شغلت الرأي العام المصري مؤخراً ما عُرفت إعلامياً بقضية "ابن الزبال"، والتي حصدت اهتماماً وتفاعلاً بالغين في يوميات المشهد المصري المثقل بالكثير من القضايا والملفات والأزمات الشائكة! ومختصر "القضية" ان وزير العدل المصري "محفوظ صابر" كان قد صرّح ضمن برنامج حواري تلفزيوني بعبارات عُدّت تبنّياً لسلوك طبقي وتعالياً ممارساً بحق شريحة كبيرة من المجتمع المصري هي شريحة "جامعي القمامة"، الذين هم جزء من سلك عمال النظافة، حيث قال الوزير: "ابن عامل النظافة لا يجوز أن يعمل قاضياً، فَكتّر الله خير أبوه إنه علّمه.. ابن عامل النظافة الغلبان لو عمل قاضياً لن يتحمّل بيئة القضاة، وسيصاب بالاكتئاب وتحاصره المشاكل.. القاضي له شموخه ووضعه، ومفروض ان يكون من وسط مناسب محترم مادياً ومعنوياً"!
أثار هذا التصريح حفيظة الشارع المصري بشكلٍ كبير، وزادت من حرارة السجال تلك الطريقة التي تُهمّش بها غالبية الشعب المصري التي تنتمي الى الطبقة الفقيرة اثر تآكل الطبقة المتوسطة على مدى عقود سابقة، وكيف تنظر الطبقة الحاكمة الى أبناء هذه الشرائح، والآلية المتبعة في حرمانها من تقلّد وظائف يتم حجزها مسبقاً وبإجراءات "تحت الطاولات" الى فئات بعينها! وكان من انعكاسات ذلك السجال ان اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالمشاركات المشوبة بالغضب، وكذلك الحال بالنسبة للبرامج الحوارية التلفزيونية، ووسائل الإعلام المختلفة، ولم تَحدّ من وطأة القضية الاستقالة السريعة لوزير العدل بإيعاز من رئيس الوزراء المصري، الذي فضّل التضحية بوزيره لينقذ حقيبته الوزارية، خصوصاً وان رئيس الوزراء حاول جاهداً امتصاص نقمة الجمهور عبر التملق للرأي العام بعبارات سعى من ورائها الى احتواء الموقف وإصلاح ما أفسده وزيره المستقيل!
وقد أدلى جمهور كبير من الإعلاميين والكتّاب والسياسيين بآرائهم حول القضية، التي شبّهها البعض بأنها القشة التي قصمت ظهر بعير التمييز الطبقي المُمارس منذ عقود طويلة و"مسكوت عنه" في الواقع المصري، وقد كانت الغالبية العظمى من هؤلاء من المستهجنين لما بدر من الوزير المستقيل، على ان تصريحه يمس كرامة الملايين من المصريين الذين ينتمون الى الطبقة المستضعفة و"الغلابة"، الذين لم ينصفهم تعاقب الحكومات والوجوه والبرلمانات. كما ركن البعض من المدلين بدلوهم في القضية الى "تلطيف" كلام الوزير، والبعض الأقل منهم عمد الى الدفاع عنه بذريعة انه كان "شجاعاً" وكشف حقيقة مسكوت عنها، ولكنها معمول بها منذ عشرات السنين ويتعايش معها المصريون! وكان نصيب الإخونجية كبيراً في النفخ بنار هذا السجال، حيث سعوا لتوظيفه بعناية، واعتبروا ما تفوه به الوزير "خيانة" سلطوية صريحة لتضحيات عامة المصريين وفقرائهم، وكيف يتم تهميشهم والاستخفاف بهم في ظل نظام السيسي "الانقلابي"، الذي يدّعي انه جاء لإنصافهم واستعادة كرامتهم التي سلبتها عقود طويلة من الديكتاتورية والتسلط.
