني" فقد سبق أن تم اتهامه بـ"معاداة السامية" وإثارة الأحقاد العنصرية" كإجراء "قانوني" لردعه عن توجيه الانتقادات اللاذعة! ولكنه أنكر مراراً هذه التهم، وأعتبرها حملة منظمة لـ"تكميم أفواه" من لا يؤيدون سياسات النخب الحاكمة، ومعها نُخب اليمين المتطرف الصاعدة في الخريطة السياسية!
* * *
مرة أخرى تثبت السياسة الفرنسية تهافت مزاعمها في "حماية الحريات" وأن فرنسا "مهد الحريات والمساواة"، كما ان النخب الثقافية والسياسية المتطرفة كشفت عن تناغمها مع تطلعات اليمين المتطرف المتنامية رقعته داخلياً وفي عموم أوروبا.
أما مقولة أو تهمة "التغاضي عن الارهاب" فهي ليست لغطاً أفرزته صياغات غير دقيقة لمذكرات القضاء الفرنسي، بقدر ما هي نتاج احترافية عالية من النخب السياسية والقضائية في صوغ مصطلحات مضللة ومحمّلة بآليات تجعل من الممكن "التفتيش" في نوايا من يناوئون أو يعارضون التوجهات الرسمية، أو يحاولون تعرية ازدواجية المعايير لدى تلك السلطات، خصوصاً في موضوع الارهاب، الذي تلاحق الحكومة الفرنسية شبهات رفده ودعمه، كدعمها للإرهاب التكفيري، حينما مارست هي "إرهابها الدولي" إبان تدمير ليبيا في 2011، حيث كانت فرنسا قد أبدت رغبة عارمة (كما شاركت) في تعجيل عملية التدمير تلك، بذريعة متهالكة هي "إرساء الديموقراطية وإسقاط الديكتاتورية"! وها هي ليبيا اليوم "جنة الارهابيين التكفيريين" في الشمال الأفريقي، والساحة المؤهلة لإعلان مركز "الخلافة الداعشية" هناك!
كما لم يعد خافياً الدور الفرنسي الفاعل في تدمير سوريا بذات الذريعة منذ 2011، وإغماض عينيها عن رعرعة الوحش التكفيري بنسخة داعش والنصرة، مستفيداً من التدخلات الفرنسية السافرة في شؤون سوريا ودعم الأنشطة المسلحة وتدريب المقاتلين على انهم "معارضون معتدلون"!
ان تهمة "التغاضي عن الارهاب" هي تهمة "مفتوحة المصدر" يمكن أن يوجهها مخترعوها -مثلاً- حتى للسيد "بان كي مون" اذا اقتضت مصالحهم، بزعم انه "تغاضى عن الارهاب" هنا او هناك، بحجة انه لم يكن "جديًاً" في محاربته! فما بالنا لو استخدم القضاء الفرنسي هذه التهمة ضد أناس لا يتمتعون بالنفوذ أو المقدرات الكافية للدفاع عن حقوقهم في حال توجيه هذه "التهمة" المعلبة لهم؟! ويمكن القول بأن تهمة "التغاضي عن الارهاب" هي نسخة (بصياغة مغايرة فقط) لما كان ينتهجه الطاغية صدام ونظامه الدموي، اذ لم يكن توجيه مثل هذه التهمة للخصوم والضحايا بحاجة حتى الى ديكور "محاكمات".. ألم يبطش صدام ونظامه بآلاف العراقيين (على مدى عقود) بتهمة انهم "تغاضوا" عن إبلاغ السلطات الأمنية عن المناوئين والمعارضين وأنشطتهم مهما كانت بسيطة؟! وهنا يمكن تلمّس الفارق في الصياغات فقط، فصدام لم يكن يطلق تسمية "الارهابيين أو الارهاب" على مناوئيه وأنشطتهم، انما يوصمهم بالمتآمرين والمخربين والعملاء! وهنا يُحار المرء حقاً في خضم "اللامعقول" الذي يضبّب مسرح الأحداث الدولية، حينما يتم استدعاء "تُهم" جاهزة ضد المناوئين حسبتها البشرية انها انقرضت مع هولاكو ونيرون والحجاج الثقفي وستالين وهتلر وصدام، ثم يأتي القضاء الفرنسي "العريق" ليصدمنا بإنتاج تهمة شنيعة ومطاطة ببصمة متبنيات الأسماء التي تم ذكرها. هنا يمكن القول أيضاً بأن تهمة "التغاضي عن الارهاب" يمكن أن تشملني (كاتب هذه السطور) وتشملك (عزيز القارئ) لمجرد اننا "لم نعمل ما علينا، أو ما يكفي، في تبرئتنا من شناعة التغاضي عن الارهاب" أو لأننا لم نصرخ بأعلى أصواتنا "أنا شارلي" لنكون في معسكر المرْضيّ عنهم! ومن بعد اليوم يمكن أن يسلم من انشطارات مثل هذه التهم الجاهزة تحت مظلة جريمة "التغاضي عن الارهاب"؟!
لا غرو ان هذا المنهج هو امتداد لتكميم الأفواه الذي مارسته السلطات الفرنسية ونخبها الثقافية والفكرية المسيّسة قبل سنوات ضد المفكر الفرنسي المسلم "روجيه غارودي"، ومحاولة إرعابه بتوجيه تهمة "معاداة السامية" له، والتي لاحقته وضيّقت عليه حتى أواخر أيام حياته. واليوم لا يقف أي عائق أمام إدماج تلك التهمة مع التهمة المستحدثة "التغاضي عن الارهاب"، والتي يمكن بواسطة هذا الكوكتيل من التهم إثارة الفزع في روع كل إنسان حرّ لا يُطأطئ لمزاعم وسياسات الحكومة الفرنسية أو نظيراتها في الغرب، و"لا يتجرأ" على اسرائيل!
ألا يحق لنا أن نواجه السلطات الفرنسية (ومعها جهازها القضائي) بالسؤال المدبب؛ لماذا "تتغاضون" عن الدعم الذي تقدمه قطر والسعودية للإرهاب التكفيري على رؤوس الأشهاد، ومنذ سنوات طويلة، والذي تغصّ بالمعلومات عنه ملفات استخباراتكم وبالوثائق الدامغة؟! أم ان الفنان الكوميدي "ديودوني" هو أخطر من آلاف السعوديين الذين يقودون ويقاتلون في صفوف التنظيمات الارهابية التكفيرية المنتشرة في المنطقة والعالم؟! ولماذا هذا "التغاضي" المشبوه عن نظام أردوغان وتسهيله عبور الارهابيين الى "مناطق النزاع" في سوريا والعراق، والى متى "التغاضي" عن الارهاب الإسرائيلي المتواصل في فلسطين ولبنان؟!
ثم ألا نمتلك الحق (كمتضررين من الارهاب التكفيري) أن نوجّه تهمة "التغاضي عن الارهاب" الى هولاند وأوباما، كونهما "تغاضيا" حتى النخاع عن تنامي قدرة التنظيمات الارهابية في العراق وسوريا، والتي أمدتها أميركا وفرنسا وباقي الحلفاء الغربيين بسبل البقاء، بذريعة "إرساء الديموقراطية في سوريا"، فكانت الشرارة التي أشعلت الحريقين المستعرين في العراق وسوريا، والتي يدفع ثمنها الشعبان دماً ودماراً، وجعلت المنطقة برميل بارود جاهز للانفجار؟!
https://telegram.me/buratha