"تكرّمت" الحكومة السعودية أخيراً بتسمية سفيرها الجديد في العراق، وذلك بعد "مكرمتها" الأولى حينما وافقت على فتح سفارتها في بغداد بعد 24 عاماً من إغلاقها!
لقد "استبشر" العديد من الرسميين العراقيين - كما هو متوقع - بهذه "المكرمة" السعودية، وبعضهم عدّها "انتصاراً" للدبلوماسية العراقية، و"فاتحة خير" لعهد وردي، سيفتح للعراقيين بوابات السلم والرخاء والمنعة، ويمكّن العراق من استعادة مكانته الطبيعية في المنطقة، مثلما اعتبر "تحالف القوى العراقية" تسمية السفير "خطوة (مباركة) تعزز الدعم العربي للعراق"..!
قبل الاستغراق بالاحتفاء بهذا "الحدث العظيم"، علينا أن نثبّت أولاً وبلا مواربة، بأن بغداد تستقبل سفيراً سعودياً لحكومة عاجزة حتى الساعة عن إبطال مفعول الشبهات والاتهامات التي تطاردها في تورطها الناجز بدعم الارهاب التكفيري في العراق والمنطقة؛ بل والعالم بأسره، إضافة الى دورها في مناصبة العداء للعملية السياسية في العراق بعد التغيير في 2003، لأسباب جمة، وعلى رأسها الهاجس الطائفي، الذي يحرّك السياسة السعودية في المنطقة منذ انتصار الثورة الاسلامية في إيران وحتى الآن! فكانت البصمات السعودية واضحة في دعمها الفصائل الإجرامية البعثية ونظائرها، إضافة الى دعم السعودية المتواصل للوبيّات المحاصصة (من لون طائفي واحد) في حضن السياسة العراقية، تلك اللوبيّات التي لم تكن تخفي ولاءها للبلاط السعودي يوماً جهاراً، قولاً وفعلاً! كما جهدت السعودية على زعزعة أركان العملية السياسية في العراق ضمن مساعيها في التدخل في الشؤون الداخلية، بأدوات عديدة، منها تفتيت الوحدة الوطنية، وضرب الوئام الأهلي، والنفخ في نار الطائفية، وتشويه صورة الحكومات العراقية بعد التغيير، وتقزيم الدور العراقي في المنطقة، إضافة الى جعل تقسيم العراق وصفة مستساغة وقابلة للتداول على الطاولات!
لقد أشعل التورط السعودي في ملفات الارهاب المنطقة بحرائق مستعرة في العراق وسوريا واليمن، مع تأجيج للصراعات الطائفية المدمرة، والتي بدورها تغذي أخرى عرقية، وتهدد مجتمعة بإشعال الإقليم الذي تحول الى برميل بارود جاهز للانفجار!
ويمكن ببساطة تلّمس انسجاماً كاملاً بين المشروعين، السعودي (مع الحلفاء الخليجيين)، والصهيوأميركي المعد لمنطقتنا!
* * *
ليس مستغرباً من السعودية أن تعيّن عسكرياً هو ثامر السبهان (برتبة عميد ركن) سفيراً لها في بغداد بعد قرابة ربع قرن من غلق سفارتها في العراق، ومبعث عدم الاستغراب هو حساسيتي الزمان والمكان، وما يفرضانه على هذا التعيين المدروس بعناية! أما المكان؛ فالعراق في قلب دائرة الاستهداف السعودي، وعن الزمان؛ فهو موسم حصاد مؤامرات السعودية وحلفائها في العراق والمنطقة، بفعل حروب الارهاب التكفيري، الذي لم يفتأ يتغذى من حواضن الرياض والعواصم الخليجية، هذا الارهاب الذي يمرّ اليوم بجولات كرّ وفرّ، وبات مطلوباً تدخلات "أكثر جرأة وعلنية" من رعاته وحماته، سواء ان كانت السعودية أو أميركا مع حلفائها. وما سهّل المهام لدوائر القرار السعودي، هي هذه الهمّة الدبلوماسية العراقية في استجداء "التقارب" مع الرياض، وبدون أن يكلّف السعوديين ذلك أي أثمان تذكر! بل سيمهد لهؤلاء استقدام سفيرهم الى "مركز عملياتهم" في سفارتهم ببغداد، رغم ان هذا السفير يجرجر معه شبهات كثيرة تفضح تورطه في ملفات مشبوهة وخطيرة، لها صلة باستفحال الارهاب التكفيري في سوريا والعراق، ونشاطات عدائية لتصفية "أو تحجيم" نفوذ حزب الله اللبناني في لبنان وسوريا، وهناك الكثير مما يعزز هذه الشبهات، وبعض المعلومات يمكن استقائها من مصادر إعلامية سعودية، اضافة الى تقارير إعلامية لبنانية رصينة، جاءت على خلفية تسريبات رسمية لبنانية، واعترافات لعملاء سعوديين تم ألقاء القبض عليهم في فترات متفاوتة، وذلك حينما كان السبهان يشغل منصب "ملحق عسكري" لسفارة بلاده في لبنان!