* * *
في ظل الأجواء المشحونة واللغط المتنامي في الشارع المصري والتي خلفها تصريح الوزير المطاح به، أطلّ السفير البريطاني في القاهرة "جون كاسن" على المشهد المحتدم بتغريدة عبر حسابه في تويتر (وبالعربية) يقول فيها: "عايز تشتغل في السفارة البريطانية؟ نرحب بالجميع ونرحب بابن عامل النظافة"! وجاءت هذه التغريدة (سمّاها بعض المصريين بالنهيق) لتصب الزيت على النار، واعتبرتها غالبية المصريين تدخلاً سافراً ووقحاً، يهدف الى استثمار هذه القضية وحساسيتها وشحنات توترها، بُغية تعميق الهوة بين طبقات المجتمع أولاً، وبين عموم الشعب المصري والنظام الحاكم ثانياً، معيدة الى الأذهان التدخلات السافرة للسفارات والبعثات الغربية إبان الأحداث المصرية منذ عشية سقوط نظام مبارك وحتى اللحظة. كما اعتبرت تلك الغالبية تصرف السفير البريطاني بأنه خروج مستفز وفاضح عن الأعراف الدبلوماسية، وانتهاكاً فظّاً للياقات "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للبلد المضيف! ولم تجلب الصفح للسفير عن سلوكه غير المسؤول ذريعة "حرية التعبير"، لأنه وهو في منصبه لا يمثل نفسه بل سياسة بلده، وكل ما يصدر عنه يتحمل مسؤوليته رسمياً. كما لم تخفف من وطأة تغريدة السفير "التوضيح" الذي أعلنته الخارجية البريطانية بعد الوقع السلبي الذي خلفته (التغريدة)، حيث ورد في التوضيح بأن "دعوة السفير جاءت تأييدا لفكرة أنه لا ينبغي أن تمنع الخلفية العائلية الشخصَ من التقدم لأية وظيفة"، وواضح ان "التوضيح" قد زاد الأمر تعقيداً، اذ ليست من وظيفة السفير إطلاقاً أن يدلي برأيه في قضية مجتمعية داخلية ذات جذور عميقة وتحرّك النقاش العام بطريقة متشنجة، بواقع خطورة طريقة إثارتها! ولم تطلب أية جهة مصرية من هذا السفير ان يدلي برأيه، ليختصر هو الحل بسطر واحد في "تغريدة" مضغوطة! ووصلت ذروة سخط المصريين من تصريح السفير حدّاً بأن طالبوا بطرده لتدخله بشأن مصري داخلي وإثارته الفتنة، كما دشنوا هاشتاغ (#اطردوا_السفير_البريطاني) وصل عدد متابعيه مئات الآلاف. واستنكر هؤلاء صمت الخارجية المصرية ووصفوه بالمشين!
الأنكى ان الـ"بي بي سي" حاولت وبخبثها المعتاد أن تخفف من وطأة تصريح السفير البريطاني فاعتبرته "دعابة أثارت جدلاً في مصر"! فأي استخفاف هذا بالسلم الأهلي المجتمعي حينما ينفخ السفير في النار المستعرة ( وهو الذي لا يجهل بحكم مؤهلاته ما يُصرّح به في المكان والزمان الدقيقين)، وبعبارة ظاهرها حيادي وباطنها مفخخ، ومن ثم يتم اعتبار الأمر بأنه مجرد "دعابة" بعد كل السخط المليوني الذي جلبته؟! ولعل هذا الاستخفاف يجاري مدى الاستخفاف الذي تتعامل به سفارات الدول الغربية مع "سيادات" بلداننا المأزومة والمبتلية بإرهاب الفقر وانعدام التنمية وتفاقم الأزمات السياسية مع غياب الديموقراطيات الحقيقية، وصولاً الى الارهاب التكفيري في آنٍ واحد. كما بات جلياً بأن الكثير من العوامل التي مهّدت لتلك المعضلات والأزمات لا مجال لتبرئة تلك الدول الغربية (المعنية بملفات منطقتنا) من تورطها فيها أو التوطئة لاستفحالها.
عندما يقتنص السفير البريطاني في القاهرة أو أي دبلوماسي لسفارة ما أية قضية رأي عام متفاعلة وتنذر بارتدادات خطيرة، ثم يدلي فيها بما يؤدي الى تصعيد سلبي أو يعمّق الانقسام المجمعي، فهذا يتعدى بطبيعة الحال المهام الدبلوماسية والمواثيق الدولية التي تنظم حدود صلاحيات البعثات الدبلوماسية في الدول المضيفة، ناهيك ان التدخل (مهما اتخذ من أشكال الإبداء عن الرأي أو المشاركة في النقاش الداخلي) مستهجنة في الدول الغربية وغير مسموح بها وتواجه باستنكار شديد، وغالباً ما يتخذ طابعاً دبلوماسياً. ومن البديهي أن يكون السفير البريطاني "كاسن" ممن "يقدسون" تلك الأعراف الدبلوماسية، الاّ اذا كان يعتبرها خاصة ببلده فقط وغير معني بها في مصر؟!
ان تحسس المصريين وردود أفعالهم من "تغريدة" هذا السفير له ما يبرره تماماً، اذ شهدوا التدخلات السافرة لسفارات غربية في الشأن المصري (وأحياناً كثيرة تكون علنية) منذ الحراك الشعبي المصري عام 2011 والإطاحة بنظام مبارك، وكيف مارست تلك السفارات نفوذها في تحريف وجهة الأحداث وتغليب تيارات على أخرى، وكيف انها وقفت موقفاً سلبياً وعدائياً من الإطاحة بحكومة الاخونجية التي كانت خياراً غربياً (مدعومة كلياً من تلك السفارات)، وكيف تمارس الأخيرة -حتى اللحظة- دوراً مشبوهاً في اقتناص الفرص لزعزعة الأوضاع، ومحاولة تمكين فلول الاخونجية من العودة الى سدة الحكم. وتُعتبر الحرب النفسية أحد الأساليب المتبعة التي تغذيها أذرع تلك السفارات، تطفو الى السطح بين مدة وأخرى بعض الحقائق حول هذه الأنشطة، حيث تكشفها حوادث متفرقة أو تسريبات إعلامية جادة (جنباً الى جنب تسريبات ويكيليكس)، في ظل صمت رسمي مصري مريب!
