يبدو ان موسم الحصاد الأميركي في المنطقة قد أزف أوانه بعد تنفيذ حاذق لفصول من "الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الجديد"، مصحوباً برائحة الموت والدمار التي تخنق منطقتنا المنكوبة بفعل حروب الإرهاب وحروب "الأشقاء" معاً، مع تسارع وتيرة تفعيل أهداف المشروع الصهيوأميركي، مدعوماً بمحور الارهاب الرسمي في المنطقة (قطر، السعودية، تركيا، الأردن واسرائيل)! ذلك المشروع الذي هيّأ مسرح المنطقة عبر استثمار أمثل لمعضلات قائمة وأخرى تمّ ويتم استحداثها، بغية طحن أضلاع الشعوب وتفتيت لحمتها، وإهالة التراب على حدود الأوطان وسياداتها، مع نحر السلم الأهلي، وتفجير التوترات القائمة وتكريس الاستقطابات الحادة بين القوميات والطوائف والمذاهب، إضافة الى تسقيط وتسفيه الحسّ الوطني لحساب "الانتماء" الفئوي والقبلي والجغرافي، كما يفضي الحال الى التوسل بالأجنبي (المُنتج لأخطر أزماتنا) لحسم الخلافات وإدارة النزاعات أو إعادة "تدويرها"!
لقد أقدم مجلس النواب الأميركي مؤخراً على خطوة خطيرة تمس سيادة العراق بصورة مباشرة، وذلك حينما مررت لجنة القوات المسلحة في المجلس مشروع قانون طرحه رئيس لجنة الخدمات المسلحة في المجلس "ماك ثورنبيري"، يفرض شروطاً لتخصيص مساعدات عسكرية أميركية للعراق بقيمة 715 مليون دولار من "ميزانية الدفاع" لعام 2016. وينص على تخصيص ذلك المبلغ لـ"لقوات المشاركة في القتال ضد تنظيم داعش" في العراق، على أن يذهب 25% منه مباشرة إلى قوات البيشمركة و"المقاتلين السنّة". كما اشترط القرار صرف الـ 75% المتبقية بعد أن تُقّدم وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتين ما "يثبت التزام الحكومة العراقية بعملية المصالحة الوطنية"، وفي حال فشلتا في إثبات ذلك، يذهب 60% من المبلغ المتبقي لـ"القوات الكردية والسنية"!
يتوضح بجلاء آنفاً عمق التوغل في العبث بـ"سيادة العراق" من بوابة "المساعدات العسكرية"، ولتصعيد "الصراحة الأميركية" الى أعلى شحناتها، يفرض مشروع القانون شروطاً على الحكومة العراقية "لقاء الحصول على هذه المساعدات"، وأبرزها أن تعطي الحكومة العراقية للأقليات غير الشيعية "دوراً في قيادة البلاد في غضون ثلاثة أشهر بعد إقرار القانون وأن تنهي بغداد دعمها للميليشيات، وإلاّ سيتم تجميد 75% من المساعدات لبغداد، وإرسال أكثر من 60 في المئة منها مباشرة للأكراد والسنّة"!
بعد هذه الوضوح المصاحب لمشروع القانون المذكور (خصوصاً تعرّض القرار للحشد الشعبي ووصفه بالميليشيات التي تدعمها بغداد) تجاوزت الخطوات الأميركية المتواترة التي تهدف الى تقسيم العراق بالونات اختباراتها، وانتقلت (بهذا الملف) الى التصريح العلني بصوت عالٍ يستمد "الشرعية" من مجلس النواب الأميركي، وبما يدخل ضمن نقاشات الشأن الداخلي الأميركي هذه المرة، ويسهم في رسم سياسة الميزانية الأميركية ذاتها، على إيقاع خطط الإدارة الداعمة لتقسيم المنطقة.
لقد دشنت الإدارة الأميركية علنياً خططها لتقسيم المنطقة منذ أوائل 2004، أي بعد شهور من الاحتلال الأميركي للعراق، وكان مخاض المستقبل العراقي آنذاك محركاً أساسياً لذلك التدشين، الذي جاء على شكل صياغة لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، اذ طرحته الإدارة الأميركية على مجموعة الدول الثماني الصناعية أوائل 2004. وبات المصطلح المستحدث يشير بصراحة إلى بلدان العالم العربي، إضافة الى باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل. واستحوذ حينها على اهتمام كبير (بين مؤيد ومعارض) رغم افتقار المشروع الى الوضوح المطلوب بفعل التوجس الأميركي من طرح "التفاصيل الحساسة" الى العلن قبل "إنضاج الظروف المطلوبة".