يتحدّر السفير السعودي الجديد في العراق من السلك العسكري (وليس الدبلوماسي) تخرجاً وخبرة، وهو من مواليد 1967، وأوكلت للسبهان في حياته المهنية مهام عسكرية كثيرة،، حيث خدم ضمن قوات "عاصفة الصحراء"، وكان من المحظيّين في تلك الفترة، حتى ان سيرته الذاتية قد أُدرجت ضمن السير الذاتية للشخصيات الواردة في كتاب "مقاتل من الصحراء" لخالد بن سلطان (قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات في عاصفة الصحراء 1991). أما أبرز المهام (والتي يفتخر بها ويصفها بالإنجازات) هي ضابط الأمن والحماية المرافق لقائد القيادة المركزية الأمريكية "نورمان شوراتزكوف" أثناء عمليات "عاصفة الصحراء". كما كان ضابطاً لأمن وحماية عدة مواقع للقوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية في منطقة الرياض منذ عام 1995!
وفي سيرته الذاتية ايضا انه عمل كضابط أمن وحماية لعدد من وزراء الدفاع الأجانب أبرزهم الأمريكي "ديك تشيني"، والبريطاني "توم كينج". كما كُلّف بحماية رئيس أركان القوات المشتركة الأمريكية "كولن باول" وشخصيات عسكرية غربية رفيعة أخرى. ومما يفتخر به هو حصوله على "وسام الامتياز والجدارة" من وزارة الدفاع الأميركية! وواضح جداً ان السبهان يحوز على "ثقة" اميركية ليست بلا معنى في ظروف اختياره وتعيينه كسفير! أما آخر مهامه قبل تعيينه سفيراً، هي الملحق العسكري للسعودية في لبنان (منذ 2013 - 2015، وقبلها كان مساعداً للملحق العسكري هناك لمدة 3 سنوات).
من التسريبات التي رافقت مهامه في لبنان، ضلوعه في تأسيس "جبهة النصرة" والإشراف على ملفات أنشطتها الارهابية ولمجاميع تكفيرية أخرى، والتنسيق مع الأميركيين في استقطاب مجاميع القاعدة وداعش لزجّها في الجهود الرامية لقلب نظام الحكم في سوريا منذ اندلاع الأزمة السورية أوائل 2011، ومن ثم تطورت أنشطة تلك المجاميع الارهابية كثيراً، مثلما استفحل دور داعش في سوريا والعراق. وتشير التسريبات ايضاً الى الدور المحوري للسبهان في تلك الفترة في "الحدّ من النفوذ الإيراني" في لبنان وسوريا، بما شكّل جهداً محورياً لدى مخططات السعودية في المنطقة.