لم ينفصل هذا الدور المشبوه للسفارات الغربية وتدخلها في شؤون البلدان المضيفة عن واقع كثير من بلدان المنطقة، وهذا واضح مثلاً في لبنان عبر توغل السفارات الأميركية والبريطانية والفرنسية في التدخل في الشأن الداخلي، ويصل الأمر الى حدّ فرض وترشيح أسماء بعينها لتتبوأ أرفع المناصب وأخطرها في الحكومة اللبنانية، حتى أصبحت هذه التدخلات بمرور الزمن جزءاً من الواقع العام! كما لمس الجميع دور تلك السفارات في تأجيج الصراع السوري المدمر منذ 2011، وكيف كان السفير الأميركي يتجول في المناطق الملتهبة التي تصول بها "المعارضة المسلحة"، ويؤجج المواقف بتصريحاته التحريضية، ثم كان يعود الى سفارته في دمشق وكأنه المندوب السامي!
ولم يسلم العراق من هذا الواقع المرير؛ بل أصبح يتفوق على النموذجين اللبناني والسوري في مدى تغلغل تدخلات السفراء الغربيين وسفاراتهم في الشأن الداخلي، والعبث بالملفات الخطيرة وفق ما تمليه مصالحهم، بصورة لا تفضي سوى الى تعميق الخلافات وتأجيج مظاهر النقمة في الشارع العراقي، وتوسيع هوّة الأزمات وتآكل السيادة الوطنية. وهذا كان متبعاً -ولا زال- منذ التغيير في 2003، والأخطر ان هذه التدخلات بتجاوزها على السيادة العراقية (وبشكل علني وفظّ) قد ازدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة، وفي أكثر من مفصل من مفاصل الحراك السياسي الداخلي، والأمثلة أكثر من أن تحصى. وبالطبع تُغلف هذه التدخلات بشعارات طنانة كـ"الرغبة في مساعدة العراق والعراقيين لترسيخ العملية الديمقراطية"، مروراً بـ"إسداء النصح واستماع وجهات النظر"، وصولاً الى "وضع الخطط والآليات للمساهمة في القضاء على ظاهرة الإرهاب"! بل وأصبحت هذه السفارات مرجعاً لحل الخلافات والاستقواء بها ضد تيار مناوئ ودعم هذا وإقصاء ذاك! حتى ليظن المرء -مثلاً- بأن السفير الأميركي يتبوأ منصب عراقي رفيع برتبة "سفير أميركي"! بالطبع ليس هذا السفير أو زميله البريطاني بحاجة الى ما يشبه قضية "ابن الزبال" ليدسّا أنفيهما في الوضع العراقي، اذ -وبصراحة- فإن الضوء الأخضر مفتوح لهما على الدوام، وهذه من احدى "البلاوي" التي لم ولن يزعزعها تغريد تويتر ولا "فسفسة" الفيسبوك!
بقي أن أذكر ابلغ تعليق على تغريدة السفير "كاسن"، حيث اذ جاءت عفوية على لسان "نقيب الزبالين" في مصر: "طز في أمريكا وطز في بريطانيا وسفيرها، كانوا فين لمّا المصريين كانوا بيموتوا في ثورة 25 يناير"! كما "غرّد" أحد كتاب الأعمدة المصريين قائلاً: "أين تتبخر هذه الأريحية والبساطة والمساواة التي يشيعها السفير البريطاني حينما نتقدم لطلب تأشيرة سياحية (وليست تأشيرة عمل) لبريطانيا؟ بينما استمارة طلب التأشيرة مليئة بالشروط، ومنها الاستفهام عن المستوى العلمي والشهادات التي حازها مقدم الطلب، وشرط أن يوثق بأن لديه رصيد محترم في حسابه المصرفي، وطبعاً لن يكون لابن الزبال المقدرة على تلبية الكثير من هذه الشروط، ومنها بالتأكيد رصيد مالي محترم على الأقل"!
لقد أشعل الساخطون المصريون سؤالاً بسيطاً وجهّوه للسفير البريطاني: "أخونا ابن الزبال كان موجوداً منذ الاستعمار البريطاني لبلدنا، لماذا لم تتذكرونه أنت ودولتك العظمى سوى بعد تصريح وزير العدل المستقيل"؟!
https://telegram.me/buratha