وفي هذا الصدد يمكن القول ان "جو بايدن" نائب الرئيس الأميركي كان سبّاقاً ومتحمساً لفكرة تقسيم العراق انسجاماً مع مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، حيث شارك بايدن في كتابة افتتاحية خطيرة لصحيفة "نيويورك تايمز" في 1 أيار 2006، ركّز فيها على ضرورة تقسيم العراق الى ثلاث أجزاء تتمتع بحكم شبه ذاتي "سنه وشيعة وأكراد"! و"التخصيص لكل مجموعة غرفة تحكم لإدارة شؤونها بذاتها، بينما تتحمل الحكومة المركزية مسؤولية المصالح المشتركة"! ينبغي هنا التأشير على التناغم بين "أفكار" جو بايدن السالفة وبين ما سبقته به "كوندليزا رايس" وزيرة الخارجية الأميركية مطلع عام 2005، حيث أدلت بحديث صحفي لصحيفة "واشنطن بوست" ودعت الى نشر "الفوضى الخلاّقة" في سياق حديثها عن التواجد الأميركي في العراق وخطة أميركا في بلورة وتشكيل "الشرق الأوسط الجديد".
وقد كرر بايدن بعد حوالي شهر من المقال السالف موضوع تقسيم العراق، وكان حينها عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية "ديلاوير"، عندما اقترح بشدة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق "ذات استقلال شبه ذاتي" للشيعة والسنة والأكراد، محذراً في الوقت ذاته من "ان العراق سيدخل في دوامة صراع طائفي يمكن ان يزعزع استقرار المنطقة بأسرها، إذا لم يُنفّذ مقترحه للتقسيم"! وقد صوت حينها مجلس الشيوخ بغالبيته في العام 2007 لدعم بايدن في "رؤيته السياسية للعراق"! وأعقب ذلك في إطار متصل إعلان رايس (وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك) بُعيد توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 تأكيدها "أن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب"، وعطفاً على توقيت التصريح وارتباطه بالكيان الاسرائيلي، ينبغي التذكير هنا بأن "شمعون بيريز" كان قد تبنى بشدة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" وطرحه في كتاب له يحمل ذات تسمية المشروع في 1994، ولكنه افتقد الى "الصراحة" المتوخاة في موضوع التقسيم في المنطقة، انما كان يهدف أساساً الى التوطئة لدمج إسرائيل مع محيطها الإقليمي، والسعي الى "التكامل الاقتصادي"!
ولقد تتالت "النقاشات" العلنية ضمن دائرة النخب وصناع القرار الأميركيين بشأن موضوع تقسيم العراق، كجزء من تقسيم المنطقة، وأدمنت الإدارة الأميركية النأي "رسمياً" عن هذه المشاريع والطروحات والنقاشات، مكتفية بنفي تبنيها ذلك، وانها "ملتزمة بوحدة العراق وما يقرره العراقيون"! ولكن الثابت عملياً عكس ذلك تماماً، فلقد تصرفت هذه الإدارة ومنذ 2003 على ان العراق بلد منقوص السيادة، وأعطت الإدارة الأميركية لنفسها الحق في العبث بهذه السيادة كيفما تشاء، ومتى ما تشاء. فلم يكن منطقياً تصديق المزاعم الأميركية بذلك "الالتزام بوحدة العراق" خصوصاً وان بايدن كنائب للرئيس الأميركي لا يخفي نواياه حول تقسيم العراق، ويطرحها علناً بعناوين شتى، مغلفة بمصطلحات مستحدثة أحياناً، مفصلة لمقاس تقسيم العراق، كمصطلح "الفيدرالية الفعّالة"، الذي نشر مقالاً تحت ذات العنوان في الـ"واشنطن بوست" في آب 2014، متضمناً اقتراحه "نظاماً فيدرالياً فعالاً" أثناء تناوله للوضع العراقي وتداعيات الأحداث في المنطقة! وفسّره أغلب المراقبين بأنه نسخة "معدلة" لموضوع التقسيم الذي سبق وأن طرحه، خصوصاً في اشارته ضمن فقرة من المقال "بأن العراق بحاجة الى نظام (فيدرالي فعال) لمعالجة الانقسامات التي تعصف به، وإن أميركا مستعدة لتوفير الدعم من اجل إنجاح هذا النموذج"!