ان تعيين السبهان سفيراً في بغداد، يرسل اشارات في غاية الوضوح، وهي ان الدور السعودي السادر في التورط في حروب الارهاب لم يتأثر بـ"شكليات" عودة العلاقات الدبلوماسية مع العراق، كما ان احتدام آليات التصعيد السعودي - الخليجي ضد ايران، يدفع باتجاه جعل العراق "ساحة مفضلة" لفصول التصعيد بعد سوريا ولبنان واليمن، وجاء تعيين السبهان ليدير ملفات قائمة غايتها الدفع بتدخلات السعودية في الشأن الداخلي العراقي الى خطوات أكثر عملانية، وتفعيل أجندات حساسة في المرحلة المقبلة، لا تخرج عن مفاصل ذلك التصعيد، وتنسجم ايضاً مع الخطط السعودية في استثمار الظروف التي يمر بها العراق لتحميل شروط السعودية واملاءاتها على الراهن العراقي! وسيكون ملائماً جداً لهذه المرحلة أن تستثمر السعودية "خبرات" سفيرها السبهان في ذلك! وبكلمة أخرى، فان السعودية لا ترى أية ضرورة أو "جدوى" في تطبيع دبلوماسيتها مع الدبلوماسية العراقية، بما هي نشاط دبلوماسي، اذ لو كان الأمر كذلك، لكان الأجدر والمنطقي تعيين سفير بمواصفات أخرى تماماً لطمأنة العراقيين، ويحمل تجربة دبلوماسية طويلة وكفاءة مشهودة، حتى يتمكن من "رأب الصدوع" التي تعمقت منذ 2003 على أقل تقدير، لا أن تدفع بسفير ملفّع بالشبهات ومتورط بملفات خطيرة، ولا يملك خبرة دبلوماسية (مدنية وليست عسكرية). كما لا يبدّد هذا التعيين مخاوف أغلبية العراقيين في أن يكون السفير الجديد بمثابة "منسق عمليات" لرفد الارهاب في العراق من مقر السفارة السعودية في بغداد، أو ان يكون مشرفاً على إدارة عملاء محليين لبلاده من الطائفيين وأيتام البعث المتحصنين في مركب المحاصصة أو ممن لهم حصانات من نوع آخر خارجها!
ينتاب المرء الغثيان وهو يرى هذا الاستسهال الدبلوماسي العراقي في الترحيب بتعيين السبهان، وكأن ماضي الأخير لا يحرك أية درجة من الحساسية لدى الخارجية العراقية، وهو العسكري المطارد بشبهات إدارة تنظيمات الارهاب التكفيري، التي تتصل بعض خيوطها بما يجري في العراق! بينما يفرض منطق الأمور أن "يشترط" العراق تعيين سفير ذو مؤهلات دبلوماسية مدنية (وبس)، ليطمئن - على الأقل - لنوايا "الشقيقة السعودية" في هذه الظروف الحساسة والعصيبة. فهل تلقت الدبلوماسية العراقية بروح رياضية ان تدفع لها الرياض بـ"سفير" هو عسكري متمرس بتنشئة وإدارة الارهاب لسنوات؟!
هناك حالات كثيرة رفضت فيها السعودية تعيين سفراء أجانب وعرب لمجرد ان أحدهم - مثلاً - كتب مقالة أو ذكر رأيه في مقابلة "تمس السياسة السعودية"! ومع هذه الحساسية السعودية في موضوع تعيين السفراء، هل من العقل أن نقرأ تعيينها السبهان بأنه خالٍ من الشبهات والأجندات والتصعيد، أو انه ليس بصفعة موجهة الى "التقارب مع الأشقاء" العراقيين؟!
لقد قدمت "المحكمة الجنائية الدولية" في العقود الأخيرة الكثير من المتورطين بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (تخطيطاً أو تنفيذاً) للمحاكم، كالتي تخص مجازر البوسنة وكوسوفو ودول أفريقية، وحتى تم اتهام رؤساء دول (كالرئيس السوداني)، ولو قُدّر أن يُقدَّم المتهمون لهذه المحكمة بتهمة اقتراف أمثال تلك الجرائم الارهابية في سوريا والعراق، فلن يكون ثامر السبهان بعيداً عن تُهم التخطيط، وسيحاكم كمجرم حرب، ويُذكر حينها انه شغل منصب سفير سعودي في العراق!
https://telegram.me/buratha