* * *
لم يتفاجأ المتابعون بما صدر عن الساسة الأميركيين (وبالوضوح الذي رشح مؤخراً) بخصوص تقسيم العراق، كجزء من مشروع أعمّ لتقسيم المنطقة بعدما تهاوت حدود سايكس- بيكو بجرافات "الدولة" الداعشية الموزعة بين العراق وسوريا، حيث كانت كل المساعي الأميركية (العلنية والسرية) تصب في اتجاه ترسيخ وتطبيع خطوات التقسيم في العراق، عبر جملة من الممارسات والقرارات والمشاريع والرهانات، بأدوات الشحن الطائفي والعرقي واستثمار المرحلة الانتقالية المضطربة بعد 2003، وتكبيل البلاد بالمعاهدات والاتفاقيات التي تستنزف الاقتصاد العراقي وترهق خطط التنمية، مروراً بتجاوز السياقات الدبلوماسية والتدخل في الشؤون الداخلية بشكل سافر، إضافة الى فرض أجندات وكيانات؛ بل وحتى أسماء بعينها على دائرة القرار السياسي العراقي، بغية خلق توازنات تتلاءم مع التطلعات والمصالح الأميركية، وصولاً الى فرض الارهاب التكفيري وجعله لاعباً أساسياً في المعادلات القائمة، عبر دعمه بزعم تمكين "المعارضة السورية"، فتم في وضح النهار تقوية شوكة الارهاب الداعشي وتنظيمات إرهابية كجبهة النصرة وجند الشام ونظائرهم! وقد اكتسب المشروع الأميركي قوة دفع أكبر بعد سقوط الموصل، والكل شهد آنذاك موقف الإدارة الأميركية والاكتفاء بالتفرج حتى بعد التهديد الجدّي للعاصمة بغداد، وهذا الموقف فضح بشدة عقم مزاعم تلك الإدارة في "الدفاع عن وحدة العراق وأمنه"! كما أفصح عن ذلك العقم عدم وفائها ببنود المعاهدات الأمنية والاتفاقيات العسكرية المبرمة مع العراق، ومن ذلك عدم تسليم الأسلحة الأميركية المتعاقد عليها، في أحلك ظرف أمني وأخطر تهديد يواجهه العراق المنكوب بحرب الارهاب!
لن تتوقف المساعي الأميركية سرّاً أو علناً في التمهيد لمرحلة تقسيم العراق، والموضوع قد خرج برمته عن إطار "التكهنات السلبية" إزاء الخطط والنوايا الأميركية للمنطقة عموماً، وللعراق خصوصاً. ويمكن القول اننا نشهد مرحلة أميركية تمهد لإضفاء "الشرعية الدولية" بشأن موضوع التقسيم في العراق، وفي ذلك يكمن وجه الخطورة. ورغم زخم وحجم الاستنكار والاستهجان الشعبي والرسمي الكبيرين في العراق إزاء مشروع قانون المساعدات العسكرية للعراق الذي تم تمريره في مجلس النواب الأميركي مؤخراً، إلاّ ان هذا التحرك (رغم أهميته) لم يعد مصدّاً كافياً بوجه رياح التقسيم التي تحملها "النوايا الطيبة" الأميركية، أو "المساعدات العسكرية" للأكراد أو السنّة، اذا لم يرفده تعزيز الوحدة الوطنية، ورأب التصدعات في الجبهة الداخلية، والشدّ على أيادي مقاتلينا في جبهات الحرب ضد الارهاب التكفيري ودعم صمودهم، فالنصر الذي يسطرونه ببأسهم وتضحياتهم وإيثارهم كفيل بتفتيت كل المؤامرات ومشاريع التقسيم -بإذن الله- سواء جاءت من بايدن أو النائب الأميركي "ثورنبيري".
https://telegram.me/buratha